في الأراضي الفلسطينية؛ لا يبدو شهر رمضان كما هو في البلاد العربية وإن تقاربت بعض عادات الأجداد، هنا برغم بشاعة الاحتلال إلا أن الفلسطينيين يُصرون على الحظي بروحانيات الشهر.في القدس رغم تتابع سياسات القهر والحرمان للمقدسيين من الوصول إلى المسجد الأقصى ونَهْرِ سكان البلدة القديمة من تزيينها ابتهاجًا بالشهر، تذرعًا بحجب الزينة للمراقبة عبر الكاميرات التي ترصد كل حركة لهم؛ ترى السكان يرفضون تلك القرارات عمليًا بتعليق الأضواء وتسيير القوافل إلى الأقصى.وإذا ما ممرت بمدن الضفة الغربية تجد الأسواق تضج بالمتسوقين يشترون ما يشتهيه أطفالهم وما يحملهم على تأدية زيارة أرحامهم، هناك أيضًا ترى بيوت شهداء الانتفاضة وقد امتلأت بالزائرين في مشهدٍ تكافلي يليق بأهل الكرامة، هناك لسان حال الزائرين «كلنا ولادك يا أم الشهيد».جنوبًا إذا ما ألقيت ببصرك على حال الغزيين؛ تجدهم رغم اعتلاء علامات القهر وجوههم يبتهجون عنوةً عمن يُحاصرهم ويُحاربهم في أرزاقهم، ترى المواطنين يتبادلون أطباق الإفطار بمحبةٍ كبيرة، وشبابٌ كُثر تطوعوا أملًا في إطعام من لم يجدوا طعامًا لكسر صيامهم، في غزة ترى المساجد تكتسي بالمصلين يؤمنون على الدعاء يرجون استجابًة من ربٍ كريم في شهره الفضيل.هكذا في كلِ فلسطين ترى بهجة الهلال تشق السماء من رحم الألم لتُعلن حياة ملؤها الرحمة.


رمضان القدس انتصار للطابع الإسلامي

كما السماء تُنيرها النجوم؛ تبدو مدينة القدس في ليالي رمضان، كلُ زاوية في أحيائها القديمة تنتصر لطابعها الإسلامي العريق، في حارة «السعدية» التي تُعد منفذ المقدسيين عبر باب الساهرة إلى المسجد الأقصى، كان «إياد جبر» 44 عامًا عضو لجنة حي في الحارة، يتفقد الزينة التي علقها فريق متطوعين من شباب الحي في الحارة مع بداية رمضان، فجنود الاحتلال لا تترك وسيلة لتخريبها إلا وتفعلها، والذريعة، كما يقول لـ «إضاءات»: «أنها تحجب الرؤية عن كاميرات المراقبة»، ويُضيف: «كلما عبثوا بها نُعيدها لا تُخيفنا تهديداتهم ولا يُضيرنا أسرهم لنا».

لا يترك جنود الاحتلال وسيلة لتخريب زينة رمضان في شوارع القدس، إلا وتفعلها.

وبدأ الاحتلال تنفيذ إجراءات عقابية بحق سكان الحي مع انطلاقة انتفاضة الأقصى عام 2000، أرادوا وقتها – كما قال لنا جبر – أن يفرضوا واقعًا يهوديًا على أحياء البلدة القديمة وطمس الطابع الإسلامي لها، وأضاف: «إن عشرات الجنود المدججين بالسلاح كانوا يُهاجمون الشباب أثناء قيامهم بتزيين الحي ابتهاجًا برمضان، لكنهم لم يفلحوا على مدارِ خمسة عشر عامًا».وفي الحارة أيضًا يُصر المسحراتي «نضال حجازي» على الخروج قُبيل ساعات الفجر برفقة بعض أعضاء فرقته، يُنادي الناس للسحور بصوتٍ عذب وترانيم مُحمدية – وفق قوله – ويُضيف الشاب الذي تخرج من قسم العلاج الطبيعي وعمل مُدربًا لفرقة شعبية تُحيي التراث الفلسطيني «أنه يعمل كمسحراتي منذ خمس سنوات، وفي كل عام تزداد مُضايقات المستوطنين»، يؤكد أن المستوطنين يرمونهم بالمياه العادمة ويُقابلونهم بوابل من الشتائم ويُرهبونهم بالضرب تارة والاعتقال والإبعاد عن البلدة القديمة والمسجد الأقصى تارًة أُخرى.وكذا فإن المواطن «روحي الرازم» وثلاثين من أفراد عائلته أطفالًا وشبابًا وفتيات، من حارة «باب حِطة» المجاورة لحارة «باب السعدية»، يُصرون على إحياء مسيرة «المشاعل» الرمضانية التي تجوب حارات البلدة القديمة، يرسمون خلالها البهجة على وجوه زائري المدينة المقدسة ويحيون تراث الأجداد بطريقة عصرية تُمكنهم من جذب الحاضرين للعودة مُجددًا في الأعوام القادمة للاستمتاع بروحانيات رمضان، يؤكد الرازم أن اللباس الفلسطيني والشامي إضافًة إلى الابتهالات والأناشيد الدينية التي تصدح بها الحناجر تُضفي بهجًة على المدينة تُغيظ الاحتلال، ويقول لنا وهو ينهي تدريبات فرقته على بعض الترانيم الدينية استعدادًا لإحياء الاحتفالية الخميس المقبل: «تُقام الاحتفالية يوم الخميس من كل أسبوع بعد صلاة التراويح والعشاء ويؤمها الكبار قبل الصغار»، ويستكمل حديثه بحماس وتحدٍ كبيرين: «رغم مضايقات الاحتلال لنا وتهديداتهم نُحاول عبر احتفالية مسيرة المشاعل أن نُبقي التراث الفلسطيني حاضرًا ونُعرف الناس بأجوائنا الرمضانية».ففي القدس لا يُريد السكان أن تفلح مخططات الاحتلال الإسرائيلي في طمس الطابع الإسلامي لمدينتهم وسلبها روحانيات شهر رمضان.


الضفة المحتلة رمضان تلاحم وتراحم

رغم اكتساء مُدن الضفة المحتلة؛ بحُلة رمضان البهيجة من خلال تزيين شوارعها وأحيائها بالزينة والأضواء؛ إلا أن رمضانها هذا العام جاء مُختلفًا، مُنكهًا بوجع الانتفاضة الثالثة ومحمومًا بمشاعر الفقد مما زاد الناس فيه تلاحمًا وتراحمًا.في منزلها بمدينة بيت لحم، غالبًا ما تجلس أم محمد زوجة الشهيد أحمد البلبول وحيدًة على مائدة الإفطار فقد غيَّب الاحتلال أبناءها الثلاثة منتصف إبريل الماضي، ولا تدري متى سيعودون من غياهب السجن، تقول: «إن ما يُهون عليّ؛ تلاحم الأهل والجيران وأصدقاء أبنائي معي»، تبتهل السيدة في كل صلاة أن يُفرج عن أبنائها نوران الطالبة بالصف العاشر، ومحمود طبيب الأسنان ومحمد طالب الدراسات العليا بقسم العلوم السياسية «فلا نكهة لرمضان ولا العيد بفقد الأحبة».وبالوصول إلى مدينة نابلس وتحديدًا البلدة القديمة، في أزقتها الضيقة ترى زينةً، وبضائعَ، وأناسًا يجتهدون في شراء احتياجاتهم على عجل قبل موعد الإفطار من بينهم كانت المُعلمة ميرفت الخاروف، تنتقي «فقدة رمضان» – وهي مجموعة من السلع الرمضانية تُهدى من الرجال لقريباتهم من النساء الفقيرات – والتي أكدت لـ «إضاءات» أنها تُصر كل عام على شرائها لتسد حاجة أقارب زوجها خاصة المعوزات منهن، تُخبرنا أنها خصصت «فقدة رمضان» لزوجات الشهداء المعيلات في أسرة زوجها الممتدة وهنّ خمسة وتقول: «إن ما أجنيه من أثر لهذه العادة كبيرًا، ولا يُضاهى بثمن ألفة ومحبة لا انتهاء لها بين عائلتي الصغيرة وعائلة زوجي الكبيرة»، وتُضيف: «الشعور بالآخرين سبيل لتماسك المجتمع وقوته».أما في سوق البلدة القديمة لمدينة الخليل فقد انفرجت أسارير الحاج أبو عاصم طه، فالمتسوقون لا يبرحون دكانه الصغير بعد أن كاد يُغلقه نتيجة إرهاب الاحتلال وتنفيذه عمليات قنص وإعدام للشباب المنتفضين في البلدة القديمة ومحيط الحرم الإبراهيمي، يقول لـ «إضاءات»: «في رمضان دبت الحياة في أسواق وشوارع البلدة القديمة»، ويعزو ذلك إلى الجهود الحثيثة التي تبذلها مؤسسات المدينة في إحيائها اقتصاديًا بعد إغلاق الاحتلال بأوامر عسكرية قرابة 520 محلًا تجاريًا في أرجائها ودفعه بسياسات التضييق أصحاب 1280 محلًا آخرين للإغلاق من تلقاء أنفسهم.وبدورها عمدت مديرية أوقاف الخليل إلى وضع برنامج روحاني مميز لتشجيع السكان هناك على إمامة المسجد الإبراهيمي وإعماره بأداء الصلوات فيه خاصة صلاة العشاء والتراويح، ويقول «إسماعيل أبو الحلاوة»، مدير أوقاف الخليل لـ «إضاءات»: «تعاقدنا مع حافلات لإقلال المصلين من قرى المحافظة إلى المسجد الإبراهيمي، وأعددنا برنامجًا مميزًا يضم مسابقات تاريخية ودينية بجوائز قيّمة»، وتشريفًا لمن يُصلي بالحرم ستمنح الأوقاف كل شخص يُصلي هناك قبعة مكتوبًا عليها «صليتُ بالحرم» لتُشجع الناس على الصلاة في رحابه وإفساد مخططات الاحتلال في إفراغه من أهله تمهيدًا للسيطرة عليه. لقد حاولت مديرية الأوقاف أن تُخرج المدينة وأهلها من الواقع الأليم الذي فرضه الاحتلال خلال الانتفاضة الدائرة رحاها منذ مطلع أكتوبر 2015 حتى الآن بوتيرة متصاعدة.


غزة: جمال رمضان لم يُبدده الحصار

تُعد «فقدة رمضان» من أشهر عادات الفلسطينيين في الضفة الغربية، والتي تدل على تلاحم المجتمع وتراحمه.

لا يُنكر أحد أن أعوام الحصار الإسرائيلي العشرة على قطاع غزة، نالت من جوانب حياة سكانه اقتصاديًا واجتماعيًا، إلا أنهم ما زالوا يرون جمال رمضان، زينوا الشوارع بالفوانيس والأهلة المُضيئة، وعلقوا على واجهات بيوتهم الأحبال الملونة، وأناروا قلوبهم بفعلِ الخيرات والتمسك بعادات الأجداد ذات البعد الديني والاجتماعي.في منزل «محمد أبو جلنبو» شرق مدينة خان يونس، وما إن انتهت صلاة العصر حتى بدأت بناته المتزوجات وأبناؤهن بالتوافد استعدادًا لتناول طعام وليمة أول أيام شهر رمضان، فتلك عادة حرص عليها الحاج محمد منذ عشرين عامًا، يقول: «إن أوضاعي المادية صعبة ولا أتلقى إلا نصف معاشي ولكن لم يمنعني ذلك من القيام بواجب صلة الرحم لبناتي المتزوجات».زوجته صنعت أصنافًا مختلفة تُفضلها بناتها منها الملوخية والسمبوسك وورق العنب في حين استعاضت عن طبق الدجاج بشيِّ أصابع الكفتة، فثمن الأولى غالٍ جدًا، كما قالت.

رغم الحصار والدمار، ما زالت شوارع غزة تزخر بمظاهر رمضان وعاداته البهيجة.

وفي ذات المدينة الواقعة جنوب القطاع، ما إن تعلو الشمس ذراعًا في السماء حتى تضج الشوارع بحركة الأطفال ذاهبين إلى المساجد يُلقون على مسامع مُحفظيم ما أتقنوا من آيات القرآن، فترتد إليهم جوائز مباركة خاصةً الصائمين منهم.فهذه عطرة نبيل، تجمع فتيات حارتها بحي الشيخ ناصر، في حلقة حفظ وذكر للقرآن الكريم في مسجد المُصطفى، تُعلمهم كيف يتلون آياته ويحفظونها في صدورهم، تقول الفتاة التي تدرس بالسنة الرابعة قسم علاج طبيعي بالجامعة الإسلامية بغزة: «رمضان شهر القرآن وأحاول أن أغرس حبه والتعلق به في نفوسهم كي يُثمر عزًا ونصرًا في المستقبل».بيت المُحفظة عطرة، لا يبعد سوى مئات الأمتار فقط عن المسجد، منذ صغرها ترى مأذنته وتسمع صوت نداء إمامه فأرادت أن تكون أداة هداية، تؤكد أنها تشترك مع طالباتها في سباق لحفظ خمس آيات يوميًا يختارونها فيما بينهم من طوال السور في القرآن الكريم ليحيوا بها صلاتهم خاصة صلاة التراويح خلال شهر رمضان، وتُضيف: «أسعد كثيرًا حين يتفوقن عليَّ».وبعيدًا عن أجواء المدن وصخبها وصولًا إلى المناطق التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي خلال حربه الأخيرة على قطاع غزة يونيو 2014، تجد خلايا نحل من الشباب المتطوعين لدى الجمعيات الخيرية لتقديم وجبات الإفطار الساخنة على من لا يملكون ثمنًا لها بعد أن فقدوا بيوتهم ومصدر رزقهم ولم تُسعفهم أموال الإعمار في استعادة تفاصيل حياتهم التي قضت عليها الحرب. «كامل الهيقي» واحد من أولئك الشباب بادر مع مجموعة من أصدقائه لجمع تبرعات ومبالغ مالية لشراء وجبات إفطار ساخنة لمن لا يمتلكوها من الفقراء وأفقر الفقراء في القطاع والذين تجاوزت نسبتهم وفق الأرقام الرسمية لجهاز الإحصار المركزي الفلسطيني الـ 65%، يقول: «تلك الوجبات أقل ما يُمكن أن نُقدمه لمن حرموا منها»، ويقول أنه ينشر مبادراته عبر صفحته على فيسبوك مما يُمكنه الحصول على تبرعات مُجدية أحيانًا سواء من أهل الخير خارج القطاع أو داخله، ويُتابع «أطلقت حملة لزيارة الأرحام وتقديم الهدايا الرمضانية… استطعنا خلال أيام رمضان الماضية أن نوفر مساعدة لـ 15 عائلة في مبادرة زيارة الأرحام ونطمح للمزيد»، ويستكمل حديثه: «تلك المبادرات تُعمق أواصر المحبة والألفة وتُنهي مشاعر الخجل والحرمان».هكذا تمر أيام شهر رمضان في الأراضي الفلسطينية، كثيرٌ من وجع المحتل الذي يُريد إنهاء أي مظاهر إيمانية وروحانية للشهر بالتضييق على السكان في كل مكان، فيحرم الأقصى من رواده، والأمهات من أبنائهن بين أسيرٍ وشهيد، ويمنع دخول المساعدات إلى قطاع غزة بفعل إغلاق المعابر. يقابل ذلك، إصرارٌ عظيم وتلاحم عزَّ نظيره بين أفراد المجتمع الفلسطيني، تلاحم يليق بتضحياتهم ويُنهي بعض تفاصيل معاناتهم.