كُنتُ في قِمَّةِ الذهول عندما قَرَأتُ تاريخَ نظريةِ الكَمّ، وكان السَّبَبُ في ذهولي هو كيفيِّةُ استقبال الفيزيائييّن البارزين لاستنتاجاتِ النظريّةِ ومؤدى فلسفتها، بعد خُضوعها لمبدأ عدم اليقين الذي وَضَعَهُ هيزينبيرج وحَطَّمَ بهِ مبدأ الحَتميّة، الذي كانَ عَمودًا هامًّا في بناء الفيزياء الكلاسيكيّة وفيزياء آينشتاين.

كانَ مبدأ الحتميّة يقضي بأنَّ الكونَ بناء مُحكَم، يَسهُلُ التنبؤُ بحركاتِ مفرداته مُستقبَلًا، إذا تَوَفَّرَت المَعلومات اللازمة حاضرًا. ووفقًا لهذه الفلسفة البسيطة، شيَّدَ نيوتن صَرحَهُ العِملاق، ومِثْلَه فَعَلَ آينشتاين رُغمَ الاختلاف العظيم بين كلا الصَّرحيْنِ. أمّا مبدأ الّلا يقين الذي دَفَعَ بهِ هيزينبيرج، فإنّه ينُصُّ على أنَّ كُلَّ ما في استطاعةِ الفيزيائييّن إذا توَفَّرَت بين أيديهم كُلُّ البياناتِ اللّازمة، هو التنبُّؤ باحتمالات مُستَقبليّة لِمُفرداتِ كَوْنِنَا الشاسِع.

مدرسة كوبنهاجن

انقَسَمَ الفيزيائيُّون إلى فريقين بِسببِ هذا المبدأ الملعون، الذي حوَّل عَمَلَهُم في سَبرِ أغوارِ الكونِ إلى مُقامرة تحكُمُها الصُّدفة والاحتمالات. أمّا الفريق الأول فهُم أربابُ النظريّة الذين تُطلِقُ عليهمُ الأدبياتُ المُختصَّة اسم «مدرسة كوبنهاجن» وعلى رأسِهِم «نيلز بور»؛ وقد تَقبَّلَ هذا الفريقُ تَعَاليمَ الكمّ الجديدة وغرابتها بمُنتهى سَعَةِ الصَّدرِ. وأمّا الفريقُ الآخر فَقَد لَعَنَ النظريَّة في ثوبِها الجديد الذي يُزيِّنُهُ لا يقينُ هيزينبيرج، وكانَ على رأسِ هذا الفريقِ آينشتاين وشرودنجر؛ ولِكُلٍّ منهما أَقوالٌ خالدة تَعكسُ لنا ما ضاقت به صُدُورُهم وَقْتَئذ.

في ديسمبر/كانون الأول من العام 1926 كَتَبَ آينشتاين:

إنَّ لميكانيكا الكمِّ مِنّا أشدَّ الاحترام، لكنَّ هُناك صوتًا يَتردَّدُ بداخلي لا يزال يُلِحُّ عليّ قائلًا: إنَّ هذه ليست هي الحَقيقة، ومع أنَّ هذه النظريّة أضافت كثيرًا للعِلم، فإنّها لم تُقَرّبنا من معرفةِ طريقةِ الرّبِّ في تَصريفِ أمور الكون، وإنَّني من جِهَتي لستُ مُقتَنِعًا بأنَّها تَقومُ على إلقاء النرد أو شيءٍ من هذا القبيل.(1)

ولَقَد كَتَبَ ميتشيو كاكو: «وحتّى شرودنجر نفسه استاء كثيرًا وقالَ ذاتَ مرَّة إنَّه لو صحَّ أنَّ معادلاته لا تُقَدِّمُ سوى الاحتمالات فإنَّه نادمٌ على صياغتها».(2)

بَعْدما استمرَّ هذا الجدال العلميُّ طويلًا، انتصرت نظريّةُ الكمِّ انتصارًا ساحِقًا، وحَقَّقت نَجاحًا تَجريبيًّا لم تُحَققه نظريةٌ قبلها، حَتى استسلمَ الفريقُ الثاني تَمامًا وكتب آينشتاين «لقد بتُّ الآن مُقتنعًا بأن هذه النظريّة شيءٌ من الحقيقة».(3)

عالم «الاحتمالات»

هَكذا دَخَلَ مفهوم الاحتمالات إلى عالَم الفيزياء وأحكمَ السيطرةَ عليها، واضطُرَّ الفيزيائيون إلى قبوله والتعامل معه وإلّا دَفْنُوا رؤوسَهَم في التراب، وتجاوزتهم الفيزياء. وكانت هذه أوَّلُ نَقلةٍ في عِلمِ الطبيعة من اليقين إلى اللّا يقين، ومنَ النظام إلى العشوائية، ومن الدِّقّة إلى الاحتمالات.

كانَ العائقُ الوحيد أمام سيطرة فلسفة الكمِّ على فَهم العلماء آلية عمل الكون، هو نِسبيةُ آينشتاين الأنيقة والكَاملة، فبينما تتبنّى نظريةُ الكمّ مبدأ عدم اليقين وتُمهّدُ له السبيل لِحُكمِ الكون، كانت النسبيّة العامة تَلتزمُ بمبدأ الحتميّة، وتتنبأ بأماكن الأجرام والكواكب بمنتهى الدّقّة في المستقبل، دون الحاجة إلى الاحتمالات. ولمّا كانت كِلتا النظريتين «نظريةَ مبدأ»، أصابَ الفيزيائيين حُمَّى الازدواج، ففي النهاية، يستحيلُ أن يكون الكونُ يَعملُ وفقًا لطريقتين مُتناقضتين في الأصل، وبالتالي كان لِزامًا على العُلَماء مُحاولة التوفيق بين النظريتين.

تُخبرنا كُتبُ التاريخُ أنَّ آينشتاين قد مات قبل أن ينجح في دمج نظرية الكم في النسبية الخاصّة، وإعلاء رايةِ الحتميّة. ولكنّها تُخبرنا أن هذا الذي فشل في تحقيقه آينشتاين قد نَجحَ فيه العلماء من بعده عِنما سَلَكوا طريقًا مُعاكِسًا، وأخرجوا لنا نظريةً كمّيّةً للكهربيّة الديناميكيّة، ودمجوا النسبيّة الخاصّة بالكهربية الماكسويلّيّة تحتَ مِظلّةِ الاحتمالات وعدم اليقين. وهكذا فإنّه وللمرّةِ الثانية، تزداد سيطرةِ شبح اللا يقين على الكون وآليةِ عَمَلِه.

في آخر عقدين من القرنِ الماضي، قام مجموعة من الفيزيائيين بالانقلاب على فكرة الجسيمات النقطية كأساس مادي لكلِّ شيء، واستبدلوا هذه الجسيمات بأوتارٍ مُهتزّةٍ لها امتداد مكاني على عكس تلك الجسيمات النقطية! كانَ المُبَرِّر الوحيد لهذا الانقلاب هو مُحاولة العلماء لإكمال مُهمّتهم في إدخال نسبية آينشتاين العامّة في سِجنِ نظرية الكمّ الجديدة وبحراسةِ الاحتمالات واللا يقين، للوصولِ إلى نظريّةٍ وحيدةٍ يحتَكمُ إليها الكون في كلِّ تصرّفاته؛ على أن تكون هذه النظريّة الوحيدة لا علاقة لها بمبدأ الحتميّة البائد، ودقةِ التنبؤات المزعومة من آينشتاين ورفاقِه، ويكونَ النردُ هو الحاكم.

نظرية الأوتار

مع انتهاء القرن الماضي وبداية الحالي، بَزَغَ نجمُ نظرية الأوتار الوليدة، حتّى أصبحت أشهرَ النظريات الفيزيائيّة وأكثرها رواجًا، وأُنتِجت الأفلام الوثائقيّة والموادُّ الفيلميّة، والمُحاضرات التي تُخاطبُ العوامّ عن جمالِ النظرية الجديدة وكمالها وأنها هي نظرية كلّ شيء المُنتظرة. مهما بَحثتَ في حياتك، لن تجدَ نظريةً حَظيَت بدعمٍ إعلاميٍ عالميٍ مثل نظريةِ الأوتار. فَهَل حَقَّقَت نجاحًا ما، تستحقُّ به هذه الشهرة العجيبة؟

إنَّ نظريةَ الأوتار هي الحلقةُ الأضعفُ بين كلّ حلقاتِ تغليبِ جانبِ اللا يقين والاحتمالات على نظيره المظلوم، بل إنّ نظرية الأوتار كانت كافية تمامًا لِتثيرَ شكوك أي قارئ أو مهتم بفلسفة الفيزياء تجاه كل نجاحات مبدأ اللا يقين طوال القرن الماضي، فالنّظريّةُ لم تُحقّق تنبُّؤًا واحدًا، ولم تُختَبر اختبارًا واحدًا، فهي حتّى الآن مُجرّد معادلات رياضيّة مستعصية، لا تؤدّي إلى شيء، بالإضافة إلى أنّها قَلَبت الصورة التي كانت قد عدَلَها آينشتاين، وجعلت الفيزياء تقعُ في أسرِ الرياضيَّات، وأصبحت المُعادلات هي التي تقودُ الفيزيائيين، فلا يصلون بها إلّا لنتائج عجيبة، تزيد الطينَ بلّة، فهُناك أبعادٌ مكانيّة جديدة، وهناك عوالم خفيّة وأكوانٌ موازية، وربما يكون كوننا وليد الصدفةِ أيضًا! وغاب التصوُّرُ الفيزيائي الذي كان يُعدُّ بداية لكلّ نظريةٍ سليمةٍ، إذ يأتي التصوُّرُ الفيزيائيُّ في المقام الأول، ثم تأتي الرياضيات لِتُهذّبَ هذا التصوّرَ وتضعَه في إطارٍ مُحكم.

هل أخبركم بشرِّ من ذلكم؟ إنّ نظريّة الأوتار «العظيمة» تُحقّقُ التوافق بين النسبية العامة التي تقضي بنسيجٍ زمكانيٍ أملس، وبين نظريّة الكم التي تقضي بنسيج زمكانيٍ خشنٍ وهائجٍ ومُضطرب وذي «رغوةٍ كميّة»، بأن قالت إنّنا إذا استبدلنا الجسيمات النقطية بتلك الأوتار التي لها امتداد مكاني، على اعتبارها هي لبنات الكون الأساسيّة، فإنّ الوتر أكبر من أن يُظهرَ لنا الرغوة الكمّيّة! لأنّه ببساطة هناك حدود للدقّة التي يمكنُ أن نختبرَ بها نسيج الكون على المستوى المجهري! وبهذه الحُجّة تكتمل المسيرة، وينتظرُ اللا يقين استلام مقاليد الكون من خلال نظريّة وحيدة لا ندَّ لها.

ألّفَ الفيزيائيُّ «لي سمولن» كتابًا ضَخمًا يَنعي فيه فيزياء القرن الواحد والعشرين، وينتقدُ نظرية الأوتار انتقادًا شديدًا، وذكرَ فيه قولًا للفيزيائيّ الحائز على نوبل «جيرارد تهوفت» وهو يصفُ نظرية الأوتار:

بالفعل، لستُ مُستعدًّا حتى لتسميةِ نظريةِ الأوتار نظرية، ولكن بالأحرى هي نموذج، أو ربما ليست كذلك، إنّها مُجرّدُ حسّ باطني…، تخيّل أنّي أعطيتُك كُرسيًّا، بينما أوضحتُ لك أن سيقانه لا تزال مفقودة، وأنّ هناك مقعدًا له ظهر ومساند للأذرع ربما يتمُّ توفيرُهُ قريبًا، مهما يكن ما قدّمتُه إليْكَ، هل يمكنُ أن تُسمِّيه كُرسيًّا؟.(4)

أنا لن أتكلّمَ عن التسهيلات التي تُقدَّم لطلّاب هذه النظرية والمُشتغلين بها دون غيرهم، ولن أتكلَّمَ عن مُحاولةِ جُلُّ الفيزيائيين الإعلاميين إقناع الناس أنّ هذه هي النظرية المنشودة، أنا فقط أريدُ أن أسألَ سؤالًا مشروعًا: لِماذا يُصِرُّ مَن يُقدِّمُ لنا التاريخَ والعلوم على أن يأخذَنا من جانب النظام والدقّةِ والوحدة والتخطيط وجودةِ الصُّنعِ، إلى جانب اللا يقين والاحتمالات والصدفة وتعدُّدِ الأكوان، حتَّى لو بنظريّةٍ عَرجاء؟

المراجع
  1. ميتشيو كاكو، “كون آينشتاين”، ترجمة شهاب ياسين، كلمات للنشر والتوزيع، صفحة 136.
  2. المصدر السابق، صفحة 136.
  3. المصدر السابق، صفحة 139.
  4. لي سمولن، “مشكلة الفيزياء”، ترجمة عزت عامر، المركز القومي للترجمة، صفحة 25.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.