(1)

– هي حالة استثنائية، عيب خلقيّ نادر.

ألقى محمّد نظرة سريعة نحو أخته، ليستبين وقع الكلام على وجهها الممتقع بالوجوم والصمت.

– ما الذي تقصده يا دكتور شريف؟ فصّل، أرجوك.

خرجت رغدة من غرفة الفحص قبلها ببضع دقائق، هذا لقاؤها الثاني مع الدكتور شريف. إذ جمع لها الطبيب الشهير عدداً من أساتذته وتلاميذه ليستشيرهم في تشخيص الحالة. ورغم صعوبة الموقف وحرجها الشديد، شجّعتها رغبتها القوية في فهم حالتها على إجراء الفحص، وخفّف عنها حضور ممرضة لطيفة أمسكت بيدها طوال الوقت.

– باختصار… يا أستاذ محمد… وللأسف… الآنسة رغدة لا تملك رحمًا.

– ما الذي تقوله يا دكتور؟ وكيف يكون هذا؟ رغدة صبية مثل كل الصبايا.

– وأنا لم أقل غير هذا، الآنسة رغدة بنت مثل كل البنات، لكن لم يتكوَّن لديها رحم وهي جنين في رحم أمها. قد شككتُ في الموضوع منذ أول زيارة لكما في عيادتي، لكنني أردت أن أتأكد، لأن التشخيص صعب في مثل حالتها، ولا يمكن إجراء فحص داخلي. ولهذا جمعت أكبر الاستشاريين في طب النساء في «القصر العيني». وللأسف، أجمعوا أن تشخيصي صحيح.

وضع محمد يده على يد شقيقته وقد امتلأت عيناه بالدموع، وبقيت دموعها هي في سِترها.

فتح باب الشقة، وأشار إليها بالدخول قبله. لم تنبس بكلمة طوال الطريق، ولم تنفع محاولاته استدراجها لأي حديث وهما ملتصقان على مقاعد الترام. تباعدت كلماته حتى صمت تماماً. ماذا يمكن أن يقول أخ لأخته في مثل هذا الموقف؟ هو نفسه مفجوع، فكيف هي؟

(2)

عندما طلبت منه أمه أن يصطحب أخته إلى القاهرة، لم تُبيِّن له السبب. اكتفت بالقول إنّ عليها إجراء كشف عند أمهر طبيب نساء في البلد، وأسكتته سريعاً حين دسّت في يده أوراقا نقدية لم يرها مجتمعة من قبل في حياته. ففهم أن الأمر جدي، وأن لا معنى لاعتراضه على زيارة عيادة نسائية، فقد وضعت أمه في يده توفير عمرها وربما كُلفة دفنها.

شقته من غرفة وصالة، خرج منها زميله سامح لأسبوع إكراماً للضيفة الجديدة، وخرج منها غازي لثلاث سنين إكراماً للبلاد القديمة. تقع الشقة الصغيرة في شارع جانبي قرب الدرب الأحمر.

اختارتنا الشقة ولم نخترها، بحثت هي عن فقراء يليقون بها.

ظلّ غازي يردّد منذ دخلها أول مرة.

لم يكن محمد فقيراً، كان بمقدوره، أو بمقدور أبيه، أن يستأجر شقة أوسع وأقرب إلى جامعة القاهرة، لكنه ما كان ليترك الرفاق. سامح الخارج من المخيم بهدوء والمنطلق نحو المستقبل بعزم، يقترب من الشيوعية بقدر ما تسمح له ظروفه وأحلام الخلاص، فلا يتعدى الحدود ولا يسمح لها أن تتعداه. وغازي ابن غزّة المدينة، مثله، لكن غازي جريح لا يشفى وهائج لا يهدأ، شرب الكتب الحمراء كلها فصبغته بلونها هو وأفكاره، وأفكاره لا تنقطع ولا ترتاح ولا تريح.

فَقْر غازي كان جزءاً منه، لم يكن مُعدماً مثل سامح، لكن فَقْره أصبح عقيدة يصعب الخلاص منها. وقد اختلطت العقيدة وتماهت مع البلاد الضائعة ومع مخيمات اللاجئين ومع صورة الغزاة في شوارع غزّة وعلى شواطئها، فكم يتحمل ذهن شاب في السابعة عشر حينها؟ يحاول ترتيب هذا كله تحت إجابة واحدة، مرّ وقت طويل. قد بدأ غازي صغيراً وجر معه صديقه في تيار فائر ملأهما نشوة وأملاً وعملاً… ومنشورات.

(3)

خرجت رغدة من الغرفة وجلست قرب الطاولة حيث كان يضع محمّد رأسه متطلّعا إليها.

– سيخرج غازي من المعتقل قريباً.

– وكيف عرفتِ؟

– ألم يُخرِجوا الآخرين الأسبوع الفائت؟

همهم محمد:

– غازي ليس كالآخرين، لم يكن يوماً.

– بل سيخرج، ثلاث سنين تكفي، ما جريمته؟ لا أحد يحب الاشتراكية مثله، لا أحد يحب البلاد مثله، لا أحد يحب الوطن العربي مثله. أنا وأنت نعرف.

يعرف، فهو منْ يعرف. بعد اعتقال غازي أعاد ترتيب أحداث السنين السابقة ليفهم، لماذا تعتقل السلطات المصرية الشيوعيين والإخوان وغيرهم من الغزيين. ووجد أنهم رفضوا -هم فقط رفضوا- التوطين، ورفضوا الاحتلال الإسرائيلي أثناء العدوان، ورفضوا التدويل، لا مكان للرافضين تحت الشمس.

ما الذي نجّاه هو من المعتقل؟ فصوته كان دائماً منخفضاً كغالبية البرجوازيين ولو اتشحوا بالحُمرة، أم أن صلات أبيه الحاج نديم هي التي أنجته دون علمه؟ لا يهم، لم يُرِد أبداً أن يكون في السجن، أبداً.

خجل هو وسامح لكن كليهما ارتاح أن اعتقال غازي جرى في غزة وليس في القاهرة. أمّا الآن فـ رغدة مشغولة بغازي وليس بمصيبتها، وهو أخوها، هو منْ جنى عليها. ماذا سيقول لأمه؟

– لديك همُّ أكبر من غازي يا رغدة.

– لا أريد الكلام، أرجوك.

– لماذا؟

– لا شيء يُقال.

– مسموح أن تبكي، أن تحزني… لم تنطقي حرفاً لا في عيادة الطبيب ولا هنا. هذا رد فعل غريب…

توقّف عند هذا، وفهم أنه قطع حداً ما كان له أن يقطعه.

– ماذا تريد يا محمد؟ أن أبكي وأصرخ وأسقط على الأرض ويُغمى علي؟ ردّ فعل غريب؟ وهل هناك قالب للحزن عليّ الدخول فيه الآن كي تفهم أنت، وكي تفهم أمي من بعدك؟ وكل خاطِب سأرفضه؟ وكل زميلة في المدرسة سأسُكِتَها؟ سامحني يا أخي أنني سحبت منك دور البطولة في مرضي وعاهتي.

تلا كلامها صمت حاد، شقّه محمد بصعوبة.

– لم أقصد شيئاً من هذا، لم أقصد أبداً. كلّ الذي أردت هو أن أساعدك. سامحيني سامحيني…

ما إن أنهى كلامه حتى كانت بين يديه تبكي وتتلوّى ألماً وحسرةً.

بعد يومين طرق غازي باب الشقة عند المساء، وهما يشربان الشاي مع سامح ويتحدثون عن تأجيل العودة إلى غزّة، بعد وصول الأخبار المبشرة بإطلاق سراح فوج جديد من المعتقلين. فتح محمد الباب فدخل العائد وهمس قائلاً:

– أريد العودة إلى البيت يا رفاق.

(4)

نامت ليلتها في الصالة وهما في الغرفة الداخلية، ورحلوا مساء اليوم التالي على عجل. في الطريق الطويل إلى البيت صمت ثلاثتهم معظم الوقت. وفي القطار ما بين القاهرة ورفح، جلست رغدة على مقعد مقابل لـ محمد وغازي وبقُربها امرأة غريبة. تعمدت أن تجلس مباشرة مقابل غازي قرب النافذة، كي تستطيع أن تنظر إليه وتتأمّله، لم يعد هو نفسه، خبا الفتى. هذا ما ردّده أخوها أيضا كلّما استطاع أن يهمس في أذنها دون أن يسمعه صاحبه. وفي أوّل وقفة استراحة عند الفجر، نزلوا جميعاً وابتعد بهم محمد عن باقي الركاب. عليه أن يتكلّم، أن يقول لهما شيئاً، الشهادات من السجون قليلة وصعبة، لكنّ غازي قوي أو كان قوياً. عليه أن يتحدث معها، تركهما محمد لجلب بعض الشراب غامزاً أخته بأن تحاول إقناعه بالكلام.

– كيف أنت غازي؟ لم تقل لي شيئاً منذ رجوعك.

– رغدة، لست مستعداً للكلام بعد.

– أفهم، لكني قلقة عليك.

لم يردّ عليها فاستمرت.

– كنت ألتقي أختيك سعاد وليلى، أمّك لم تتوقف عن البكاء يوماً.

– أرجوكِ، لا أريد الكلام في هذا.

– لكن من حقي أن أطمئن.

– لا شيء يُطَمئِن.

– انكسرتْ؟ هل انكسرتْ؟ هل ينكسر منْ هو مثلك؟ فماذا نقول نحن؟

– رغدة أرجوكِ مرة أخرى، لم أنكسر، أنا بحاجة لبعض الوقت أو لكثير من الوقت، لا أعرف. الطرق اختلطت عليّ، في يوم سأحدّثك بكل ما جرى، عندما أفهمه. فإن كنت على عجلة لا تنتظريني.

هل ستستطيع هي أن تحدّثه بكل ما جرى؟ لم يعِدها بشيء غير الحب، لكنها لم تكن بحاجة إلى أن يعدها. كانت توقن دون دليل أنه سيتزوجها كنهاية طبيعية للحب، خافت من موقف أبيها تجاه غازي، ولكنه الآن قد يُرحِّب إذا عرف بنقصها.

منذ كانت في السادسة عشرة وهي تجلس مع محمد وغازي في غرفة أخيها، فيها نضجت على أيديهما لتصبح رفيقة، بتشجيع من محمد وتلقينه. كان الاثنان يتستّران على اجتماعاتهم من أمهما قدر المستطاع، أبوهما مشغول بمحلات البقالة وتأمين تعليم أولاده الخمسة، محمد أصغر الشباب وتليه رغدة، آخر العنقود وسُكّرة البيت. دعاها محمد لأول مرة لتستمع لرفيقه غازي بتحريض من الأخير، إذ يجب تحرير النساء وتعليمهن، ومنذ اللقاء الأول سلّمت عقلها وقلبها لغازي.

 لم تعد الأمور في غزة كما كانت عندما تركها الرفاق مرغمين، قد انسد الأفق عليهم تمامًا. بعد اعتقال غازي، تلقّت هي ومحمد إنذاراً واضحاً لا لبس فيه من أبيهما، أن اللعب قد انتهى، ولم يَزِدْ ولم يوضِّح، لكن الجو العام كان يُصادق على قوله، هناك أشياء انتهت ولن تعود.

بعد أن أنهت الثانوية تم تعيينها معلمة في الابتدائية، وما بقي في القلب فقد حُبس فيه، وما صاغه العقل كتمه العقل بنفسه. اكتفت بالشعر والأدب قراءةً وكتابةً، ترمز إلى غازي دون أن تفصح. دخلت أمها حالة من الهلع تحسب شهراً بعد شهر ما الذي يجري لابنتها الوحيدة، تجرّها جرّاً لعيادات الأطباء بكتمان شديد، ووصل الأمر إلى زيارة الدايات مع بذل المال لضمان السرية، ولكن دون فائدة. ثم اقترحت هي السفر إلى القاهرة، فقد تعالت وتيرة التسريح من المعتقل، وأمّلت نفسها بعلاج يليه لقاء شاعري في القاهرة.

(5)

مر شهران على عودتهم، وتفضيلاً للسلامة لم يأت غازي لزيارتهم في البيت، لكن قدوم محمد في إجازة من التعليم كان سبباً كافياً لاجتماعهم من جديد. عاد غازي إلى نشاطه الحزبي بالتدريج وبسرية، أظهر الخمول والكسل لكن الجذوة بقيت مشتعلة. راقبته رغدة من بعيد وعرفت أنه يُكابر، فلو كان بركاناً ما كان ممكن أن يستمر في الظروف القائمة. ما كان لأحد أن يستمر فإمّا الرحيل عن الأرض أو الرحيل عن الذات.

اجتمع ثلاثتهم في غرفة محمد، جلست رغدة على طرف السرير وجلس غازي على الطرف الآخر مُسنِداً ظهره للحائط، بينما اتخذ محمد مقعده قبالتهما واضعاً ذراعيه على ظهر الكرسي المقلوب وسانداً وجهه بكفيه.

– أتعلم كيف تكون الهزيمة؟ أو… أو… أو علّ السؤال الأصح هو كيف لا تكون الهزيمة؟ فهي ليست خسارة المعركة، هي ليست أن ينتصر عليك خصمك ولا أن يأخذ أرضك ولا أن يُحوِّلك لاجئاً. الهزيمة هي أن يستطيع أحدهم أن يسحب منك المعنى، الهزيمة أن يسرق أحدهم قصتك وأن يمزقها، الهزيمة هي أن تُوقن أن لا نهاية لما أنت فيه، لا نهاية سعيدة ولا نهاية تعيسة.

غرزت رغدة نظراتها في وجهه، وخطر لها خاطر غريب. إنه فارغ، إن غازي فارغ تماماً، مثلها. لم تُخِفها الفكرة ولم تؤلمها، بل اجتاحها وهج أمل مجنون. كل مخاوفها من ردة فعله كانت سُدى، فكلاهما قد عاد من القاهرة وهو غير نفسه. اقتربت منه، اقتربت كثيراً. ستُخبره، ستُخبره الآن وسيتزوجان وسيعيشان الفراغ معًا. كاد وجهها يصطدم بوجهه المندهش من دنوها منه لهذا الحد، وما أن فتحت فاها لتتكلم حتى سمعت صوت محمد يسبق صوتها.

– القصة ليست أنت ولا أنا، نحن بضع كلمات فيها، فعلينا أن نُحرِّرها منّا وأن نُحرِّر أنفسنا منها، هزائمنا يا صديقي هي نصيبنا وليست نصيب الآخرين.

تجمدت رغدة قرب غازي، ومحمد يرقبها متعجباً من جلستها بهذا القرب، سألها غازي بلطف:

– رغدة، هل تريدين قول شيء ما؟

– نعم أريد… عن النهايات… منْ أقنعك في الأصل أن هناك نهايات خارجك؟ من أوهمك؟ فلا نهاية إلا نهايتك، كما أن لا بداية إلا بدايتك. ونعم لدي ما أخبرك به.

(6)

وقفت رغدة قرب زوجها غازي، تناولت بضع أوراق من حقيبتها ومدت بها لسامح.

– عليك تقديمها للضابط على السفينة بنفسك وبعيداً عنّا، أعتقد أنّ هذا آمن لنا جميعاً، ثم أنت معك تأشيرة المنحة الدراسية إلى لندن، فطريقك مفتوحة يا رفيق.

قال محمد بأسى:

– لا أصدق أنكم تتركوني دفعة واحدة، كلكم.

عانقته رغدة للمرة العاشرة في الساعة الأخيرة.

– نرجو أن تكون إقامة قصيرة ونعود إلى غزة.

هبّت نسمة ريح باردة في ذلك الصباح الربيعي في مرفأ الإسكندرية، أسرعت أفواج الرُكّاب الأخيرة نحو الباخرة المُتجهة إلى قبرص، وكان عليهم أيضاً أن يُعجِّلوا باللحاق بهم. فودّعوا محمداً، وبقي هو واقفاً يرقبهم حتى اعتلوا ظهر السفينة وتأكّد أنهم مروا بفحص التأشيرات دون مشاكل. فلسطينيون ومن بينهم خريج معتقل سياسي، الحمد لله. كم هو سعيد أنهما تزوجا، غازي ورغدة، وكم هو سعيد بسفرهما إلى «براغ» لبدء حياة جديدة.

اتجهت رغدة مباشرةً إلى حافّة الباخرة، أطلت على محمد وبعدها بلحظات قليلة بدأت الباخرة بالتحرك. انضم إليها غازي وسامح، وأخذوا يُلوِّحون لرفيقهم الباقي على الرصيف. استدارت السفينة واختفى محمد.

– ها قد اقتربت «براغ» ولقاء الرفاق والعمل يا غازي.

أطرق غازي ثم أجابها:

– اقتربنا من لندن يا حبيبتي، نحن في الطريق إلى لندن مع سامح.

– لا أفهم ما تقول.

– أتذكرين حديثنا في الطريق إلى غزة من المعتقل؟  ألم أقل لك إنني في يوم سأحدّثك بما جرى؟ ها قد أتى اليوم، بعد سنتين.

– ما صلة حديثك هذا بـ لندن؟ هل محمد يعرف بهذا؟

– وأيُ صلة! تركنا له رسالة سيجدها غداً في الشقة. محمد سيعرف وسيفهم.

اختفت اليابسة تمامًا، فنظرت رغدة شرقًا حيث تصعد الشمس ببطءٍ وقوة.

– وهل ستفهم غزة؟

– ستفهم، هي أيضاً ستفهم.

«انتهت»

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.