يحكي الكاتب «رالف أليسون» Ralph Ellison في روايته «الرجل الخفي» Invisible Man عام 1952، عن تجربته كأمريكي من أصل أفريقي، على لسان بطل الرواية -لم يذكر اسمه- الذي يعيش في قبو منسي في مكان ما في نيويورك، معزول عن الأنظار، فيقول:

أنا إنسان من دم ولحم وعظم وألياف وسوائل… ولدي عقل على ما يدّعي البعض… لكنني غير مرئي… إنهم لا يرونني لأنهم ببساطة يرفضون رؤيتي.

إن المأزق الذي تشير إليه هذه الشخصية (موجود ولكنني غير مرئي) يتردد صداها إلى اليوم.

وفي الناحية الأخرى من العالم يحكي الروائي الهندي «بنيامين» Benyamin في روايته «أيام الماعز» Goat Days عام 2008، عن تجربته أثناء عمله في إحدى دول الخليج:

يدخلون ويخرجون… ولا أحد ينظر إلينا… وكأننا غير مرئيين بالنسبة لهم.

في كلا الروايتين يظهر البطلان كصوت بلا جسد ولا جوهر، وهو ما تفعله العنصرية من تسطيح وتجويف وإقصاء وتهميش واستقطاب، لدرجة يصبح معها الأشخاص غير مرئيين.

أعادت الأحداث العالمية الأخيرة والموت المؤثر لعدد من المواطنين السود الضوء على قضية العنصرية والتمييز العرقي مرة أخرى في جميع أنحاء العالم، إلاّ أن التمييز العنصري العرقي في مجتمعاتنا العربية والمجتمع المصري خصوصًا لا يبرز بصورته المعتادة كما في المجتمعات الغربية، نظرًا لقلة تباين الأعراق، فلم تعد العنصرية في مجتمعاتنا محصورة على العرق أو اللون أو الدين، بل تظهر العنصرية عبر اللغة والتعبيرات التمييزية ضد أطياف المجتمع.

يُستخدَم مصطلح «الصوابية السياسية» Political correctness في المجتمعات الغربية، ويشير إلى تلطيف وتهذيب مصطلحات اللغة، والرغبة في إيجاد طرق جديدة للتعبير اللغوي مقابل تلك التي تؤذي مشاعر وكرامة الفرد، وتنتهك حقوقه الإنسانية. (1) ولكن مسألة الصوابية السياسية في مصر هي أقل حدة، ويتم تجاهل هذا الموضوع ولا يُؤخذ على محمل الجد، فلا نشعر في مصر بالذنب تجاه كلمة زنجي (Negroid)، ولا يتم وصم كلمة نيجرو بتمثيلات اجتماعية تمييزية، كما لا توجد عقوبات على من يتعدون على المعايير الاجتماعية، وليس هناك تشريعات تتيح جلبهم إلى المحاكمة، أو الغرامة، أو الطرد من العمل، وما إلى ذلك.

لكن في لغة الحياة اليومية تتم ممارسة التحيز العَرضي، من خلال التعبيرات العنصرية، وهي المرحلة المتقدمة من مراحل الصوابية السياسية، فإذا كانت الصوابية السياسية تعني استبدال التعبيرات القاسية بأخرى أكثر مرونة، فإن التعبيرات العنصرية اللغوية تعنى بـ «الاعتداءات الصغيرة» Micro aggressions، وهي أعمال عنصرية صغيرة يمكنها تعزيز القوالب النمطية المرضية والمعايير الاجتماعية غير العادلة بين المجموعات المختلفة، من خلال وصمة العار واختلال توازن القوة (2)، ومن أبرز استخداماتها التعبيرات اللغوية العنصرية، وهي ممارسة خَفية لتطبيع العنصرية والتمييز، وتُؤسِس شكل مقبول من العنصرية اللغوية، ومن أهم دلالاتها التنميطات، والعنصرية الجندرية، والوصم اللغوي الاجتماعي.

التمييز اللغوي

مفهوم العنصرية اللغوية تم صياغته من خلال «بنديكت أندريسون» (1991) من خلال صياغته للمجتمعات المتخيلة، حيث يرى أن «تمثيل الدولة الحديثة أصبح ممكنًا بواسطة الهيكلية اللغوية المبني على المجتمع البدائي المتخيل، أي الذي يمكن تخيله إلى حد كبير من خلال لغته»، حيث يمكن التعبير عن التحيزات العنصرية باللغة، من خلال إدراج مفاهيم شعبية من الإرث الثقافي للمجتمع، وتطعيمها بإستراتيجيات تمييزية محددة مثل الأنوثة والذكورة التي تجعل العنصرية أكثر مواربة وأقل بروزًا.

ويرى أن اللغة كانت العامل الحاسم في ظهور دول شمال البلقان، حيث ظهرت اللغة البلغارية والصربية والكراوتية والسلوفينية كلغات أدبية شكّلت دولهم القومية فيما بعد، أبرزهم كان ظهور اللغة الأوكرانية كلغة أدبية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، والتي كانت عاملاً حاسمًا في تكوين الوعي الوطني الأوكراني وإقامة الدولة، بجانب التفتت التدريجي الذي لحق بالإمبراطورية النمساوية الناتج عن الصراع اللغوي العرقي. (3)

وبالتالي نستطيع القول إنّ للتحيز أو التفرقة العنصرية أثرًا ضمنيًا على لغتنا، كما أنّ اللغة تلعب دورًا حاسمًا في تشكيلهما، أيْ أنّ العلاقة ازدواجية، لذلك يؤثر التمييز اللغوي بجميع أشكاله على صحة ورفاهية الأفراد، والصحة العقلية والإجهاد والقمع بين المستهدفين من الأشخاص ذوي الهويات المهمشة، من خلال آليات الضغط التي تؤدي إلى ضائقة نفسية.

يرى عالم اللسانيات «نعوم تشوميسكي» Noam Chomsky أن القدرة التي لدى البشر لإنتاج وتفسير اللغة تحتوي على وفرة من التباين، ومن الواضح أن أشكال اللغة تحوي اللغة الثابتة، واللغة التمييزية، والاختلاف المتأصل بينهما، بمعنى أن هناك فرقًا بين محتوى الكلام والشكل الذي يتضمنه هذا المحتوى، فبينما اهتم علماء اللغويات باللغة الثابتة، ركزت مجالات أخرى على الاختلاف للغة التمييزية كنموذج غير متجانس بين المتحدثين، هذا الاختلاف هو الذي يصنع المعنى بين المتحدثين والمستمعين، في سياق التفاعل اللغوي، ويقول تشوميسكي:

إذا كنا لا نؤمن بحرية للتعبير للأشخاص الذين نحتقرهم، فإننا لا نؤمن بها إطلاقًا. (4)

قد تُؤخذ مقولة تشوميسكي لتبرير التمييز اللغوي وخطاب الكراهية -الذي لا نملك إلى الآن موقفًا واضحًا بشأنه- لكن الأفكار الأولية تثبت بالفعل أن بعض التعبيرات اللغوية عنصرية ومُحرِضة وتمييزية ومُهينة، ووجد تشوميسكي أن التباين اللغوي مقسّم على طول تسلسلات هرمية اجتماعية محددة ثقافيًا، وترتب العمليات اللغوية بشكل جماعي، وأن التباين اللغوي والاجتماعي هو ما يؤدي إلى توزيع رأس المال الاجتماعي بشكل مختلف، وهو ما يبني التسلسلات الهرمية والنظام اللغوي.

السؤال هنا: ما هو التميز؟ ومنْ له الحق في تقرير تلك الأشكال الخفية من التمييز اللغوي التي تحدث في الحياة اليومية باعتبارها اعتداءات صغيرة؟ وهل وضعها في مسار الصوابية السياسية هو الحل؟ وماذا عن النظرة الأوسع للقضية؟

لا ننكر أن فئات اجتماعية عديدة في مصر نالت حظها من التمييز اللغوي والأمثال الشعبية والتنميط بعيدًا عن الرصانة اللغوية. حيث تحتوي أنظمة اللغة على وحدات إدراكية تعزز التفاعل بين المحتوى اللغوي وقدرة الناس على استخدام الكلام لتحديد موقع أنفسهم والآخرين اجتماعيًا، أي إدراك المعنى الفهرسي، وتشير «الفهرسة» إلى الآلية التي يمكن من خلالها للمتحدثين استخدام متغير الكلام لتوليد معنى معين من خلال سياق معين، والذي يمكن للمستمعين من خلاله تعيين المتحدثين للفئات الاجتماعية ذات الصلة، وتوليد دلالات جديدة عبر دورة من الوحدات اللغوية الإدراكية، كمعنى مفهرس يتم تبنيه وقراءته من قبل المتحدثين الجدد بشكل متكرر (5).

على سبيل المثال، التمييز اللغوي بناءً على أساس النوع، حجم الشخص، مظهر الجسم، الطبقة الاجتماعية والاقتصادية، والتمييز على أساس القدرات البدنية والعقلية، والحديث يتشعّب ويطول في هذا المجال المُلغم حيث تطلق العبارات المفهرسة التي تجعل التعبيرات العنصرية «تُهم معلبة».

النزعة العنصرية في تعبيرات الحياة اليومية

تُطلَق التعبيرات العنصرية كاعتداءات مصغرة، من تعليقات وإيماءات مباشرة أو غير مباشرة، بقصد أو غير قصد، تنقل رسائل سلبية نحو أفراد أو مجموعة مهمشة، وتظهر في اللغة بمساحات يصعب ضبطها، ويتم ممارستها يوميًا بصورة معتادة، وعلى هذا المنوال تصبح الفهارس أنماطًا بارزة للتعبير، مؤشراتها العلامات والصور النمطية التي تتكون داخل نظام لغوي.

أتناول القليل من النقاط الأكثر إشكالية، على وجه التحديد أكثر مظاهر الاعتداءات الصغرى كاستدعاء الأسماء، والتمييز العنصري، والوصم السلبي، والفظاظة، والتقليل والانتقاص، وتجاهل مشاعر وتصريحات الأفراد المستهدفين، وإنكار الهوية، وما إلى ذلك:

  • التمييز على أساس حجم الشخص (Sizism): على أساس حجم وشكل جسم الفرد، أو الوزن (يتجلى في الغالب كإغاظة لفظية، وصم تعبيري جسدي، التحرش اللفظي، والإيذاء العلائقي مثل الاستبعاد أو الرفض الاجتماعي خاصة ضد الأشخاص الذين يعانون من زيادة الوزن عادة)، التعبيرات ذات النزعة العنصرية مثل (سمين/ة، كتلة دهون… وهكذا).
  • التمييز ضد شخص على أساس مظهر جسماني (Lookism): التمييز على أساس المظهر الخارجي، فالمظهر يؤثر على مختلف جوانب الحياة البشرية مثل فرص العمل والعلاقات الاجتماعية، واختيار الشريك، خاصة ضد الأشخاص المختلفين جماليًا، هذه الاختلافات تخلق نوعًا جديدًا من التمييز اللغوي على أساس المظهر العام للفرد، وإصدار الأحكام على الآخرين على أساس مظهرهم الجسدي، على سبيل المثال، لون شعر، تصفيفة الشعر أو الوشم، العبارات الشائعة مثل (بيئة، لوكال، سرسجي، سيس، وهكذا).
  • التمييز على أساس الطبقة الاجتماعية (Classism): النخبوية في اعتقاد أن الناس من طبقات اجتماعية أو اقتصادية معينة متفوق على الآخرين، لأنها يمكن أن تؤذي أو تسيء إلى الأشخاص ذوي الرواتب المنخفضة، وتمثيلات ساخرة، فتظهر تعبيرات التمييزية ضد سكان الجنوب (الصعيد)، يتم تعيين سمات شخصية وصوتية على أنها أقل تعليمًا أو ذكاءً، العبارات الشائعة مثل (فلاح، صعيدي قفل، معدوم، محروم، واطي، وهكذا).
  • التحيز الجنسي أو التمييز على أساس الجنس (Sexism): وخاصة اضطهاد النساء من قبل الرجال، تجدر الإشارة إلى أن قضية النوع الاجتماعي تبرز مع خيارات الإناث للمهن، يتفوق توظيف الرجال لأنه غالبًا ما يكون لدى رب العمل صورة نمطية قديمة يهتم بها العامل الذكور حياته المهنية، على عكس امرأة تفكر في الأسرة والأطفال، عبارات شائعة مثل (ست بمئة راجل، عانس، فشلّة، بومة، سودة، كارتة).

بالتالي تصبح  نوايا الأشخاص هي مصدر كل الاعتداءات التمييزية اللغوية، وكل تلك التقييمات الاجتماعية والفهرسة اللغوية تقدم نتائج على نظام تمييزي أكبر، وهي ببساطة الإصدار الخفي من المعنى الأوسع للعنصرية اللغوية، فالتمييز القائم على أساس اللغة هو بالأساس تمييز ضد الهوية، والإقليم، والتاريخ، والنوع، والطبقة الاجتماعية، وقد تكون السلطة الاجتماعية المؤسسية هي مصدر هذا التمييز، لا يعني هذا إغلاق الأفواه في مواجهة تلك الاعتداءات أو القبول بتخفيض قيمة المكانة الاجتماعية للفئات المقصودة، حيث يبدو أن التقييمات الاجتماعية تتأثر بمدى تعيين المتحدثين للوحدات اللغوية التمييزية في التسلسلات الهرمية الاجتماعية والتي ينتجها كل فرد ضمن هذه التسلسلات،  وأن التناول النقدي لتلك التعبيرات والاعتداءات اللغوية نابع من مسئوليتنا عن تلك النظم اللغوية التي تخلقها مجتمعاتنا.

قد تكون اللغة واللسانيات من اختصاص اللغويين الاجتماعيين وعلماء الأنثروبولوجيا اللغوية أمثال تشوميسكي، إلاّ أن تناول التمييز العنصري في خطاب الحياة اليومية يمكن أن يُحدِث فرقًا عندما يتعلق الأمر بالعنصرية اللغوية، وكل فرد يجب أن يرى ذلك كواجب أخلاقي واجتماعي يوفره امتياز التواجد داخل المجال العام الاجتماعي، فاللغة التي سيتحدث بها الأطفال هي تلك اللغة التي يسمعونها من حولهم، فأشكال التمييز اللغوي تؤدي إلى ظهور سياقات جديدة للعنصرية، خاصة تلك التي تقدم نفسها عبر الإنترنت وفي البيئات الرقمية. أيضًا ضرورة تحدي الصور النمطية، وعدم التسامح تجاه التعبيرات العنصرية التي تُستخدم لنقل دلالات سلبية وقانونية وثقافية للتعبيرات التي تم تكريسها بمرور الوقت، فتصبح موجودة ولكن غير مرئية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. Lozhnikova, V. V. “Political correctness in the English and Russian languages.” Язык в сфере профессиональной коммуникации.—Екатеринбург, 2020 (2020): 843.
  2. Williams, Monnica T. “Microaggressions: Clarification, evidence, and impact.” Perspectives on Psychological Science 15.1 (2020): 3-26.
  3. Bonfiglio, Thomas Paul. “Language, racism, and ethnicity.” (2007): 624-625.
  4. Craft, Justin T., et al. “Language and Discrimination: Generating Meaning, Perceiving Identities, and Discriminating Outcomes.” (2020).
  5. I bid.