منذ النُّزول الأول للنَّصِ القرآني، كان النَّبيُّ يتلقى الوحي، ثم يخبرُ به الصَّحب الكرام، فيتلقون الآيات كما نزلت، ويدركونَ مراميها، ومعانيها، وأسرارها، وسبب نزولها، ثم يضعونها في مكانها من خلالِ توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها في مكانها المناسب من السُّورة.

اكتمل النزول الإلهي الخالد، وحُفظَ القرآن وفق ترتيبه المعهود، وعندما رحل النبي الكريم إلى ربه، رحل دون أن يفسِّر كل الآيات التي نزلتْ إليه تفسيرًا كاملًا كما هو متعارف عليه في أذهانِ القراء[1]، كتفاسير الأئمةِ مثلًا آية آية، إذ نزلَ القرآن بلسان العرب، وبيانهمُ الأدبي، وأسلوبهم الذي كانوا يستعملونه في الحِجاج، وطريقهم التي كانوا يسلكونها في الخطاب؛ ولهذا لم يكونوا بحاجةٍ إلى بيانِ معانيه، إلا ما أشكل عليهم، ولم يكن النَّبي صلى الله عليه وسلم بحاجةٍ إلى تبيين كل آية تنزلُ عليه، بيانًا مفصَّلًا كشرحٍ مستقلٍّ للنَّصِ القرآني، إلا إذا دعت الحاجة إلى بيانه. وتفسيره -عليه الصلاة والسلام- المبثوث في كتبِ السُّنة، ذكرَ فيه طرفًا من البيانِ والتَّفسير لبعضِ ما خفي وأبهم على الصَّحبِ رضوان الله عليهم.[2]

مسألة تفسير النَّبي صلى الله عليه وسلم لكلِّ القرآن مسألة مشتهَرة في الدَّرسِ التفسيري[3]، لا حاجة لبيانها هنا، إذ غرض هذه المقالة، التطرق لبعض الأسبابِ التي تنظر في عدمِ وجود تفسيرٍ نبويٍّ كاملٍ للنَّصِ القرآني.

وما ينبغي أن نؤكدَ عليه قبل بيانِ الأسباب؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم فسَّرَ القرآنَ كاملًا من خلالِ تطبيقاته العملية، وحياته بينَ النَّاس، وطرائقه في سبلِ العيش، وتنزيله الآيات بشكلٍ حيٍّ في جميعِ تصرفاته التي كانَ ينطلقُ فيها من أنوارِ الوحي الذي نزلَ عليه. ولا زال هذا التفسير الحي يلقي بضيائه وظلاله على كلِّ مفسرٍ للقرآنِ الكريم على امتدادِ الزمان.

كنتُ دائمًا أسأل نفسي: لو أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم فسَّر القرآن الكريم كاملًا، وأصبحَ لدينا نصٌّ إلهيٌّ، بجانبه كتابٌ آخر يفسِّر جميع المضامين التي وردت فيه. من قِبل الموحى عليه؟!

الإجابة التي كانت تخطر في ذهني بشكلٍ خاطف، أنَّ تفسير النَّبي سيكونُ ملزِمًا، والإلزام يفضي إلى قبول كل المعاني الشَّارحة للنَّص، وهذا القبول سيكونُ سببًا بشكلٍ أو بآخر في إهمالِ العقل وعدمِ إعماله؛ إذ ما الحاجة إلى تفسيرٍ وبحثٍ ونظر، وبين أيدينا كتابٌ شارح لكلِّ المعاني من قبل النبيِّ الأعظم، الأعلم بالوحيِّ ومضامينه!

وهذا الفهم طبيعي؛ لأنه ينطلقُ من مبدأ القداسة للنَّص القرآني وامتزاجه بالعصمةِ النَّبوية، فيلقي على قلب المتلقي الرَّوع من المخالفة، كما يُلقي التَّعظيم والإجلال، فلا تفسير أعظم من تفسيره عليه الصَّلاة والسلام.

وهذه الصورة التي ذكرناها من جهة الإلزام والتوقُّف؛ لا تتفقُ مع الآياتِ المتظافرة التي جاءت تحثُّ على التَّفكُّر والنَّظر والتأمل في النَّصِ القرآني، والدعوة الصريحة إلى التدبُّر، والاستنباط، وتثوير النَّص ليتواءم مع الأزمنةِ الممتدة!

ولما كان القرآن الكريم كتابًا خالدًا، نزلَ ليكونَ ختامًا لكلِّ الكتب، ومصدقًا لها، ومهيمنًا عليها، أدركنا أننا أمام نصٍّ قرآني أُريدَ له الخلود، لا الجمود في لحظةٍ زمنيةٍ معينة، وبالتَّالي لم يرد أن يكون هناك نصٌّ آخر شارحًا يكتسبُ هذه الصِّفة، وينازعُ النَّص الأصلي. وهذا ضربٌ من ضروبِ الحفظ الإلهيِّ لكتابه لو تأملنا.

ولأنَّ القرآن أُريدَ له أن يكونَ خاتمًا للكتب؛ وجبَ أن يكون نصًّا مطلقًا متجاوزًا للتاريخ، وجزء من إطلاقية النَّص للزمانِ والمكان أن يبقى هكذا من دونِ تفسيرٍ واحد.

بمعنى أنَّ الله جلَّ في عليائه أرادَ أن يكونَ خطابه عابرًا للزمانِ والمكان، من دون وجود خطابٍ تفسيريٍّ عابرٍ للزمانِ والمكان، ولهذا، «الاقتصار على تفسيرٍ محددٍ يصيِّر التَّفسير هو المتجاوز للزَّمان والمكان، وليسَ الخطاب القرآني نفسه».

ولو تأملنا المكتبة التفسيرية الكبرى؛ لوجدنا صنوفًا من التَّفاسيرِ المتعددة، مبينة وشارحة للبيانِ الإلهيِّ الخالد. ولن تجد عاقلًا يربطُ تفسيرًا بعينه بالقرآنِ الكريم كملازمٍ له في كلِّ الأزمان. وهذا ما جعل المكتبة التفسيرية تتجددُ في كلِّ وقت، وتظهر أنماطًا من التَّفسير تختلفُ في تناولها لما سبق[4]، وكل ما كتبَ سُخِّر لخدمةِ هذا النَّص المطلق العابر للزمانِ والمكان.

والسبب في هذا التجديد؛ باعتبار مفهوم التفسير مفهومًا متطورًا، وبالتالي ما يحتاج إلى شرح أو يكون غريبًا في وقتٍ ما قد لا يكون غريبًا في وقتٍ سابقٍ أو لاحق، لأنَّ التفسير قائم على جملةٍ من العناصر منها ثقافة المتلقي ومكنته اللغوية وعوامل أخرى!

وجزء من إطلاقيته أنه قابلٌ لإعادةِ التَّنزيل والتَّأويل في كلِّ وقت؛ بما يتناسبُ مع الأسئلةِ والإشكالات التي يطرحها كل زمانٍ ومكان.

استوقفتني جملة سمعتها في محاضرةٍ قرآنية منهجية، تطرَّقَ فيها المتحدث لدراسةِ طبيعة النَّص القرآني، قال فيها: «يمكن الحديث عن خاتمِ النَّبيين، لكن لا يوجد خاتم المفسرين». ثم علَّلَ ذلك بقوله: «يجبُ أن يبقى النَّص القرآني هو المعين الذي يرجعُ إليه كل أحدٍ في كلِّ زمانٍ ومكان». وهذه من حِكَمِ الله في إبقاء كتابه كمرجعيةٍ خالدة، دونَ التصاقه بكتابٍ شارحٍ واحد، ليكون قابلًا للتنزيل، لا مشكلةَ لديه في الاشتباكِ مع الواقع، والتعامل معه، وظهوره كمخلِّصٍ يحملُ حلول السَّماء الصَّالحة للتطبيقِ حتى قيام السَّاعة.

من الممكن أن نستدعي معنى «لا ينضب» في هذا السِّياق، باعتبار خلود النَّص القرآني، فعلى كثرةِ القراءة التي تناولته منذ القِدم. لكنه معينٌ متجدد، يعطي كل إنسان على قدر سعةِ الإناء الذي يغترفُ به، بحيث تتسع القلوب، وتشع العقول، وتشف الأرواح بمصاحبة ذلك الرُّوح العظيم، لتكون قدرتها على تشرُّب روح القرآن أكبر، وقدرتها على صحبته، والعمل به أوسع وأعمق.

وفي قوله تعالى: «ما نفدت كلمات الله»، عُلمَ من ذلك نفاد الأبحر كلها لأنها محصورة، فهي لا تفي بما ليس بمحصور، فيا لها من عظمةٍ لا تتناهى![5]. فهي باقية لم تنفد، ولم تأتِ لها نهاية. إنه المحدود يواجه غير المحدود، ومهما يبلغ المحدود فسينتهي؛ ويبقى غير المحدود لم ينقص شيئًا على الإطلاق. إنَّ كلمات الله لا تنفد، لأنَّ علمه لا يحد، ولأنَّ إرادته لا تكف، ولأن مشيئته سبحانه ماضية ليس لها حدود ولا قيود.[6]

وما ليس بمحصور؛ كلماتُ الله، والمعاني المستنبطة من كلامه. فهي لا حدَّ لها، ولا تخلَقُ عن كثرةِ الرَّد، ولا تنقضي عجائبها ودهشتها. والوقوفُ عليها توفيقٌ إلهي يهبه الله لمن شاءَ من عباده!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. المراد ما جاء من تفسير نبوي صريح لآية من الآيات، والمنقول عنه صلى الله عليه وسلم من هذا النوع قليلٌ جدًا إذا قيس بعدد الآيات المفسرة إلى عدد آيات القرآن. يُنظر: شرح مقدمة أصول التفسير لابن تيمية، د. مساعد الطيار، ص41.
  2. التفسير النَّبوي المعني به في هذه المقالة: «كل قول أو فعل صدر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في إرادة التفسير»، يُنظر: مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير، د. مساعد الطيار، ص139.
  3. يُنظر: التفسير والمفسرون، د. محمد حسين الذهبي (2 / 7).
  4. كالتفسير الموضوعي، والتفسير الاجتماعي، وغيرها من الأنماط المعروفة عند المنشغلين بعلم التفسير.
  5. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي (6 / 30).
  6. في ظلال القرآن، سيد قطب (6 / 15).