مع بداية الدولة العباسية ظهر عدد من الفرق والطوائف الفارسية، التي حاولت إحياء معتقداتها الدينية القديمة، وانتزاع السلطان من أيدي العرب وتحويله إلى أنفسهم، وكان من بينها فرقة الراوندية التي اكتنفها الغموض منذ نشأتها وخلال مراحلها المختلفة.

يذكر السيد عبد العزيز سالم في كتابه «العصر العباسي الأول» أن الراوندية هي فرقة من فرق المسلمية الخرمية، والتي تؤمن بأن أبا مسلم الخراساني لم يمت، وأنه حي وسيعود ليملأ الأرض عدلًا، وسميت بهذا الاسم نسبة لمدينة «راوند» مقر دعوتهم، وتقع بالقرب من أصبهان في بلاد فارس.

وأبو مسلم الخراساني كان واليًا على خراسان في بداية الدولة العباسية، وكان محبوبًا من الفرس، لاعتقادهم أنه من أحفاد آخر ملوك فارس الأكاسرة يزدجرد الثالث؛ لذا خشي منه الخليفة أبو جعفر المنصور وقتله، رغم أنه كان من دعاة الدعوة العباسية الأوائل.

حلول روح المسيح في علي بن أبي طالب

وبحسب «سالم»، ترجع نشأة الراوندية إلى أواخر العصر الأموي عندما اشتد السخط والتذمر بين الفرس على العرب الأمويين؛ لذا فهي حركة سابقة على قيام الدولة العباسية، لكنها ظهرت ظهورًا خطيرًا في عصر الخليفة أبي جعفر المنصور (95- 158هـ/ 714- 755م)، وبالذات في أعقاب مصرع أبي مسلم الخراساني، شأنهم في ذلك شأن المسلمية والخرمية.

وكان الراوندية يعتقدون بالحلول والتناسخ، وبحلول روح الله في أشخاص الأئمة من آل علي بن أبي طالب، مازجين بذلك التعاليم الفارسية القديمة في شخصيات عربية إسلامية.

ويذكر محمد بن جرير الطبري في كتابه «تاريخ الرسل والملوك» أن رجلًا من الراوندية كان يقال له «الأبلق»، وكان أبرص، زعم أن الروح التي كانت في عيسى ابن مريم صارت في علي بن أبي طالب، ثم في الأئمة، في واحد بعد واحد، إلى إبراهيم بن محمد (سبط العباس عم النبي)، وأنهم آلهة.

وبحسب «الطبري»، استحل الراوندية الحرمات، فكان الرجل منهم يدعو الجماعة إلى منزله فيطعمهم ويسقيهم ويحملهم على امرأته، فبلغ ذلك أسد بن عبد الله القسري والي خراسان في العصر الأموي، فقتلهم وصلبهم. وبعد قيام الدولة العباسية عبدوا أبا جعفر المنصور، وصعدوا إلى قصر القبة الخضراء في بغداد، فألقوا أنفسهم كأنهم يطيرون.

وخرج جماعتهم على الناس بالسلاح، فأقبلوا يصيحون بأبي جعفر: «أنت أنت»، أي «أنت الله»، فخرج إليهم بنفسه فقاتلهم، فأقبلوا يقولون وهم يقاتلون: «أنت.. أنت»، فكانوا يعتقدون أنه ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم.

ويروي «الطبري» أن الراوندية أتوا على قصر الخليفة المنصور بالهاشمية، فطافوا به وهم يرددون: «هذا قصر ربنا»، فأرسل المنصور إلى رؤسائهم، فحبس منهم مائتين، فأثار ذلك غضب عامتهم، فعزموا على قتله، واحتاط المنصور لنفسه، فأمر بمنع التجمعات، فأعدوا نعشًا خاليًا، ثم مروا في المدينة حتى اقتربوا من السجن فأخرجوا أصحابهم السجناء، واتجهوا – وقد بلغ عددهم ستمائة – نحو القصر، وحاول المنصور أن يخرج للقائهم، فمنعه معن بن زائدة الشيباني، وكان أحد قواد الأمويين الذين حاربوا العباسيين تحت إمرة ابن هيبرة والي العراق، حيث رمى بنفسه أمام الخليفة، وحذره من الظهور أمامهم، وتبادل حراس القصر والراوندية الهجوم، ونودي في الأسواق، فأقبل الناس يحاربون الراوندية حتى قتلوهم، وهكذا قضى المنصور على الراوندية في سنة 141هـ/ 758م.

فرق الراوندية وتفريعاتها

ويذكر عبد العزيز الدوري في كتابه «العصر العباسي الأول. دراسة في التاريخ السياسي والإداري والمالي» أن الراوندية لم تكن فرقة واحدة، وإنما تفرعت إلى فرعين رئيسيين. الأول هو جماعة اعتقدت بانتقال الإمامة من أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس (أي العباسيين) بالوصاية، وربما كان هؤلاء من أوائل من انضموا إلى الدعوة العباسية.

وبعد وفاة الخليفة العباسي الأول أبي العباس عبد الله السفاح سنة 136هـ/754م، انقسم هذا الفرع إلى ثلاث فرق، الأولى اعتقدت بإمامة أبي جعفر المنصور وبعده الخليفة المهدي، والثانية أنشأها عبد الله الراوندي، وهؤلاء اعتقدوا أن أبا جعفر المنصور الإمام القادر القدير، وأنه إله ، وأن أبا مسلم الخراساني نبيه ورسوله، وهؤلاء هم الذين ثاروا على المنصور سنة 141هـ/ 758- 759م، وبعد وفاته اعتقدوا بإمامة المهدي.

أما الفرقة الثالثة من الفرع الأول فنقلت الإمامة من أبي العباس لأبي مسلم، وهؤلاء فريقان، فريق دخل بينهم بعض الخرمية وسُمُّوا بـ«المسلمية»، وهم يؤكدون أن أبا مسلم لم يمت، وأنه على قول بعضهم نبي أرسله زرادشت، بينما يقول البعض الآخر بأن جزءًا إلهيًّا حل فيه، وأنه فوق الملائكة. والفريق الآخر يُسمَّون بـ «الرزامية»، وزعيمهم رزام، وينسبون الخوارق والمعجزات لأبي مسلم، ولكنهم يعتقدون موته.

أما الفرع الرئيس الثاني، فهي جماعة تعتقد أن الرسول أوصى بالإمامة لعمه العباس بن عبد المطلب، ثم ورثها عنه أولاده، وهذه أحدث من الجماعة الأولى، وتسمى «العباسية». وتطرفت هذه الجماعة في تقديسها لأبي مسلم، وقد يكون لادعائه بأنه من نسل سليط بن عبد الله بن العباس أثر في نقل الرئاسة الدينية إليه، ذكره «الدوري».

الراوندية ومحاولة قتل المنصور

ورغم الغموض الذي يحيط بالفرقة ومعتقداتها وممارسات أتباعها، إلا أن أكثره ما ارتبط بفكرة إقدامهم على قتل الخليفة المنصور. وفي هذا الأمر يرى أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري في كتابه «الأخبار الطوال» أن الراوندية تداعوا وخرجوا يطلبون بثأر أبي مسلم الخراساني.

لكن «الدوري» في كتابه يشكك في هذا الرأي لتقادم العهد بين حركة الراوندية التي قامت سنة 141هـ وبين مقتل ذلك الزعيم في أواخر سنة 136هـ وأوائل 137هـ، إضافة إلى قلة عددهم، ثم كيف يثور هؤلاء ضد من يعتقدون أنه ربهم لأنه سخط على نبيه.

وفي كتابه «تاريخ الأدب في إيران»، ينقل المستشرق إدوارد براون عن المستشرق الهولندي رينهارت دوزي، قوله إن الراوندية جاءوا لتقديم الطاعة للمنصور، فلما تنصل منهم وسجن زعماءهم لم يعد إلهًا بنظرهم، فثاروا عليه، إذ كانت فكرة الحكم الشرعي عندهم متصلة بفكرة الربوبية، فإذا تنصل الإمام من الألوهية لم يعد حاكمًا شرعيًّا في نظرهم.

وقد يكون هذا الرأي أقرب للمعقول، بحسب «الدوري»، إذ تسامح العباسيون مع الراوندية واستفادوا منهم حينما حاولوا جمع الناس حولهم بكل الوسائل، ولكن ما إن ظفروا بالحكم حتى تعذر عليهم قبول مبادئ تنافي أسس الإسلام، خاصة أن الخليفة كان حامي الدين، فما كان منه إلا أن نكل بهم حينما جهروا بآرائهم.

وبحسب «الدوري»، خاف المنصور على نفسه بعد هجوم الراوندية عليه، فأنشأ نظام «فرس النوبة»، وهي إعداد فرس أصيلة مسرجة وملجمة أمام القصر دائمًا، كي تكون جاهزة لاستعمالها عند الضرورة، وفي حال أي هجوم.

أعداء سياسيون

ويرى الدكتور حسن إبراهيم حسن في الجزء الثاني من كتابه «تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي» أن المنصور لم يكن أمامه بد سوى أن يضرب على أيدي هؤلاء، لأنه لم يكن يستطيع أن يوافقهم على قولهم، لخروجهم على الدين والدولة، ولأن ذلك من شأنه أن يثير العرب عامة.

وبحسب إبراهيم، كان أبو جعفر المنصور ينظر إلى الراوندية كأعداء سياسيين، لأنهم من أتباع عدوه أبي مسلم الخراساني، الذين يعملون على تحويل الخلافة إلى ملك كسروي، كما كان ينظر إليهم باعتبارهم زنادقة يأملون في أن تعود المجوسية أو شكل من أشكالها، كالزرادشتية أو المانوية أو المزدكية أو غيرها، فعاملهم كما عامل أبا مسلم وقتلهم شر قتلة.

الاستفادة من الراوندية والانقلاب عليها

ويذكر محمد نصر عبد الرحمن ومحمد صقر الدوسري في كتابهما «تاريخ الدولة العباسية في العصر العباسي الأول» أنه كان من الطبيعي أن يعكس انتصار العباسيين، إلى جانب التبدلات السياسية التي حدثت آنذاك، تأثيراته على تطور الحركة في ذلك الحين، حيث بلغت ذروة رواجها في عهد المنصور الذي رأى فيها داعمًا قويًّا لسلطته، الأمر الذي جعله يغض النظر – في بعض الأحيان – عن التجاوزات العقدية الخطيرة التي أوصلته إلى مرحلة الربوبية، طالما أنها كانت في طاعته.

ويدلل «عبد الرحمن» و«الدوسري» على ذلك بما رواه الطبري في كتابه المذكور آنفًا، عن أبي بكر الهذلي «أنه رأى رجلًا يشير إلى باب المنصور، ويقول: «هذا رب العزة، هذا الذي يطعمنا ويسقينا»، فلما أخبر المنصور بما سمع، أجاب: «يا هذيلي، يدخلهم الله النار في طاعتنا ويعتلهم، أحب إليَّ من أن يدخلهم الجنة بمعصيتنا». وإذا صحت هذه الرواية، فإن أبرز مؤشراتها تصب في إطار السماح بإحياء الموروثات الفكرية الشرقية التي تستهدف تقديس السلطان، دون التورط مباشرة في دعمها.

لكن مع مرور الوقت كان الاختيار محسومًا لدى أبي جعفر، الذي رفض مهادنة الراوندية بعد ذلك، على أن المجابهة معها كانت في الوقت نفسه جزءًا من الصراع المحوري ضد القيادات والحركات الفكرية المناهضة للإسلام.

وبحسب المؤلفين، لا شك أن هذا الموقف من العباسيين قد أورث لدى تلك التيارات شعورًا بعدم الرضا، ورغبة عارمة في الانتقام، لفقدانها ما كانت تأمله من اعتبارات مصلحية مع بروز الدولة العباسية، وهو ما عبر عنه المقريزي في قوله: «إن السبب في خروج أكثر الطوائف عن ديانة الإسلام، أن الفرس كانت من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم وجلالة الخطر في أنفسها، بحيث إنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد، وكانوا يعدون سائر الناس عبيدًا لهم، فلما امتُحِنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، كانت العرب عند الفرس أقل الأمم خطرًا، تعاظم الأمر وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، وفي كل ذلك يُظهِر الله تعالى الحق».

ذيول الراوندية

وبحسب «إبراهيم» في كتابه المذكور، لم يستطع المنصور أن يقضي على الراوندية قضاءً تامًّا، فظهروا في صور مختلفة مثل ثورة المقنع الخراساني (159- 163هـ/ 776- 779: 780م)، والذي ادعى أن الله تجسد فيه، ونادى بتعاليم دينية غريبة، ودعا الناس إلى ترك الفرائض كالصوم والصلاة، وطبق تعاليم مزدك على أتباعه، وأباح لهم قتل من يخالفهم، وقال لهم إنه سيعود بعد وفاته ليملأ الأرض عدلًا، واحتل عدة قرى واجتمع حوله أنصار كثيرون في نواحٍ عديدة في إيران، واستمرت ثورته 14 سنة.

كما ظهر الراوندية في حركة بابك الخرمي عام 201هـ/ 816م، والتي لم تستطع جيوش الخلافة القضاء عليها إلا بعد 20 عامًا، واستطاعت خلالها الحركة ضم أتباع ورقع جغرافية مثلت تهديدًا حقيقيًّا لدولة بني العباس وزعزعت استقرارها.