أثناء محاولتي لكسر الملل في نهاية يومي بجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، قابلتني صورة لسيدات ينسجن سجادة تبدو كـلوحة، أبهرتني قدرتهم على إخراج هذا الجمال، تمنيّت أن أجد مكاناً يصنع هذا النوع من السجاد، حتى وجدت مركز «ويصا واصف» بـالحرانية، وذهبت إلى هناك لأعرف قصته.

الحلم

عقلٌ بلا قيود بلا تجارب سابقة يملك نقاوة الورقة البيضاء قبل أن يحوّلها الرسام إلى لوحةٍ جميلة والكاتب إلى نصٍ عظيم، كان هذا فقط ما يبحث عنه المهندس «رمسيس ويصا واصف» ليُحقِّق نظريته، ويثبت لنا أن إيمان المرء بأفكاره يحوّلها من نبتة صغيرة إلى شجرة ضخمة تتلامس فروعها مع النجوم في السماء.

درس رمسيس واصف الهندسة المعمارية وتبعها بدراسة تاريخ الفن، والتي شكّلت بداخله إيمانًا شديدًا بقيمة الفن وقدرته على إضافة الجمال للحياة. يرى واصف أن الأطفال يملكون عقولًا لم تمسها القيود بعد، فلا يوجد رادع لخيالهم وهذا يمكّنهم من إنتاج فن مميز، كما أن أبدانهم مليئة بالطاقة، فيمكننا أن نحول كل طفل إلى عبقري نشيط.

سيطرت نظرية واصف على عقله، وبحث عن مكان لا توجد به أي نوع من الفنون، ليثبت لنفسه نجاح نظريته، وأن الطفل -متأثر بالبيئة المحيطة به فقط- يمكنه أن يكون فنانًا، فبحث أيضًا عن مكان على قدر كاف من الجمال، ليبقى شيئًا واحدًا فقط يريده، ألّا يحتوى المكان على أي حرف يدوية، لأنه اختار أن يصنع الأطفال سجاد الجوبلان -سجاد تنُسج عليه لوحات- فهي حرفة تحتاج إلى صبر، حتى لا ينصرف المتعلمون عنها ويتجهون إلى تعلم حرفة يدوية أسهل. وقع اختيار واصف على قرية الحرانية بالجيزة.

المهندس «رمسيس ويصا واصف».
/ marefa

دخل واصف قرية الحرانية في عام 1952، بعدما اشترى قطعة أرض على أطرافها بقلبٍ تمتزج بداخله مشاعر اليأس والأمل، محاطًا بأنظار من حوله، كأي غريب يدخل على أهل القرية، لكن الإيمان يثبّت أقدام الحالمين في طريقهم، لأن الكنز دائمًا ما يكون في الرحلة.

كان واصف يريد أي طريقة ليصل إلى قلوب أهل القرية، أن يكون محل ثقتهم. بنى واصف غرفتين في قطعة الأرض، أحدهما غرفة يتعلم بها الأطفال النساجة، والأخرى عيادة لأخيه الطبيب ليعالج أهل القرية مجانًا، وأمام الغرفتين ملعب للأطفال. كان رمسيس واصف يزور القرية كل يوم خميس. وبمرور الأيام، أحبّه أهل الحرانية، وبات واحدًا منهم. بدأ مركز رمسيس واصف بـ 15 طفلًا، أطلق عليهم واصف الجيل الأول، لتبدأ الرحلة وتستمر إلى الآن.

فلسفة رمسيس واصف التعليمية

حتى يحقق واصف نظريته، كان يجب عليه أن يُعلِّم الأطفال بقواعدٍ خاصة، فكان واصف لا يضع أمام الأطفال نماذجًا يطبّقون مثلها، بل يترك لهم الحرية في رسم ما يريدون دون قيود، لتظهر مع الوقت شخصية كل طفل منهم في رسوماته، ويكون له بصمته الخاصة التي لا تتكرر. بدأ واصف في أخذ الأطفال في رحلات إلى بيئات أخرى لتشاهد أعينهم أشياء أخرى تحمل جمالًا مختلف عما اعتدوا أن يشاهدوه.

كسر واصف حاجز الخوف لدى الأطفال من التجربة، فكان لا ينتقد أحداً، أو يعدل على ما أنتجه عقله وخياله، ولم يطلب منهم السرعة في التنفيذ، بل ترك كل طفل يعمل حسب قدرته الخاصة على العمل والإنتاج. شعر أهل القرية بالتغير الطارئ على أولادهم، وقدرتهم على جني المال مقابل شيء آخر غير الزراعة، وازدادت ثقتهم برمسيس واصف.

نقطة تحول

منتصف الطريق هو أصعب نقاطه، لأنك بذلت مجهودًا عظيمًا لتصل إلى هنا، وينتظرك مجهودٌ أعظم لتصل إلى النهاية. أراد واصف أن ينشر فن مجموعة الأطفال العاملين معه، حتى يلتفت الناس إلى تجربته واختلافها عن غيرها، وأيضًا ليبدأ في بيع اللوحات المصنوعة كما أحب أن يطلق عليها دائمًا، ليجني المال الذي يساعده على استمرار التجربة، بعد ما أنفقه من أجل شراء قطعة الأرض ودفع أجور الأطفال، فقام بعمل معرض دولي في روما عام 1958، لينال إنتاج مركز واصف إعجاب الجميع. وتبدأ التجربة في جني ثمارها… ما أجمل الأحلام حينما تتحقق.

توسع نشاط مركز رمسيس واصف لفنون أكثر وأكثر بعد معرضه الدولي، سواء داخل مصر أو خارجها. كما بدأ المركز في جذب أطفال آخرين، حيث كان يسمح للعاملين بمصاحبة أقاربهم أو أخواتهم أثناء العمل، ليشاهدوا ما يقومون به، ليتكوّن جيل آخر من الفنانين يُطُلق عليه الجيل الثاني وهو مستمر حتى الآن. وزاد عدد المعارض في مصر ومعظم دول أوروبا، وازداد نجاح التجربة مع الوقت.

بعد مرور أكثر من عشرين عامًا على أول يوم وطأت قدم رمسيس واصف أرض الحرانية، نظر حوله لما وصل إليه، وحدّق في عيون الأطفال الذين أصبحوا شبابًا مع الوقت، ليجد وجوهًا تحمل الرضا عمّا تفعل، مُقدّرين لقيمة الفن الخاص الذي يقدمونه، طامعين في إنتاج لوحات أكثر فأكثر، ليبتسم واصف ابتسامة رضا ويطمئن قلبه.

توفى رمسيس واصف عام 1974، ليُكمل الرحلة من بعده زوجته وأولاده، طامحين ألّا ينتهي نجاح تجربة واصف عند هذا الحد فقط. بدموع ودّعه أهل الحرانية، فهو من زرع بهم الأمل وحب الفن.

«إحنا مش صنايعية… إحنا فنانين»

تحركت إلى مركز رمسيس واصف لمقابلة أبناء «الجيل الثاني» الذين دخلوا هذا المكان وهم لم يكملوا عقدهم الأول، وباتوا الآن يملكون من العمر على الأقل خمسة عقود. كان يشغل بالي أكثر من سؤال قبل المقابلة معهم، لكن سؤالًا واحدًا كان الأهم بالنسبة لي وهو:

بماذا يشعر العامل بمركز رمسيس واصف؟ هل يعتبر نفسه فنانًا يبدع أم حرفيًا يملك (صنعة تأكله الشهد؟

لتقطع حيرتي الفنانة «رضا محمد» -كما وصفت نفسها- وتبدأ حديثها معي مبتسمة:

إحنا مش صنايعية… إحنا فنانين.

أعتقد أن رمسيس واصف ابتسم في قبره من إجابتها. تملك كل فنانتين غرفة يعملان بها، وتأخذ السجادة على الأقل ستة شهور لتكتمل. قضي العاملين حاليًا في المركز أكثر من 40 عامًا معًا، مما خلق في المكان مناخًا أسريًا يتحلى بالود والراحة للجميع. شعرت أنه سيكون سؤالًا ساذجًا مني إن سألتهم عن سعادتهم في المركز، فابتسامة الرضا على وجه الجميع كانت أحسن رد.

الفنانة «رضا محمد»

يبدأ يوم العمل في التاسعة صباحًا، وينتهي في الرابعة عصرًا، مع وجود راحة للذهاب لتناول الغداء، فكل العاملين في المركز من أهل الحرانية.

يُقيم المركز رحلات للعاملين كل فترة، حتى يُجدِّدوا المشاهد المحيطة بهم والتي يشاهدوها كل يوم، وبعد العودة من الرحلة، تتحول المناظر الطبيعية الجديدة على أعين الفنانين إلى لوحات. يهتم المركز بعزل الفنانين عن أي ضغوطات، فهو يصنع السجادة، وهم يفعلون باقي الأشياء لتسويقها وبيعها.

بجولة صغيرة في مركز رمسيس واصف، رأيت بعيني أن التجربة التي بدأت قبل أكثر من سبعين عامًا نجحت بشكلٍ كبير، لكن يهددها شيءٌ واحد فقط، وهو عدم وجود جيل ثالث حتى الآن. فكل أبناء العاملين من الجيل الثاني، لا يرون أن عمل ذويهم ممتع، ولا يريدون أن يكونوا مثلهم، وبرّر ذلك الفنانون أن عملهم يحتاج إلى صبرٍ طويل وهذا ما لا يتوفر في الأجيال الحالية، فنحن في عصر السرعة والآلة، ويتمنى كل فناني الجيل الثاني أن يجدوا جيلًا يُعلِّمونه مثلما تعلّموا على يد الجيل الأول في أسرع وقت، فلا أحد يعرف متى يزوره مَلَك الموت.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.