في عالم مثالي من السياسة النقدية التقشفية؛ على الدولة مضاعفة فواتير الكهرباء والمياه والغاز، وزيادة الضرائب القائمة بما في ذلك الضرائب على الدخل والشركات والممتلكات والمبيعات وأرباح رأس المال، وفرض المزيد من أنواع الضرائب الجديدة كالضرائب العقارية وضريبة القيمة المضافة، فضلاً عن استحداث العديد من الرسوم تجاه الخدمات التي تُقدمها الدولة؛ كتسجيل عقود الإيجار والزواج والطلاق والميلاد والوفاة ورسوم السجل التجاري وزيادة رسوم الحصول على خطوط الهاتف وكذلك فواتير الاستهلاك الشهرية.

وبالمطابقة على حال المواطن المصري، نجد أنه بالفعل يعيش بتلك المثالية التقشفية المتشددة.


الطبقة المتوسطة تدفع ثمن الإصلاح

وافق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على إجراء عدد من الإصلاحات الاقتصادية في إطار حزمة قروض يتم الحصول عليها من صندوق النقد الدولي، بلغت 12 مليار دولار. وبالفعل منذ توقيع مصر على اتفاقية صندوق النقد الدولي وإدخال الإصلاحات، تضاعفت الاحتياطيات الأجنبية، وعاد الاستثمار الأجنبي- ببطء – وبدأ النمو الاقتصادي في التعافي.

ووجدنا إشادات من المجتمع الدولي – وعلى رأسه اقتصاديو صندوق النقد والبنك الدولي – بتلك الإصلاحات، وخطة الحكومة لحماية الفقراء من تداعيات تنفيذ تلك الإصلاحات، لكن ذلك لم يساعد المصريين من ذوي الدخل المتوسط، وهم يمثلون نسبة لا تقل عن 60% من المجتمع المصري.

ويمكن القول إن الأثر السلبي الأكبر لتلك الإصلاحات يقع بالأساس على عاتق الطبقة المتوسطة في مصر، فتخفيض قيمة الجنية المصري في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وخسارة العملة لأكثر من نصف قيمتها دفع التضخم إلى تسجيل أعلى مستوياته فوق 30% في صيف العام الماضي 2017، وذلك مع ارتفاع أسعار الطاقة، وفقًا لخطة رفع الدعم عن الطاقة.

وفي المقابل، زادت الأجور من حوالي 15 إلى 20% خلال العام الماضي، علمًا بأن تلك الزيادة قد طُبقت فقط على القطاع العام أي نحو 6-7 ملايين موظف فقط. فأبناء الطبقة المتوسطة – التي اختفت بشكل كبير في الوقت الراهن – أصبحوا يخشون من أي أحداث طارئة قد يتعرضون لها، لعدم وجود ما يكفي من الأموال لمواجهتها.

فمن كان يذهب لشراء السلع الأساسية لعدة أيام مقابل 100 جنيه، أصبح يذهب بضعفي المبلغ ولم تعد تلك الكمية تكفي للمدة ذاتها. كذلك أصبح هناك صعوبة في مواجة أي مشكلة أو أعطال قد تحدث بأجهزة المنزل، وبالتالي أصبح المواطن في الطبقة المتوسطة غير قادر على العيش بتلك الرفاهية – المحدودة – التي كان يتحلى بها في وقت سابق.


التقشف: سياسة ذو حدين

«سياسات الإصلاح الاقتصادي» ليست وليدة تفكير الحكومة المصرية، بل كانت تنفيذاً -دون أي اعتراض- لقوالب السياسات المُعدة مُسبقًا من قبل صندوق النقد الدولي، وذلك حتى يوافق الصندوق على منح الدولة القرض المذكور سلفًا، علمًا بأن القصد من القرض كان لاستخدامه في إحداث تطور شامل في العملية الاقتصادية، والتصنيع وقطاع الأعمال، وليس من أجل سداد مستحقات الشركات الأجنبية كما يتم حاليًا.

والغريب في الأمر أن صندوق النقد – الذي يفرض على مصر تلك السياسة التقشفية بحجة إنقاذ الاقتصاد ودعم الموازنة – هو ذاته الذي يُحذر كبار الاقتصاديين لديه من أن سياسات التقشف يمكن أن تضر أكثر مما تنفع، وذلك في نقد للعقيدة النيوليبرالية التي هيمنت على الاقتصاد على مدى العقود الثلاثة الماضية.

ففي مقال كتبه المستشار القانوني لدى الصندوق «جون ماكدونيل»، ذكر أن الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي يرون أن ارتفاع معدلات عدم المساواة كان سيئًا بالنسبة للنمو، وأنه يتعين على الحكومات استخدام الضوابط للتعامل مع تدفقات رأس المال المزعزعة للاستقرار.

وأشاد فريق صندوق النقد الدولي ببعض جوانب أجندة التحرير التي أطلقها رونالد ريغان و مارجريت ثاتشر في ثمانينات القرن الماضي، مثل توسيع التجارة وزيادة الاستثمار الأجنبي المباشر. ويرى هؤلاء أن السياسات النقدية المتشددة تخلق نوعًا من عدم المساواة، مما يؤدي بدوره إلى إلحاق الضرر بمستوى النمو الاقتصادي واستدامته.

فتكلفة التقشف قد تكون أكبر بكثير من الفائدة، والسبب هو أنه، للوصول إلى مستوى منخفض من الديون، يجب رفع الضرائب التي تشوه السلوك الاقتصادي بشكل مؤقت، أو يجب خفض الإنفاق الإنتاجي، أو كليهما. وقد تكون تكاليف الزيادات الضريبية أو تخفيضات الإنفاق المطلوبة لخفض الديون أكبر بكثير من مخاطر الأزمة الاقتصادية الناجمة عن ارتفاع الديون والعجز في الموازنة.


تجارب دولية ناجحة: السياسات التوسعية في مواجهة التقشف

على عكس السياسات التقشفية المُتبعة في مصر وبعض الدول العربية، هناك ما يُعرف بالسياسات التوسعية أو سياسات التيسير الكمي، وهي سياسة نقدية توسعية حيث يشتري البنك المركزي مبالغ محددة سلفًا من السندات الحكومية أو غيرها من الأصول المالية من أجل تحفيز الاقتصاد وزيادة السيولة في الأسواق.

هل هناك تجارب ناجحة لاستخدام السياسات التوسعية؟

نعم، استخدمت اليابان هذه السياسة في العقد الأول من القرن الحالي، واعتمدها الكثير من العالم المتقدم خلال فترة الركود الناتج عن الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في العام 2008. وفي الوقت الحالي يُنهي مجلس الاحتياطي الاتحادي الأمريكي رسميًا تلك السياسة، بعد أن صرحت «جانيت يلين» رئيسة البنك الفيدرالي، بأن البنك سيبدأ في تجريد نفسه من الكم الهائل من الأصول المالية التي اشتراها خلال العقد الماضي، وذلك بعد أن نجحت تلك السياسة في انتشال الاقتصاد الأمريكي من بؤرة الركود وعودته مرة أخرى للانتعاش.

وجدير بالذكر أنه عندما بدأ التيسير الكمي في الولايات المتحدة، كانت هناك توقعات واسعة بحدوث نوع من التضخم المفرط في ظل الإنفاق الحكومي المرتفع. وهذا أمر منطقي لأن طباعة المزيد من الأموال من شأنه أن يقلل من قيمته، لكن على الرغم من كل التحذيرات الصاخبة، لم يحدث هذا التضخم الكبير أبدًا.

وفي الوقت ذاته، تلاشت الأخطار الأخرى المتوقعة للتسهيلات الكمية، مثل فقاعات الأصول وعدم الاستقرار المالي. وأدى التيسير الكمي إلى خفض أسعار الفائدة وتحرير رأس المال في الولايات المتحدة، وشجع على زيادة مطردة في الرغبة في المخاطرة، مما ساعد أسعار الأسهم الأمريكية على الارتفاع بشكل ملحوظ منذ عام 2009. كما زاد التيسير الكمي من الميزانية العمومية للاحتياطي الفيدرالي بشكل كبير، وتراجعت البطالة.

وبينما يبدو أن حقبة التيسير الكمي في الولايات المتحدة قد انتهت، فما زال البنك الفيدرالي يتوخى الحذر بشأن رفع تكاليف الاقتراض، بالنظر إلى التباطؤ في التضخم في الولايات المتحدة. أي أن هناك تخوفًا من تبني أي سياسة من شأنها أن تخنق الاقتصاد مرة أخرى.

ماذا فعل التقشف باليونان؟

بشكل رئيسي، فشلت تدابير التقشف في تحسين الوضع المالي في اليونان، لأن البلاد تعاني من نقص في الطلب الكلي، وهذا ما ستؤول إليه الأوضاع في مصر مع تدني الأجور. فمن الناحية الهيكلية؛ تعد اليونان بلد الشركات الصغيرة وليس الشركات الكبيرة، لذلك فهي تستفيد بصورة قليلة جدًا من مبادئ التقشف، فتلك الشركات الصغيرة لا تستفيد من ضعف العملة، لأنها غير قادرة على أن تصبح مُصدِرًا، أيضًا كما هو الحال مع الشركات المصرية، التي لن تستفيد من خفض قيمة العملة لأنها ليست مُصدِرًا كبيرًا للأسواق العالمية.

فبرنامج التقشف الذي فرضته المؤسسات الأوروبية بمساعدة صندوق النقد على اليونان، ضاعف مشكلة اليونان من نقص الطلب الكلي، حيث أدى خفض الإنفاق (تقليص الأجور والمعاشات) إلى انخفاض الطلب الإجمالي، الأمر الذي جعل ثروات اليونان الاقتصادية طويلة الأجل أكثر جفافًا، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الفائدة. مما يؤكد أن العلاج الصحيح لحالة الاقتصاد المُتأزم هو تقديم مجموعة من الحوافز قصيرة الأجل لدعم الطلب الكلي، مع إصلاحات طويلة الأجل للقطاع العام وإدارات تحصيل الضرائب.

ونتيجة مما سبق، عاودت اليونان الدخول في حالة ركود منذ الربع الرابع من عام 2015، وظلت أزمة الديون المزمنة آخذة في الارتفاع، وسئمت الحكومة اليونانية من التقشف، حتى اضطر صندوق النقد الدولي بالدفع باتجاه تخفيف الديون كوسيلة أكثر فعالية واستدامة لتحسين الآفاق الاقتصادية لليونان.

كيف نجحت السياسات التقشفية في الأرجنتين؟

مرت الأرجنتين – ثالث اقتصاد في أمريكا اللاتينية – بأزمة إفلاس في العام 2001، اضطرتها لاتباع السياسة التقشفية ذاتها التي تطبقها الحكومة المصرية، وكانت تلك السياسات قاسية على المواطن الأرجنتيني حيث كان المواطنون يعيشون على ضوء الشموع لتوفير نفقات الكهرباء.

لكن الأرجنتين اتبعت طريقة مختلفة، فقد أعلنت أنها لن تدفع شيئًا من ديونها حتى تحقق نهضتها الاقتصادية أولاً، إلى الحد الذي دفع بعض البنوك والمؤسسات الدولية إلى المطالبة بتوقيع عقوبات دولية على الأرجنتين لتهربها من تسديد الديون.

وكان من أهم أسباب نجاح الأرجنتين في إعادة هيكلة ديونها هو السير عكس تدابير التقشف التي روج لها صندوق النقد الدولي، حيث أعادت الدولة تأميم القطاعات الإنتاجية الرئيسية مثل الطيران، والمعاشات التقاعدية، وآخرها النفط. وزادت من الحماية الاجتماعية وتحويلات الدخل إلى الفقراء، وخفضت بدرجة كبيرة حدة الفقر في المجتمع بزيادة الأجور الحقيقية، وخفض عدم المساواة في الأجور.

فتلك التجربة تُثبت أن هناك حياة أفضل بعد التدني الاقتصادي والوقوع في فخ المديونية، وأن التقشف ليس أفضل طريقة للخروج من الأزمة. لذلك، على الرغم من أننا لن نعرف أبدًا كم يساعد التسهيل الكمي في دعم الاقتصاد الحقيقي، إلا أننا نعلم أنه ليس الخطر الذي كان يعتقده كثيرون في يوم من الأيام. فقد يساعد أو لا يساعد، لكنه على الأرجح لا يضر.

ويجب أن يكون نجاح التيسير الكمي في بعض التجارب الدولية، وفشل السياسات التقشفية في بلدان أخرى، درسًا مهمًا لصانعي السياسات في مصر. فلابد أن تعي الحكومة أن مزيدًا من التقشف، يعني قليلًا من الطلب، ومن ثَمَّ قليلًا من الإنتاجية، وبالتالي انعدام الرغبة في الاستثمار، حتى يقع الاقتصاد في حالة من الركود، لن تنجح معها سياسات التقشف على الإطلاق.


سياسات تقشفية بديلة

بعد أن قامت الحكومة باستحداث ضريبة القيمة المضافة، وسمحت بتحديد سعر الصرف من قبل قوى السوق، وخفّضت دعم الوقود والكهرباء. يظهر تساؤل هام:

هل كانت هناك سياسات تقشفية بديلة لا تزيد من معاناة المواطن المصري؟

الإجابة هي: نعم… كان هناك حلول أخرى وسياسات بديلة.

فقد اعتقدت الحكومة أن تحرير سعر الصرف سيمنح الجنيه المصري المزيد من القوة والثبات أمام الدولار، لكن ذلك الأمر لم يحدث، ولم يجن المجتمع سوى مزيد من الارتفاع في الأسعار، خاصة تلك السلع والخدمات المرتبطة بالدولار.

وعمليًا، فإن سعر العملة المحلية يتم تقويته من خلال عدة طُرق، أهمها: زيادة الإنتاج المحلي، وتخفيض حجم الواردات، وتقوية القطاع التصديري، وخلق مزيد من القنوات الجديدة القائمة على تصنيع المستورد، وزيادة الجودة فى المنتجات والخدمات، والعمل بجدية على الاستفادة من الاكتشافات البترولية.

وتلك ليست وسائل يتم تحقيقها بين عشية وضحاها، لكنها تحتاج إلى مجهود كبير، فتشغيل محركات الاقتصاد وزيادة الإنتاجية بحاجة لمزيد من جذب الاستثمارات، وهو أمر يحتاج إلى عوامل سياسية أكثر منها اقتصادية، حيث إنه من المتعارف عليه أن رأس المال جبان بطبعه يبحث عن بيئة أكثر استقرارًا وأمانًا ودعمًا للمشروعات.

إضافة إلى أن أثر تلك العوامل يظهر على مدى زمني طويل، ومن ثَمَّ يحتاج إلى إدارة اقتصادية أكثر حكمة تعي معنى ثمار التنمية المستدامة دونما الاستعجال، والسعي وراء إنجازات وهمية بلا جني ثمار حقيقية، مثلما حدث في مشروع توسعة قناة السويس، الذي التهم مليارات الجنيهات من جيوب المصريين، دونما أدنى فائدة تعود على التنمية الاقتصادية للبلاد في الوقت الحالي.

واذا كنا نبحث عن وسائل سريعة لزيادة الإيرادات دونما أن نمس جيب المواطن البسيط، فيمكننا طرح عدد من الأفكار، التي لم تكن لتُطرح على طاولة اجتماعات الإدارة الاقتصادية للبلاد:

1. فرض ضريبة استثنائية -لمدة تتراوح من عام وحتى خمسة أعوام- لمن يزيد دخله على 20 ألف جنيه شهريًا، بنسب تصاعدية وفقًا لفئات الدخل. ومن ثَمَّ تكون آثار فرض ضرائب إضافية مُحملة على أصحاب الدخول المرتفعة وليس على المواطن البسيط.

2. وقف العلاوات الدورية التي يحصل عليها من يزيد دخله على 20 ألف جنيه شهريًا -لعدد أعوام مُحددة- مع وقف أي حوافز إضافية تُمنح للقيادات الكُبرى بقطاعات البترول والكهرباء والاتصالات والبنوك ومستشارين مجلس الدولة، وهؤلاء بالفعل يشغلون أكثر من منصب في نفس الوقت. وجدير بالذكر أن تلك القطاعات تعاني كثيرًا من عجز موازناتها، فبدلاً من أن تكون قطاعات مُدرة للإيرادات اللازمة لمواجهة النفقات بالموازنة العامة، فهي فعليًا قطاعات تُحمل الموازنة المزيد من العجز.

3. سرعة العمل على استخدام كروت البنزين، وذلك لرفع الدعم نهائيًا عن الأجانب المقيمين بمصر – كما يُعامل المصري بالخارج – والشركات الدولية والمدارس الدولية، والعربات الفارهة، على أن يتم تطبيق الدعم على العربات وفقًا لقيمتها.

4. تقنين أوضاع التموين، بحيث يتم تقسيم فئات الدخل بها، حيث يحصل معدوم الدخل على النسبة الأعلى، وتقل تلك النسبة بالتوازي مع ارتفاع دخل المواطن، وإلغاء بطاقات ذوي الدخول المُرتفعة.