لم أكن أتخيل أن أقترب بهذا الحد من أسطورة الحي بأكمله لكنه القدر وحده متسلحًا بسواعد والدي الذي ساقني في هذا المكان لأكون أقرب شخص إلى مشاهدة المباراة. أبي الذي يؤكد أصدقاؤه أنه كان هو نفسه من أهم لاعبي الدورة الرمضانية في الماضي.

أقسم أنني شاهدته يطير في الهواء ليلعب كرة مزدوجة خلفية ثم يرتطم بكامل جسده على الأسفلت دون أن يصدر ولو صوتًا خفيفًا، كأنه ريشة تتحرك في الهواء رغم أن صوت ارتطام الكرة بقدمه يحدث دويًا لا يتوقف إلا والكرة في الشباك. انتهت المباراة.

تلك الكلمات هي لرجل جاوز الأربعين، ارتبط قلبه بكرة القدم، شاهد مئات المباريات وجاب ربوع مصر تشجيعًا وهتافًا لناديه المفضل حتى أنه يمتلك صورة من قلب المدرج الخاص لناديه المفضل في إنجلترا. لكنه لم ينسَ أبدًا المشهد الأول الذي تركه أسيرًا لعشق كرة القدم.

قبل عصر الإنترنت وقبل أن يصبح المشهد السائد لمحاولة التغلب على الوقت هو وجود عدد من الوجوه المنحنية في مواجهة الهواتف الخلوية، كانت كرة القدم هي التريند في شهر رمضان. قبل الإفطار، كانت الدورات الرمضانية الخاصة بكرة القدم الشراب ثم تطور الأمر كثيرًا مثلما تطورت كرة قدم الشوارع ذاتها.

الدورات الرمضانية هي عالم مستقل لا يعرف الكثيرون عنه شيئًا. عالم من الشغف والجنون والأصول والمهارة والتعجب. عالم لا يمكن لك أن تنساه أبدًا طالما أن قدمك قادتك إلى دروبه ولو على سبيل الصدفة.

دعنا نبدأ من البداية، من الشارع بالطبع.

كرة القدم والشارع ورمضان: هكذا بدأ الأمر

لماذا كرة القدم هي اللعبة الشعبية الأولى؟ الأمر ببساطة لأن لعب كرة القدم لا يحتاج إلا كرة قدم وقدر وفير من الشغف. وفي نهار رمضان كانت الأجواء مثالية للعب كرة القدم استهلاكًا للوقت وحبًا في الكرة واستغلالًا لحالة الهدوء المثالية حينئذ.

بدأ الأمر بتنظيم دورات داخل كل منطقة في قلب أحد الشوارع، الرصيف هو خط التماس وقالب الحجر المستطيل هو العارضة ولا يوجد زي موحد لأي فريق بل إن قوام الفريق نفسه لا يشترط أن يكون ثابتًا.

لكن الشيء الثابت هنا هو النظام الذي فرض على الجميع من واقع الشغف والتسلية. يتم تحديد الوقت المناسب لمباريات الغد في نهاية اليوم، وهي في كل الأحوال تكون في نهار رمضان لأنه ببساطة لا يوجد إضاءة مناسبة للعب ليلًا.

الحقيقة أن كل شيء كان مباحًا في دورات الشوارع الرمضانية، يتم التلاعب بالوقت أحيانًا بل وبالنتائج ذاتها، أما إذا قررت إحدى الفرق من خارج المنطقة المشاركة فمن المستحيل الفوز بالبطولة في الأخير لأسباب تتعلق بشرف المنطقة على الأغلب.

يبدو الأمر عشوائيًا إذن وغير منظم لأنه ببساطة لا يوجد ما يلزم الجميع إلا حب كرة القدم وهو ما يختلف عليه العالم أجمع وليس سكان منطقة واحدة فحسب. هنا ننتقل إلى دورات رمضانية أكثر تنظيمًا وهي دورات الساحات.

الدورات الرمضانية في الساحات: كرة قدم العمالقة

كانت الأزمة في الدورات الرمضانية في الشوارع هي غياب التنظيم وهنا قرر البعض لعب دورات أكثر تنظيمًا، مواقيت محددة وفرق ثابتة العناصر، والأهم مكان ثابت للعب وهو على الأغلب ساحة فضاء لا يملكها أحد بعينه ويتم تخصيصها ضمنيًا للعب كرة القدم خلال شهر رمضان.

أصبح للدورات أسماء ثابتة طبقًا للأحياء والمناطق. وهنا ظهر المنظمون لتلك الدورات، شخص مسئول بشكل كامل عن تنظيم المواعيد وتحديد الملعب وتنظيم الجمهور الغفير. كما أنه يحصل على الاشتراك المحدد لكل فريق.

هنا بدأت الدورات الرمضانية الحقيقية، كرة القدم التي قدمت لمصر عمالقة في اللعب وأثبتت أن اللعب في الأندية ريما يكون خادعًا فالشارع مليء بالمواهب. هناك العشرات ممن عرفوا كرة القدم عبر تلك الدورات وعرفتهم كرة القدم وأصبحوا نجومًا لأنديتهم بعد ذلك.

كانت الجوائز رمزية وبشكل مناسب للاشتراك الرمزي الذي دفعته الفرق. ربما تفوز بكأس وميدالية لونها ذهبي في حالة الحصول على المركز الأول وربما تحصل على طقم رياضي كامل في بعض الأحياء. لكن الأهم أن الجمهور كان يتزايد بشكل ملحوظ، فثبات المكان وشدة التنافس كان عامًلا سحريًا لزيادة الجمهور.

ولأن قاعدة كرة القدم لا تتغير أبدًا إذا ما لعبت في شارع أو لُعبت في قصر، فكانت النتيجة المنطقية أن السياسة فطنت للأمر وأصبحت جاهزة للانقضاض عليها والالتفاف حولها واستخدامها كراية مناسبة للوقوف بجوار الشعب. حدث كل ذلك عندما عرف أعضاء مجلس الشعب بأمر الدورات الرمضانية.

الدورات الرمضانية: دورة الحاج فلان الفلاني

هنا تحولت الدورات الرمضانية لنوع من أنواع الدعاية لأعضاء مجلس الشعب والذين حملوا أسماء رنانة في كل منطقة وجلسوا فوق كراسيهم لسنوات ممتدة. أصبح الأمر أكثر تنظيمًا وأصبحت الجوائز أكبر وأقيم.

وبصوت سياسي محنك صاح أحدهم وكأنه أفاق فجأة: لماذا لا يلعب الشباب في مراكز الشباب؟ هنا انتقلت الدورات الرمضانية إلى مرحلة الاحتراف، ربما تقرر إحدى المناطق أن تقنع لاعبًا ما من منطقة أخرى للعب لفريق المنطقة، فالجائزة كبيرة في دورة مركز شباب الجزيرة على سبيل المثال.

أصبحت سمعة الدورات الرمضانية على المحك، فدورة الحاج فلان في الطالبية جائزتها كبيرة لكن بشكلها معروف مسبقًا، أما بطولة الحاج علان في السيدة زينب فهي بطولة لن تخرج من السيدة زينب على أي حال.

لكن رغم كل ذلك حافظت بعض الدورات على رونقها وسمعتها بين اللاعبين والجماهير، لكن مع الوقت أصبح الاهتمام بتلك الدورات أقل والسبب كان منطقيًا، فكرة القدم في الشارع لا يمكن أبدًا تدجينها بتلك السهولة.

من ذروة الاهتمام إلى ذروة الرفض

كانت عبارات مثل الاهتمام بالشباب والرياضة هي روح الشعوب إلى آخره هي العبارات الأساسية التي تم تصديرها لاهتمام رجال الدولة ورجال الأعمال بالدورات الرمضانية تلك، لكن في الحقيقة أن كرة القدم التي يلعبها الناس في الشارع لا يمكن أبدًا أن تتسق مع عبارات معلبة.

حتى وإن قرر البعض أن اللعب فوق نجيل أخضر وتحت كشافات وهاجة سيكون كافيًا للعب كرة قدم غير حقيقية فإن هذا أثبت خطأه في النهاية. تحتوي كرة القدم على كم كبير من النزاعات بشكل بديهي. التحكيم والأهداف والدفاع عن المنطقة شرفها هي تفاصيل أصيلة في تلك النزاعات.

هناك العشرات من المواقف التي استدعى فيها الأمر تدخل الشرطة لفض تلك النزاعات، حتى أنه هناك حادثة شهيرة قرر خلالها سكان أحد المناطق بعد خسارة لقب الدورة أن الفريق الفائز لن يخرج حيًا من مركز الشباب أبدًا.

تدخلت الشرطة بشكل مكثف ولمدة يوم كامل لفض هذا النزاع، وكانت تلك هي المرة الأخيرة للعب هذه الدورة الرمضانية وكان ذلك قرار عضو مجلس الشعب نفسه بالطبع.

رغم كل ذلك فإن ما تبقى من الدورات الرمضانية ما زال هو الفرصة الأكثر جمالًا لتجمع شباب المنطقة لمشاهدة كرة قدم حية لن تتكرر أبدًا. ربما كان ذلك في دورة الفلكي بالحضرة أو في كفر صقر بالشرقية أو حتى في قلب الجيزة وضواحيها.

هناك أسماء بقيت تحظى باحترام وشعبية كبيرة لأنها من أساطير كرة قدم الدورات الرمضانية، وهناك في المقابل أسماء يعرف الجميع أنهم حققوا ثروة من وراء تلك الدورات. عالم له خفايا وتفاصيل وأسماء لامعة وأسماء رجال دولة وكرة قدم والكثير من الشغف.