يبدو أن العنوان للوهلة الأولى يحيل إلى استشكال فلسفي، لأن الفلسفة كما هو معلوم تبدأ بتساؤل، وربما تنتهي بتساؤل، ومن الممكن ألا ينزّ بين السؤال والسؤال أي جواب. لكن المؤكد في الاستشكالات الفلسفية على مرِّ تاريخ الفكر، أنها تترافق أو ينتج عنها قلق ما، وهذا القلق غاية بحدِّ ذاته. يتزامن مع الرغبة بالتساؤل، أنَّ هذا الزمن الذي قامت بين أضلاعه ثورات عربية زمن حداثي، ومن المعلوم أنَّ تسارع الزمن أو تسريعه هو الثابت الوحيد في عصرنا الحداثي، ولهذا فالثورات العربية تطلب منا إجابات أو إنجازات أكثر مما تطلب منا تساؤلات، فالإنجاز السريع هو القيمة الوحيدة التي يتأتّى على ثورة في زمنٍ حداثي أن تقبض عليها.

لكن التعثر الذي أصاب الثورات العربية أنتج حالة من البطء في الفعل والفكر، والبطء حالة أصولية وتسمح بشكلٍ ما من أشكال التفلسف، فالتعثر يؤدي إلى رغبة ملحاحة بالتساؤل. وهكذا انقلب ما يجب إنجازه في زمن حداثي إلى ما يجب سؤاله في زمن متعثّر وبطيء. من صفات هذا البطء أنه يحفر في الجذور، أي أنه ليس تقدمًا إلى الأمام بل عودة إلى الخلف، والخلف مليءٌ بالفخاخ والتساؤلات واستنكاه رائحة الماضي، وإن كانت هذه العودة أشبه بالتغريبة ومليئة بالأحزان، إلا أنها مسؤولية واجبة على كاهل كل قَلِق.

كانت السرعة التي أنجزت فيها الثورة المصرية حالة خادعة، أما الثورة السورية فقد أحالت هذه السرعة إلى ركان وأجبرت العقل العربي إلى التوقف والتساؤل.

في المقارنة بين الثورة المصرية والثورة السورية، فإن السرعة التي أنجزت فيها الثورة المصرية رغباتها كانت حالة خادعة لكنها كانت متوافقة تماماً مع زمن حداثي رقمي تكنولوجي يعتمد على الإعلام الجديد ذي المنشورات التي لا تتوقف، ولا يتمكن حتى الزمن من ابتلاعها. لكن الثورة السورية التي لم تتمكن حتى اللحظة من إنجاز ما ترومه من حقوق، أحالت هذه السرعة إلى ركام وأجبرت العقل العربي إلى التوقف والتساؤل عن الجذور والأسباب والمهمة والهوية والرؤية والواقع العربي والقيم والفعل الشعبي والثقافة والظواهر الاجتماعية، بل التساؤل عن كل شيء.

الوعي بالمسئولية قبل أن يكون رغبة معرفية هو ضرورة أخلاقية، وهو ناتج أصيل من منتجات «مسؤولية الوعي» التي من الواجب أن يتصف بها كل مثقف. من مسؤوليتنا أن نتساءل، وأن نبحث عن أسباب الفعل العربي ودوافعه في التغيير، من مسؤوليتنا أن نتغرَّب ليُكثِّف الزمن شعورنا بمهمتنا التاريخية لاستكشاف ذاتنا. من مسؤوليتنا أن نحاول استعراف السؤال الوجودي الأول: من نحن؟ وما هي مهمتنا؟ وما هي هويتنا؟ وما هو التغيير الذي نناضل من أجله؟ وما هو النموذج الذي نريد صناعته وإقناع الآخر بأحقيتنا في تنفيذه وبنائه؟!

من صفات الربيع العربي أنه عربي؛ لكن عن أي عروبة نتحدث؟ فالكثير من المثقفين العرب الذين طالما وصفوا أنفسهم في الفضاء العام العربي أنهم «عروبيين» اصطفوا إلى جانب الآخر غير العربي. والكثير من اليسار العربي أو مخلفات الحقبة الناصرية التي تحصر تعريف العروبة بها، يحتقر أو يهمش جزءًا كبيرًا من العرب، ويقف مع الطغاة ويدعم القتلة. كعروبي، أعتبر أن سؤال المسئولية هنا هو سؤال أخلاقي ومعرفي، جانبه الأخلاقي سؤال عن مهمة المثقف وتموضعاته في المجتمع، وجانبه المعرفي سؤال عن عروبتنا ومعناها المفقود.

من سؤال المسئولية، المهمة التاريخية الملقاة على عاتق الشعوب العربية أمام الهجمة الشرسة التي يحاول بها الإيرانيون احتلال أربعة دول عربية: العراق، وسوريا، واليمن، ولبنان. وذلك بمحاولات مهووسة بالتغيير الديموغرافي والجيوسياسي في هذه البلدان. هذه المسئولية التي تحمي الجغرافيا العربية من أن تنتزع من أهلها المتجذرين فيها، وتحافظ على هويتها وثقافتها وتاريخها، وتواجدها الحقيقي والمنتمي إلى الحضن العربي الجامع وإلى الهوية العربية. سؤال المعنى في الحفاظ على الأوطان وذاكرة المكان والذات.

من سؤال المسئولية، سؤال القيم التي علينا أن نتحلى بها، القيم التي توحد العقل الجمعي للعرب وتضعهم أمام ذاتهم ومسؤولياتهم ومهمتهم في الحياة. سؤال العدل تجاه الآخر، والحرية للذات وللآخر، والمساواة بين الذات والآخر، والمواطنة داخل الوطن الواحد، والتعايش الذي يحمي الأوطان من الاختراق الداخلي، والانتماء للجغرافيا والتجذر في المكان الذي يدافع عن الحق بالبقاء والاستقلال والاستقرار. سؤال الاعتزاز والفخر والتصميم على إثبات الذات والتعبير عن الأصالة والعيش في الزمن المعاصر.

من سؤال المسئولية، سؤال الهوية، في ظل محاولات تسميم الصورة العربية بتنميط وتأصيل ظاهرة داعش فيهم، وإلصاق ظاهرة التطرف بالشخصية العربية. وهو سؤال التعدد الهوياتي ذاته، داخل الوطن الواحد والأمة والواحدة، والاقتناع بحالة التكامل التي ترسمها هذه التعددية، وتضفي بها تنوعًا جميلًا وتصنع منها سلمًا اجتماعيًا، بالإضافة إلى تعزيزها المنعة الداخلية وصدها هجمات التأليب والاحتراب الداخلي والتفتيت وزعزعة وجود الكتلة الاجتماعية ذات اللغة الواحدة والمصير المشترك. سؤال المسئولية في نهاية المطاف هو سؤال البقاء.