تحل الذكري الرابعة على حدث فارق في تاريخ جرائم الإبادة السياسية، والتي بدأت بفض اعتصامي رابعة والنهضة وفتحت بابًا جديدًا لمرحلة أعلى وأشد من القمع واستباحة الدماء والحقوق والحريات، والقضاء على مكتسبات ثورة يناير، وانحدرت معها حالة السلم الاجتماعي وخلقت حالة من الهوس الجماهيري، ولكن مع تدني الأوضاع الاجتماعية وتراجع الشعبية السياسية للسلطة من جراء الفشل الإداري الحكومي (اقتصادي وأمني)، ومع اقتراب تجديد الاقتراع الصوري للانتخابت الرئاسية؛ تستمر حالة الركود العام واللاحراك المقاوم في المشهد السياسي الثوري.

وعوضًا عن اللجوء إلي التفكيك والتحليل للتجربة المنصرمة والخروج برؤى نقدية متنوعة تثري الحياة السياسية الفكرية ويتشكل من خلالها رسم محدث مرحلي واستراتيجي، بعيدًا عن السقوط في الأخطاء البديهية والاستراتيجية المعتادة، ولكن الوضع على النقيض تمامًا، حيث أصبح المشهد في الوعي الجمعي للتيارات السياسية مجرد ذكريات نسترجعها ومهاترات جدلية عقيمة ونمط متكرر ومطابق لنفس ما حدث وقيل الأعوام السابقة!

وهذا الوضع يثير حافظتي على الدوام مع كل حدث استذكاري، ولكن تبقى النقطة الملحوظة و المشتركة بين أغلب التيارات المدنية والإسلامية تكمن حول الاتفاق في توجيه اللوم الزائد للشعب والجماهير وهيمنة خطاب الانسلاخ من سلوك ومواقف الجماهير الساكتة والمؤيدة للقمع والإقصاء الدموي، وتبلورت أسباب التراجع والهزيمة الثورية في الشعب الذي أصبح الواجهة الرئيسية التي تتلقى اللعنات وتستقبل وابلًا من أسهم السخط والتعالي، وإلصاق كامل المسئولية على عاتقهم، سواء كان الخطاب مباشرًا أو ضمنيًا، ولذلك أردت أن أفرد نقدًا يعبر عن طبيعة الجماهير وبديهيات التعامل معهم من منظور نفسي واجتماعي.


استهلال عن الخطاب للجمهور:

أرى أن الخطاب السياسي المعارض لا يملك متنا محددا لمخاطبة الجماهير أو القدرة على استمالة وعيها، وأعتقد أن ذلك بسبب ضبابية فهم طبيعة عقلية الجماهير، وأعتبر أن حمل الجماهير على الثورية وإجبارها على مخالفة طبيعتها المحافظة التي تميل إلى الاستقرار، وتنزع إلى الخضوع للقوة، من الطفولية والاندفاعية العاطفية، فوحدة الجماهير يحكمها شعور اللاوعي وهي خاضعة وراثيًا لعوامل حفظ البقاء، ومظاهر الانتفاضات والتمرد تعتبر شكلا عارضا لحياتهم ولها نسق آخر وارتباطات سببية من جدل الواقع، وحتى رغبات التغيير تاريخيًا في أغلبها تتوقف عند حد سطحي ولا تصل للجذور.

وهذا الموقف الذي يتجاهل ويتغافل موقع الجماهير وطبيعة تفكيرها يترتب عليه نقد ساذج، يساوي انتقاد الشعب بمثل انتقاد رجال السياسة والمهتمين بالشأن العام، واعتبارهم على درجة الوعي الشخصي المماثل لأهل الشأن، ويطلق حكما عاما على مواقف وأفعال الجماهير بالإجرامية دون الاستناد لمنهج في النقد والفهم.

وهذا الوصف وإن كان يصح ظاهريًا على مشاهد الجرائم والتحريض الشعبي والتأييد لكل أعمال الجرم، لكنه موقف غير مترابط بالوقائع والأحداث وطبيعة الصراع السياسي والمصالح، فالجميع يعتبر الشعوب هدفا استثماريا للربح وأغلب الخطابات تتعاطى مع العدد للنفع لا للغاية، ونجد كما هائلا من الشعارات التي تمجد الجماهير -الشعب هو القائد والمعلم- أما عند وجود الأزمة والهزيمة يصبح جهل الشعوب وهم أنفسهم العائق الوحيد.

ومن هذا المنطلق أردت أن ألفت النظر إلى ضرورة فهم وإدراك طبيعة وخصائص الجماهير حتى يتسنى وضع حكم وتحليل مناسب يستثمر في أدوات رفع حظر الوعي المجتمعي.


حول سمات وخصائص الجماهير وبواعث سلوكها:

وبالقليل من الإطناب بهدف التوضيح، نجد أن القانون والقيم الأخلاقية والدينية تمثل عوامل ضغط اجتماعي، تكون به رادعا وحاجزا أمام الفرد لكبح نوازع العدوانية، على ذلك نجد أن الأفراد الذين يرتكبون أفعالًا إجرامية يعون أنهم مذنبون، أما اختيارات الجماهير وحتى الأفعال التي توصف قانونيًا بالإجرامية أو قيميًا باللاأخلاقية، نجد أنهم لا يشعرون بأي ذنب، بل على العكس يتفاخرون بمواقفهم! ونجد أيضًا أن الميول الأخلاقية في المجتمع طبيعية، فقيم التراحم والتعاطف والشهامة والأمانة والصدق هي المثل العليا للشعب.

ولكن كيف يتناقض ذلك مع حالة ما بعد 30 يونيو! هل تحول المجتمع إلى النقيض فجأة! بالطبع هذا غير وارد؛ ولذلك وجب أن نلتفت إلى الجانب النفسي للجماهير، ونجد أن العامل المؤثر على توجه الجماهير وسلوكها يكمن في قوة التحريض وحجمه ومدى تأثيره، ومن أبرز سمات الجماهير شدة الميل للعواطف والمشاعر، فنجد حالة الهوس العام بتأييد الفض والقتل نابعة من شعور الواجب ومحاربة الإرهاب واعتقاد اختيار الصواب، وبالطبع ذلك يعبر عن مدى أثر نجاح الخطاب التحريضي، ويقول لوبون في سيكولوجية الجماهير:

«إن الانفعالات التحريضية المختلفة التي تخضع لها الجماهير يمكنها أن تكون كريمة أو مجرمة،بطولية أو جبانة، وذلك بحسب نوعية هذه المحرضات. ولكنها سوف تكون دائمًا قوية ومهيمنة على نفوس الجماهير إلى درجة أن غريزة حب البقاء تزول أمامها»

وطبيعة البشر أنهم يصارعون من أجل البقاء، وذلك يجعل الطابع المسيطر هو الحاجة للاستقرار والطمأنينة، ولذلك نجد أن من أهم الخصائص العامة لدى المجتمع انعدام روح النقد والشك، والعجز عن الاحتكام للعقل والمنطق؛ ولذلك نجد الجماهير أكثر قابلية لتصديق أي شيء ساذج، إذ يكون الخطاب العاطفي الأكثر استيعابًا لهم، لذلك يكون خطاب تملق الشعوب هو الأسلوب الخطابي الأكثر شيوعًا وذيوعًا، وينتج عن كل تلك السمات التعصب والاستبداد الجماهيري لكل خطاب يخالف طبيعتهم، ولا نعجب إذا انجرف الفرد لأفعال عدوانية تحت تأثير قوة العدد والكثرة.


التحكم بالجماهير وحوسلتها (تحويل الإنسان لأداة):

ولأن المنتصر هو الذي يحظى بالكتلة الحرجة (الجماهير) تنعم النظم البيروقراطية بالحظ الأوفر والقدرة العملية، لما تمتاز به فعالية تنميط وتبويب المجتمع وتدخل الدولة في كل شؤون ونشاطات الأفراد، وبالتالي المقدرة على خلق وتشكيل الوعي الجمعي وإضفاء الشرعية على السلطة بشعارات القانون والوطن والدين.

وهذا النظام الذي يعتمد على الانضباط المؤسسي (إداريين، موظفين، وجنودا) تم تحويله من السلطات الشمولية والاستبدادية إلى أداة مجردة من تحديد الفعل الأخلاقي وغير الأخلاقي، وفصل الحقيقة عن القيمة بتعبير «المسيري»، وينطلق نهج التحليل الاجتماعي لسلوك المواطنين المشاركين (موظفين وجنودا) في ارتكاب أفعال الجرم والإبادة اللاأخلاقي (النموذج النازي)، من رفض إرجاع الجرم على الميول المرضية والشاذة، وإذن فكيف شاركت المؤسسات الألمانية في عمليات الإبادة، وكيف يتحول أناس طبيعيون سلوكيًا إلى أساس للفعل غير الأخلاقي من قتل وإبادة!

وفي الإجابة النقدية للنظام البيروقراطي الحداثي يُسرد تحقق ثلاثة شروط لقتل الوازع الإنساني الأخلاقي وفصله عن الواقع.

1. تفويض استخدام العنف من خلال الأوامر الصادرة عن جهات رسمية قانونية.

2. تنميط العمل المؤسسي عبر ممارسات نظامية والتوزيع الجيد للأدوار.

3. تجريد ضحايا العنف من الصفات الإنسانية وإلصاق بعض التعريفات (أيديولوجي) وتكون حالة من التصنيف كـإطلاق ألفاظ مثل (خونة وعملاء وإرهابيين).

وبالطبع تخضع تلك الشروط لمبدأ عام يمثل الفضيلة الوحيدة التي تجعل البعد عن التقييم الأخلاقي للأفعال أمرا سليما، فـعندما تكون شعارات الانضباط المؤسسي توجه الجمع نحو الإخلاص التام للمؤسسة ونجاحها فوق أي اعتبار، وذلك الضبط والتنميط للأفراد داخل الهيكل البيروقراطي الذي يلوح بروح الولاء والتضحية بالنفس وإنكار الذات كفضيلة أخلاقية واجبة، وبذلك تلغي أي قرار وحكم أخلاقي آخر، وذلك مثل ما عبر عنه ماكس ڤايبر:


الارتباط الواقعي بين طبيعة الجماهير والنظام البيروقراطي العسكري:

«شرف الموظف في قدرته علي تنفيذ أوامر السلطات العليا بكل إخلاص، كما لو كانت الأوامر تتوافق وقناعته العقلية ولا يختلف الأمر إذا وجد الأوامر غير سليمة وذلك أعلى درجات الانضباط الاخلاقي وإنكار الذات!»

ولذلك تكون العقلية الإدارية هي نفسها التي لجأت لحل أزمة ما بعد الثالث من يوليو بالقتل العنيف وإخضاع مؤسسات الدولة لقواعد انضباط صارمة، دون أي إصغاء لصوت الضمير الأخلاقي، وذلك بعد عملية مركبة شملت شرعية الحكومة في التفويض من أجل الفض والقتل، واستطاعت بجهازها الإعلامي تصنيف الآخر (إرهابيين) بالإضافة إلى مساعدة من ضحايا الفض أنفسهم، ومن بعض السلوك الفردي، وذلك يوضح أن تلك المؤسسات بكل المصريين المشاركين بها لم يميلوا بأنفسهم للسلوك المريض والإجرامي، بل فُصِل عنهم إنسانيتهم وذواتهم؛ مما لا يسمح لهم بأن يحكموا على الإجراءات بأخلاقية أو غير أخلاقية، وأذعنت ضمائرهم إلى مجرد ترس أداتي في آلة ضخمة تحدد المصلحة الأخلاقية والفضيلة العامة، وتبقى الجماهير ضحية السيطرة من القوي الذي يتلاعب بفهمه لطبيعة الجماهير سيكولوجيًا واجتماعيًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. سيكولوجية الجماهير (غوستاف لوبون)
  2. الحداثة والهولوكوست (زيجمونت باومان)