قبل أيام نُقل إلى المستشفى، حجة الإسلام علي أكبر هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني، ليُعلن خبر وفاته الأحد، الثامن من يناير/كانون الثاني 2017، لتُطوى واحدة من أبرز صفحات الجمهورية الإيرانية الجديدة التي تأسست على قواعد الثورة الإسلامية 1979.

الرجل الذي تقلد أغلب المناصب المتاحة في النظام الحديث للجمهورية، وزيرًا للشؤون الداخلية، في العام الأول للجمهورية (1979-80)، أول رئيس للبرلمان الإيراني (1980-89)، ثم قائدًا أعلى للجيش الإيراني (1988-89)، ثم رئيسًا للجمهورية الإسلامية لدورتين اثنتين (89-1997)، انتخب عضوًا في مجلس الخبراء، المعني باختيار مرشد الثورة الإسلامية، وظل بداخله لما يزيد عن ثلاثين عامًا حتى طواه الموت، بدأ فيه رحلته في العام 1983، اختير رئيسًا للمجلس لأربع أعوام (2007-2011)، شغل كذلك منصب رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام منذ العام 1989 حتى تُوفي، وفي صيف عام 2009 فقد منصبه كإمام لجمعة طهران.

يًعتبر إذن أحد أهم مهندسي النظام الإيراني، وركنًا ركينًا داخل البنية الأساسية للجمهورية الوليد بعد الثورة، لكنه ما لبث أن عُزل تدريجيًا لأن طموحاته تعارضت مع السيطرة شبه الكاملة التي فرضها خامنئي على النظام السياسي في إيران. وفيما يلي عرض لأبرز المحطات في حياة الرجل الراحل.


الصعود المبكر

http://gty.im/89199515

وُلد حجة الإسلام علي أكبر هاشمي رفسنجاني لعائلة زراعية غنية، يوم 25 أغسطس/آب 1934، في قرية «بهرمان»، وهي من ضواحي مدينة رفسنجان، بمحافظة كرمان، جنوب شرقي إيران. بدأ رفسنجاني دراسته في مدرسة دينية محلية، ثم غادر قريته في سن الرابعة عشر، لمتابعة تعليمه الديني في مدينة قُم المقدسة.

أكمل تعليمه في حوزة قم على يد علماء كبار، مثل آية الله حسين البروجردي، وآية الله روح الله الخميني، وآية الله شهاب الدين المرعشي النجفي، وآية الله محمد حسين الطباطبائي. بدأ نشاطه السياسي بشكل جاد منذ 1961، وقد سار على نهج مفجر الثورة الإسلامية آية الله الإمام روح الله الخميني، حيث كان من أنصار الإمام الخميني المخلصين، وهو ما ضمن له تواجدًا بارزًا مع اندلاع الثورة. اعتقل من قبل جهاز الأمن «السافاك»، بسبب نشاطه السياسي 7 مرات وقضى خلالها 4 سنوات و5 أشهر في السجن.

نفي الخميني إلى باريس، ولعب رفسنجاني دورًا محوريًا مع غيره في تأليب الناس على الشاه التائه، اندلعت الثورة، وبدأت قصته في السلطة، مستندًا لعلاقته الأصيلة بالمرشد الأعلى، آية الله الخميني، ولدوره في الثورة من بدايتها.


رفسنجاني: الرجل الذي يخشاه خامنئي

يقول المؤرخون إن خامنئي لم يعرف رجلاً بصلابة رفسنجاني ولا دهائه، ولم يخف رجلاً كما خافه. معلومٌ أن رفسنجاني هو الذي دبر لتقليد خامنئي المنصب الأكبر في إيران، وكان الخميني الراحل قد اختار مجلسًا للإصلاح الدستوري لتحديد المرشد الثاني في عمر الجمهورية الإسلامية، وكان النص الدستوري ملزمًا لهم باختيار فقيه أعلى، إلا أنهم وبإشارةٍ من رفسنجاني حددوا خامنئي مرشدًا للثورة.

متعللين بأن خامنئي لديه المقومات اللازمة لقيادة الأمة، من الأمانة والتقوى، والشجاعة، والقدرات الإدارية، والتمكن من قضايا العصر الحديث، وكان خامنئي حينها يشغل منصب الرئاسة؛ وعليه تم تعديل الدستور، ونُصب خامنئي مرشدًا أعلى للثورة، بينما ترشح رفسنجاني للرئاسة واعتلى الحكم في أغسطس/آب 1989. {راجع كتاب: تاريخ إيران الحديثة – تأليف: أروند إبراهيميان}

ويقول د.علي نوري زادة، المحلل السياسي الإيراني ورئيس مركز الدراسات الإيرانية العربية في لندن، لـ«الشرق الأوسط»: إن «رفسنجاني صنع خامنئي»، ويوضح فكرته قائلًا إن: «الجميع يعلم أن خامنئي لم يكن مؤهلاً حينها لأن يصبح قائدًا للثورة بوجود عدد من كبار آيات الله، لكن رفسنجاني ذهب إلى مجلس الخبراء وخاطب الحضور قائلاً: سألت الخميني في أواخر أيامه ماذا نفعل بعد رحيلك؟، فأجابني: لا تخافوا فخامنئي بينكم!، فحصل الأخير على أصوات 54 عضوًا من أصل 80 من أصوات مجلس الخبراء، وهكذا أصبح مرشدًا أعلى».

القيادة المشتركة للبلاد بين الرجلين اتخذت منحنى مخالفًا لما سار عليه الخميني، فينما كانت السياسات الحمائية في الاقتصاد حاضرةً وبقوة في عهد الخميني، فتح الرجلان الطريق في وجه التحرر الاقتصادي، وتبدل الحديث الثوري الذي كان منصبًّا في الأعوام التالية لرحيل الشاه، على التقشف والقناعة، إلى حديث مغاير.

ففي خطبة متلفزة للأمة، ذكر خامنئي بعد توليه سلطة البلاد، أن «الإمام علي رضي الله عنه كان مالكًا زراعيًا ناجحًا، وعندما لم يكن يقاتل من أجل الإسلام، كان يمكث في الوطن ليزرع ملكيته بكل حرص، وكان رضي الله عنه يرتدي أفضل ملابس لديه حينما يقوم بالوعظ».

انفضت الشراكة بين الرجلين، وظهر الخلاف الأول بينهما في حديث لرفسنجاني، أثناء زيارة له للعاصمة الصينية بكين، أبدى خلاله الإعجاب بالنموذج الصيني للتنمية الاقتصادية، وتحدث عن خفض الدعم للمواد الغذائية، والوقود والبنزين، وتقليص الدعم المالي للمؤسسات الدينية، ووضع هذه المؤسسات تحت إشراف الدولة، وخصخصة الشركات التي أُممت عام 1979.

رحل رفسنجاني عن السلطة، تاركًا البلاد غارقة اقتصاديًا في ظل الحصار الاقتصادي الأمريكي على خلفية أحداث السفارة، وأزمة الرهائن، وكذلك من جراء حرب الـ8 سنوات مع العراق، لكنه تركها وهي تحاول النهوض.


رفسنجاني: صانع الزعماء يرحل في لحظة حاسمة

http://gty.im/175573646

كونه سياسيًا محنكًا، يُعزى إليه ترتيب البيت الإيراني الداخلي منذ مراحل التأسيس، وكما أسلفنا؛ رتب الرجل لخامنئي قيادة البلاد الدينية، وضمن لنفسه الرئاسة لفترتين، ولم يمنعه من الثالثة إلا النص الدستوري.

رتّب من بعده لانتخاب خاتمي، ففي الانتخابات الرئاسية عام 1997 شارك أكبر ناطق نوري في الانتخابات كتحصيل حاصل، على اعتبار أنه الرئيس المقبل لإيران؛ فكل المؤشرات تدل على أن خامنئي اختاره للمنصب. حتى إن صحيفة (كيهان) المحافظة نشرت خبرًا عنوانه «المرشد يفضل ناطق نوري». لكن رفسنجاني رفض ذلك ودعا إلى انتخابات نزيهة، وقال في خطبة الجمعة في الأسبوع الأخير قبل الانتخابات: «لن أسمح بأي تزوير في الانتخابات ومن يفوز بأغلبية الأصوات سيكون رئيسًا للجمهورية»، في تحدٍّ ضمني لرغبة المرشد الأعلى، وهكذا وصل خاتمي إلى سدة الرئاسة بدورتين من 1997-2005.

حاول رفسنجاني العودة إلى الرئاسة في انتخابات عام 2005، لكنه خسر في مواجهة مع المتشدد أحمدي نجاد، الذي حظي وقتها بدعم آية الله خامنئي. وفي انتخابات الرئاسة الماضية، كان للإصلاحيين مرشح واحد وهو محمد رضا عارف، والذي وجّه انتقادات لروحاني، قائلًا إنه من الصعب اعتبار روحاني إصلاحيًا.

وهذا الحديث في جوهره صحيح، فروحاني في بنيته التكوينية مخالفٌ لبنية الإصلاحيين. روحاني عضوٌ بارز في جمعية رجال الدين المقاتلين المحافظة، التي تأسست قبل عامين من اندلاع الثورة الإسلامية في عام 1979. وقدّم الدعم في هذه الانتخابات لروحاني، الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني.

لذا وفي ظل الاستعداد لانتخابات 2017، يعتبر رحيله ضربةً قوية لروحاني، الذي يخوض غمار المنافسة بأوراق ضعف كثيرة، إذ لم يحقق سقف الآمال الذي رفعه مع إتمام الاتفاق النووي في يوليو/تموز 2015، وظل معلقًا بين التشدد والإصلاح، فلا هو تمسك بالمشروع النووي كسابقه، ولا هو تنعّم بالانفتاح الاقتصادي المأمول.


2009 وما بعدها

صحيح أن رفسنجاني لم يكن ضمن صفوف الحركة الخضراء، بل واعتبر حينها -بصريح العبارة- الثورة الإسلامية خطًا أحمر، لكن مطالبها لم تخرج عما يروّج له الرجل كثيرًا، وهو ما جعل سهام المتشددين من رجال الدين تنهال عليه على إثرها. فمثلًا، نجد المساعد الأمني السابق لنجاد، النائب المتشدد روح الله حسينيان، يتهم زعماء المعارضة، ذاكرًا بالاسم مير حسين موسوي ومحمد خاتمي ورفسنجاني، بأنهم «أصغر من أن يكونوا قادرين على مواجهة النظام»، وقال: «نحن اليوم نقف مقابل تيار باطل له جذور في أمريكا وأوروبا والقوى غير المتدينة التي تسمى بالإصلاحية».

ضُيق على رفسنجاني عقب الاحتجاجات، وعزل من منصبه كإمام لجمعة طهران في صيف 2009، كذلك مُنع من الترشح لفترة ثانية كرئيس لمجلس الخبراء، وجرت توقعات بعزله من مجلس تشخيص مصلحة النظام، لكنها لم تحدث، وبقي رئيسًا له حتى وفاته.

لم يغب اسم رفسنجاني عن أي حدث مفصليّ في إيران، كان دائمًا رقمًا صعبًا في المعادلة الإيرانية، ولم يكن من السهل احتسابه على تيار بعينه، فالرجل متدين، يحمل درجة آية الله، تربى في مدرسة قُم مع الإمام الخميني، دعم الإصلاحيين مؤخرًا، وكان رمزًا للاعتدال بين التيارين.

اختلف رفسنجاني نسبيًا في موقفه من الأحداث في سوريا مع الموقف الرسمي للدولة، آملًا في التوصل لحلول سلمية تحفظ حياة المدنيين، وتحمي المنطقة من خطر الإرهاب. ورغم أن علاقة طيبة تربطه بالمملكة العربية السعودية جعلت الملك عبد الله بن عبد العزيز يزوره في منزله، إبان زيارته التاريخية لإيران، عندما كان وليًا للعهد، إلا أنه انخرط في الصراع الأخير بين البلدين بتصريحات حملت الكثير من التهكم بحق المملكة.


أبرز أفراد عائلته

عُرفت ابنته فائزة في عالم السياسة، كأبرز أفراد أسرته وأكثرهم نفوذًا ووصاية في الداخل الإيراني، وكانت عضوًا سابقًا في البرلمان، وتتزعم أيضًا إحدى أكبر الحركات النسائية في إيران، كما ترأست اتحاد الرياضة وامتلكت إحدى الصحف الإخبارية التي تم حظرها فيما بعد. لم تعترف فائزة بانتخابات 2009 والتي دارت شكوك حول صحتها وخرجت في تظاهرات منددة لفوز أحمدي نجاد بولايته الرئاسية الثانية، واعتقلت على إثرها عدة مرات حتى نُفذ بحقها حكم بالسجن في سبتمبر 2012 لستة أشهر.

أما ابنه مهدي، الابن الرابع، كان قد شارك في الحرب العراقية الإيرانية وأصيب فيها بجراح. وفي عام 1994 أسس شركة هندسية للأجهزة البحرية والإنشاءات تابعة لوزارة النفط. وتولى مهدي إدارة تصدير الغاز في وزارة النفط عام 1999، وبعد تأسيس منظمة تحسين استهلاك الوقود عام 2000 تولى إدارتها. ساند والده في حملته الدعائية لانتخابات الرئاسة عام 2005، وترأس بعدها مركز أبحاث جامعة أداد الإسلامية، وهو أحد أعضاء مجلس الأمناء.

وفي سبتمبر/أيلول 2012 اعتقلته السلطات الإيرانية بعد عودته من الخارج قادمًا من بريطانيا، ووجهت له اتهامات بالتجسس ونقل معلومات حساسة إلى أجانب وإرباك النظام الاقتصادي والفساد المالي أثناء توقيع عقود نفطية. كما تتهمه السلطات مع شقيقته فائزة بالمشاركة في احتجاجات عام 2009 التي اندلعت بعد الإعلان عن فوز نجاد بولايته الرئاسية الثانية. وأفرجت عنه السلطات في ديسمبر/كانون الثاني 2012.


وختامًا، شكل رفسنجاني رقمًا مهمًا في معادلة الداخل الإيراني، وكانت له تجربة سياسية مليئة بالتفاصيل، فهو الذي أصر على الخميني بقبول قرار مجلس الأمن بوقف الحرب مع العراق، وهو الذي تفاوض سرًا مع الأمريكيين للإفراج عن رهائن محتجزين في لبنان، مقابل صفقة أسلحة مهربة بأمر من الرئيس رونالد ريجان للجمهورية الإسلامية، عُرفت بعدها بفضيحة إيران جيت. صنع الرجل رؤساء وزعماء، وبينما كان يرتب خليفةً لخامنئي المريض، عاجله الموت.