محتوى مترجم
المصدر
The Conversation
التاريخ
2022/4/6
الكاتب
Ani Kokobobo

بصفتي شخصًا يُدرِّس الأدب الروسي، لا يسعني فهم العالم إلا من خلال الروايات والقصص والأشعار والمسرحيات، حتى في الوقت الذي يتم فيه حجب الإنتاج الثقافي الروسي في جميع أنحاء العالم.

ومع قيام الجيش الروسي بارتكاب أعمال عنف مُدمِّرة في أوكرانيا، بما في ذلك ذبح المدنيين في بوتشا، انبثق بشكل طبيعي النقاش حول ما يجب فعله بالأدب الروسي.

أنا لست قلقة من فكرة إلغاء الفن القيّم على الإطلاق. تبقى الأعمال الأدبية مستمرة، جزئيًا، لأنها تتمتع بالسعة الكافية بحيث تُقرأ بشكل نقدي في مواجهة تقلبات الحاضر، مهما كانت.

يمكنك تقديم هذه الحجة حول أي عمل عظيم للأدب الروسي، ولكن بصفتي باحثة في أدب «ليو تولستوي» و«فيودور دوستويفسكي»، سألتزم بأشهر الأعمال الأدبية الصادرة لنا من روسيا.

بعد الحرب العالمية الثانية، وصف الناقد الألماني Theodore Adorno مذبحة الهولوكوست بأنها ضربة عميقة للثقافة والفلسفة الغربية، حتى أنه ذهب إلى حد التشكيك في قدرة البشر على «العيش بعد أوشفيتس»، وأوشفيتس هو معسكر اعتقال وإبادة نازي في بولندا.

لكن لا يمكننا تطبيق هذه الفكرة عشوائيًا في اللحظة الحالية لأنها وُلدت من السياق المُحدد للهولوكوست. لكن في حالة اتباعنا لبوصلة Adorno الأخلاقية، أتساءل عمّا إذا كان سيؤثر العنف العشوائي الذي ترتكبه القوات الروسية على نظرة القرّاء للكُتّاب العظماء في روسيا، بخاصة بعد القصف الوحشي لمدينة ماريوبول، وبعد الفظائع في شوارع بوتشا، جنبًا إلى جنب مع الفظائع التي ارتُكبت في خاركيف وميكولاييف وكييف وغيرها كثير.

مواجهة المعاناة بعيون صافية

عندما علم دوستويفسكي أن الكاتب الروسي «إيفان تورجينيف» قد نظر بعيدًا في اللحظة الأخيرة أثناء شُهوده على عملية إعدام رجل، فسر موقفه قائلًا:

ليس للإنسان الذي يعيش على سطح الأرض، الحق في غض الطرف وتجاهل ما يحدث على الأرض، فهناك ضروريات أخلاقية عُليا لذلك.

عند رؤية أنقاض مسرح في ماريوبول، وسماع مواطنين ماريوبول يتضورون جوعًا بسبب الضربات الجوية الروسية، أتساءل ما الذي سيفعله دوستويفسكي، الذي ركّز توجهه الأخلاقي الثاقب على مسألة معاناة الأطفال في روايته «الإخوة كارامازوف» التي صدرت عام 1880، ردًا على قصف الجيش الروسي لمسرح اتخذه الأطفال ملجأ لهم، لدرجة أنه كُتب على الرصيف خارج المسرح بخط كبير كلمة «أطفال» حتى يمكن رؤيتها من السماء، حتى لا يمكن اتخاذ عذر أنهم لم يعلموا منْ كان بالداخل.

ركز إيفان كارامازوف، بطل الرواية الرئيسي في «الإخوة كارامازوف»، على قضايا المُساءلة الأخلاقية أكثر من مسائل القبول المسيحي أو التسامح والمصالحة. في محادثاته مع إخوته، يعرض إيفان بشكل روتيني أمثلة على تعرض الأطفال للأذى، ويُناشد الشخصيات الأخرى الاعتراف بالفظائع التي وقعت أمام أعينهم. فهو كان مُصممًا على القصاص.

من المؤكد أن القصف المتعمد للأطفال في ماريوبول هو شيء لا يمكن أن يغض عنه دوستويفسكي الطرف أيضًا. فهل يمكن أن يدافع عن رؤية للأخلاق الروسية بينما يرى مدنيين أبرياء– رجالًا ونساء وأطفالًا- يرقدون في شوارع بوتشا؟

في الوقت نفسه، لا ينبغي للقرّاء أن يتجاهلوا بعض آراء دوستويفسكي غير الملائمة وشعوره بالاستثنائية الروسية. حيثُ ارتبطت هذه الأفكار المتشددة حول عظمة روسيا ومهمتها الإصلاحية بالأيديولوجية الأوسع نطاقًا، التي أسهمت في تغذية المُهمة الاستعمارية السابقة لروسيا، وكذلك السياسات الخارجية الروسية التي نشهدها حاليًا بشكل عنيف في أوكرانيا.

ومع ذلك، كان دوستويفسكي أيضًا مفكرًا إنسانيًا عظيمًا، ربط رؤيته الخاصة بعظمة روسيا بالمعاناة والإيمان الروسي. نشأت نظرة دوستويفسكي للقيمة الروحية للمعاناة الإنسانية نتيجة إرساله إلى معسكر عمل في سيبيريا لمدة خمس سنوات لمجرد مشاركته في نادي الكتاب الاشتراكي المجيد. بالتأكيد نما دوستويفسكي من معاناته، ولكن ليس لدرجة أن يتقبل الإرهاب الذي ترعاه الدولة.

فهل يمكن لمؤلف يشرح في روايته «الجريمة والعقاب» عام 1866 التي أسهبت بتفاصيل مروعة عن ضريبة القتل على القاتل ورؤيته أن منْ يقتل شخص ما إنما يقتل جزءًا من نفسه؛ هل يمكن أن يقبل رؤية بوتين لروسيا؟

بكل بساطة، هل كان أعظم متمرد ميتافيزيقي في روسيا سيرتد ويتمرد على العنف الروسي في أوكرانيا؟

آمل أن يفعل، كما فعل العديد من الكُتّاب الروس المعاصرين. لكن للأسف، عقائد الكرملين منتشرة ويقبلها كثير من الروس، فكثير من الروس يغضون الطرف.

طريق تولستوي إلى السلم

لا يوجد كاتب يُصوِّر الحرب في روسيا بشكل مؤثر أكثر من الجندي السابق الذي تحوّل إلى أشهر دعاة السلام في روسيا، ليو تولستوي.

في آخر أعماله، رواية «الحاج مراد»، يفحص تولستوي استغلال الاستعمار الروسي لشمال القوقاز، وأظهر كيف تسبّب العنف الروسي غير المُبرَّر تجاه قرية شيشانية في كراهية فورية للروس.

قرأ الروس أعظم أعمال تولستوي حول الحرب الروسية، رواية «الحرب والسلام»، بشكل تقليدي خلال الحروب الكبرى، بما في ذلك الحرب العالمية الثانية. ففي الرواية، أكد تولستوي أن الروح المعنوية للجيش الروسي هي مفتاح النصر. والمعارك التي من المرجح أن ينجح فيها الروس هي المعارك الدفاعية، حين يفهم الجنود سبب مشاركتهم في القتال وماذا يحمون بقتالهم هذا، وهو وطنهم.

ومع ذلك، قد كان قادرًا على نقل التجارب المروعة للجنود الروس الشباب الذين دخلوا في مواجهة مباشرة مع أسلحة الموت والدمار في ساحة المعركة، واختفائهم وسط حشد كتيبتهم، وكيف أن خسارة فرد واحد تكون مدمرة للعائلات التي تنتظر عودة أبنائها آمنين.

بعد نشره لرواية «الحرب والسلام»، استنكر تولستوي علنًا العديد من الحملات العسكرية الروسية. لدرجة أنه مُنع من نشر الجزء الأخير من روايته «آنا كارنينا» عام 1878، لأنه انتقد بداخلها تصرفات روسيا في الحرب الروسية التركية. فشخصية «كونستانتين ليفين» التي ابتدعها تولستوي في تلك الرواية، وقال على لسانها بعض من أفكاره، وصفت التدخل الروسي في الحرب بأنه «قتل» ورأت أنه من غير المناسب أن يتم جر الشعب الروسي إليها.

حيث قال على لسانه:

الناس يضحون ومستعدون دائمًا للتضحية بأنفسهم من أجل أرواحهم وليس من أجل القتل.

في عام 1904، كتب تولستوي خطابًا عامًا يُدين الحرب الروسية-اليابانية، والتي قورنت حاليًا في بعض الأحيان بالحرب الروسية في أوكرانيا. حيثُ كتب:

الحرب مرة أخرى، والآلام مرة أخرى، ليست ضرورية لأحد، ولا مبرر لها على الإطلاق. مرة أخرى الاحتيال، ومرة ​​أخرى الذهول العام ونزع إنسانية الرجال.

يكاد المرء يسمعه وهو يصرخ: «فكروا بأنفسكم» -وهو عنوان المقال- لمواطني بلده الآن.

في واحدة من أشهر كتاباته السلمية عام 1900 بعنوان «لا تقتل»، شخَّص تولستوي مشكلة روسيا اليوم بحكمة:

إن بؤس الأمم لا ينتج عن أشخاص معينين، ولكن بسبب النظام الخاص للمجتمع، الذي في ظله يرتبط الناس ببعضهم البعض، لدرجة أنهم يجدون أنفسهم جميعًا تحت سلطة عدد قليل من الرجال، أو في كثير من الأحيان تحت سلطة رجل واحد: رجل منحرف بشدة بسبب وضعه غير الطبيعي كحاكم لمصير وحياة الملايين، لدرجة أنه دائمًا في حالة غير صحية، ويُعاني دائمًا إلى حد ما من هوس تعظيم الذات.

أهمية التصرف

إذا أصر دوستويفسكي على ألا ينظر المرء بعيدًا، فمن العدل أن نقول إن تولستوي سيؤكد أن على الناس التصرف بناءً على ما يرونه.

خلال المجاعة الروسية من عام 1891 حتى 1892، بدأ تولستوي في إنشاء مطابخ للفقراء لمساعدة مواطنيه الذين كانوا يتضورون جوعًا وتخلّت عنهم الحكومة الروسية. وساعد الجنود الروس على التهرب من التجنيد في الإمبراطورية الروسية، وقام بزيارة ودعم الجنود المسجونين الذين لا يرغبون في القتال.

في عام 1899، باع روايته الأخيرة «البعث» لصالح مساعدة طائفة مسيحية روسية -تُدعى Doukhobors- على الهجرة إلى كندا حتى لا يضطروا للقتال في الجيش الروسي.

هؤلاء الكُتّاب ليس لديهم علاقة تُذكر بالحرب الحالية، ولا يمكنهم محو أو تخفيف فظائع الجيش الروسي في أوكرانيا. لكنهم مُدمجون على مستوى ما في النسيج الثقافي الروسي، وحقيقة أن كتبهم لا تزال تُقرأ أمرًا مهمًا. هذا ليس لأن الأدب الروسي يستطيع أن يشرح أيًا ممّا يحدث، لأنه لا يستطيع، ولكن لأنه، كما كتب الكاتب الأوكراني Serhiy Zhadan في مارس/آذار 2022، شكّلت حرب روسيا في أوكرانيا هزيمة للتقاليد الإنسانية الروسية العظيمة.

نظرًا لأن هذه الثقافة تتواءم مع الجيش الروسي الذي قصف الأوكرانيين وذبحهم بشكل عشوائي، يمكن وينبغي قراءة المؤلفين الروس العظماء بشكل نقدي، مع وضع سؤال واحد عاجل في الاعتبار: كيف نوقف العنف؟

أشار زعيم المعارضة الروسي «أليكسي نافالني» خلال محاكمته في مارس/آذار 2022 إلى أن تولستوي حثّ أبناء وطنه على محاربة كل من الاستبداد والحرب لأن أحدهما يُمكّن الآخر.

استشهدت الفنانة الأوكرانية «ألفتينا كاخيدزه» برواية «الحرب والسلام» في يومياتها المصورة في فبراير/شباط 2022، وكتبت:

لقد قرأت أدبكم اللعين، ولكن يبدو أن بوتين لم يفعل، وأنكم نسيتم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.