تتحرك السياسة الخارجية المصرية في عدد من الدوائر التي تفرضها عليها عوامل كالطبيعة الجغرافية واعتبارات الهُوية والأمن القومي، إلا أن اختياراتها في علاقاتها مع الدول العظمى أو التكتلات المختلفة الأكثر تماسكًا في النظام الدولي؛ تحكمها اعتبارات كالمصلحة المتبادلة في العديد من النواحي السياسية (إضفاء شرعية على النظام الحاكم) أو الاقتصادية كزيادة العلاقات المتبادلة بين الدولة والدول الكبرى، أو حتى العسكرية كتبادل صفقات السلاح وتزايد معدلات تسليح الدولة.

ليس ذلك فحسب، بل إن المصلحة تقتضي أحيانًا محاولة استغلال سيولة النظام الدولي والعمل على تحقيق أكبر المكاسب الممكنة في هذا الإطار، مع الأخذ في الاعتبار كيفية تحقيق التوازن في السياسة الخارجية مع الدول العظمى والتكتلات الكبرى تحديدًا بما يعزز من مكانة الدولة المصرية في النظام الدولي أو حتى الإقليمي الشرق أوسطي.

لذا وبرغم أن محيط تفاعل السياسة المصرية مع العالم الخارجي بعد حراك 30 يونيو وما أعقبه، إلا أن هناك بعض المحددات الأساسية التي تعتمد عليها السياسة الخارجية في ضوء تعاطيها مع القوى العظمى، ناهيك عن التطورات التي تحدث من وقت لآخر وتمثل ساحة لاختبار حجم وطبيعة تلك العلاقات على أرض الواقع ومدى تأثيرها في تغيير مسار الأحداث.

تلك المقدمة النظرية كان لا بد منها في إطار الحديث عن تقييم السياسة الخارجية المصرية في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي، وبالتحديد مع كل من روسيا والاتحاد الأوروبي، خاصةً أن العلاقات مع دولة عظمى ما زالت تسعى لاستعادة مكانتها بقوة في النظام الدولي الحالي، مثل روسيا، قد أخذ منحىً مختلفًا في عهد الرئيس السيسي، بل يمكن القول أن تعزيز العلاقات كان الملمح الأساسي لتلك العلاقة بعد ما يمكن تسميته بـ”الخصومة” التي ميَّزت عهد الرئيس الأسبق محمد مرسي.

من ناحية أخرى العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها ألمانيا لا تقل أهمية عن العلاقات مع روسيا وبالتالي سعت السياسة الخارجية المصرية إلى محاولة تحقيق التقارب بين دول الاتحاد وبين مصر لكنها واجهت صعوبات عديدة، باستثناء صفقة الأسلحة الأخيرة بين مصر وفرنسا، لكن ما زالت تلك المحاولات قاصرة عن تعميق أواصر التعاون مع دول الاتحاد، نظرًا “لتدهور الأوضاع الديمقراطية الداخلية في مصر” والذي أبرزه رئيس البرلمان الألماني بشكل واضح في تفسيره لرفضه مقابلة الرئيس عبدالفتاح السيسي.

رئيس البرلمان الألماني
رئيس البرلمان الألماني

في هذا الصدد يرتكز هذا التقرير على تقييم السياسة الخارجية لمصر في عهد الرئيس السيسي مع كل من روسيا والاتحاد الأوروبي؛ بالتركيز على أهداف تلك السياسة، والجهود التي بذلتها الدولة المصرية لتحقيق تلك الأهداف، وما الذي حققته تلك السياسة حتى الآن؟ وما الذي لم تحققه؟ وما يمكن تحقيقه مستقبلا؟ وكيف ستؤثر تلك التوجهات سواء نحو روسيا أو دول أوروبا على مجمل الدور المصري الخارجي وبالتحديد في النظام الإقليمي الشرق أوسطي الذي تقع مصر في القلب منه وتعاني من ويلاته وتداعيات الحروب فيه.

نظام ما بعد 30 يونيو: تحوُّل بوصلة السياسة الخارجية نحو روسيا

فرضت تطورات ما بعد 30 يونيو على السياسة المصرية أن تغير من بوصلتها الخارجية في إطار تعاطيها مع القوى العظمى؛ بتحويل مركز الثقل الأساسي من الولايات المتحدة الأمريكية التي ظلت، وما زالت، تلعب دورًا فاعلا في تفاعلات منطقة الشرق الأوسط وتحديد مساراتها، إلى روسيا التي ما فتئت أن استغلت توتر العلاقات المصرية الأمريكية على ضوء عزل الجيش للرئيس الأسبق محمد مرسي، والذي اعتبرته “انقلابا” على الحكم، وقامت بلعب دور البديل السياسي للولايات المتحدة في هذا الإطار.

وقد غلَّفت التوجهات المصرية نحو روسيا عدد من المحددات تتلخص فيما يلي:

أولا: توتر العلاقات المصرية الأمريكية؛ إذ كان الموقف الأمريكي مما حدث في 30 يونيو وتداعياته سلبيًا على النظام المصري الجديد بعد الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي، وزاد الموقف سوءًا في أعقاب فض اعتصامي رابعة والنهضة، حيث جمدت أمريكا مؤقتا ما يعادل 1.3 مليار دولار من المساعدات العسكرية السنوية التي تقدمها للجيش المصري، من دبابات ومروحيات وصواريخ وطائرات مقاتلة.

وقد دفع هذا السلوك القيادة المصرية للبحث عن بدائل جديدة في العالم تضفي على نظامها الوليد الشرعية من ناحية، وتملأ الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة من ناحية أخرى، وقد تزامن ذلك مع الرغبة الروسية أيضًا في إيجاد حليف لها في منطقة الشرق الأوسط المتلهبة في إطار تعزيز نفوذها الإستراتيجي داخل الإقليم وإنهاك الولايات المتحدة في هذه المنطقة من العالم.

ثانيا: المتغيرات على المستوى الإقليمي؛ خاصة بعد ثورات الربيع العربي والتي بدت السياسة الروسية مرتبكة إلى حد كبير نحو تطوراتها، وقد مثَّلت التطورات التي وقعت في مصر بعد سقوط نظام الإخوان المسلمين، الذي تعاديه روسيا بل وتصنف الجماعة بكونها جماعة إرهابية، مثلت فرصة جيدة لانطلاقة بين مصر وروسيا بالتعاون مع دول الخليج التي ساندت النظام المصري بقوة بعد 30 يونيو، أو بكلمات أخرى فإن اجتماع كل من مصر وروسيا ودول الخليج باستثناء قطر على رفض جماعة الإخوان المسلمين كان بمثابة اتفاق مستتر على تفعيل التعاون بين تلك الدول من أجل إنجاح النظام الذي أسقط الإخوان بشتى الطرق ومنع صعودهم مجددًا إلى السلطة.

ثالثا: المتغيرات الداخلية في البلدين؛ والتي تدفع لمزيد من التعاون والتقارب أكثر من النفور والتباعد؛ فعلى الصعيد المصري يمكن القول أن نظام ما بعد 30 يونيو ظلت شرعيته مهددة خصوصًا بعد الرفض الأمريكي والأوروبي له، وبالتالي كان وجود حليف كروسيا هو البديل الأمثل لتوفير هذا الغطاء الشرعي للنظام، ناهيك عن الرغبة في تفعيل التعاون العسكري تحديدًا فيما يتعلق بالأسلحة والمعدات الثقيلة نظرًا لما تشهده مصر من تهديدات نتيجة تنامي خطر الإرهاب.

أما على الصعيد الروسي فيتوافق التقارب مع مصر مع “إستراتيجية الأمن القومي الروسية حتى عام 2020″، والتي تدعو إلى تحويل “روسيا المُنبعثة” إلى دولة كبرى مجددًا وإلى أن تكون إحدى القوى الخمس الأكبر اقتصادًا في العالم، بالإضافة لمحاولة تدعيم روسيا لموقفها في الأحداث في منطقة الشرق الأوسط وإيمانها بأن مصر مركز ثقل داخل المنطقة لا يمكن التفريط فيه أو التقليل من دوره وتأثيره في مجريات الأحداث.

وفي ضوء تلك المحددات، تحركت السياسة المصرية لتنفيذ ذلك التعاون والتقارب على أرض الواقع من خلال مشروعات اقتصادية وصفقات تسلح مختلفة، وتبادل للزيارات الرسمية بين البلدين للتأكيد على حجم وطبيعة العلاقة بينهما؛ وقد انعكس ذلك الأمر على عدد من الأصعدة؛ لعل أبرزها:

على الصعيد السياسي:

لم تبدأ العلاقات مع روسيا في استعادة بريقها مع تولي السيسي منصب الرئاسة، بل بدأت قبل ذلك حينما كان وزيرًا للدفاع وذلك في الزيارة الرسمية التي ذهب فيها مع وزير الخارجية نبيل فهمي آنذاك في بدايات عام 2014 واستقبلهما الرئيس فلاديمير بوتين. كذلك انعكس حجم العلاقات بين البلدين في الزيارات الرسمية المتبادلة التي تلت 30 يونيو كزيارة السيسي لروسيا في منتصف أغسطس 2014، والتي التقى خلالها الرئيس بوتين، وتوصلا لعدد من التفاهمات لتعزيز التعاون العسكري والتجاري والاستثماري بين البلدين.

زيارة السيسي وزير الدفاع لروسيا
زيارة السيسي وزير الدفاع لروسيا

وكانت أحدث تلك الزيارات هي الزيارة الشهيرة الأخيرة للرئيس بوتين لمصر في فبراير 2015، والتي تم الإعداد لها من الجانب المصري بشكل جيد، وامتلأت مصر بصور الرئيس الروسي في الطرق والكباري المختلفة، بما يوضح حجم الترحيب ليس الرسمي فقط بل الشعبي أيضا بالرئيس الروسي؛ وقد دشنت تلك الزيارة التفاهمات التي توصلت إليه البلدان في الآونة الأخيرة.

وقد أعقب تلك الزيارة ذهاب الرئيس السيسي لموسكو في زيارة استغرقت يومين، تلبية لدعوة من الرئيس فلاديمير بوتين، للمشاركة في الاحتفالات التي تُقام في موسكو بمناسبة الذكرى السبعين لعيد النصر، ودلالة تلك الدعوة مهمة في ضوء التغيرات التي تحيق بالمنطقة وتعكس مدى عمق العلاقات التي يتمع بها البلدان، خاصة أن الدعوة لم تُوَّجه لأي قائد عربي سوى الرئيس السيسي والرئيس محمود عباس أبو مازن.

ولتلك الزيارات في العموم أهمية سياسية كبيرة، إذ يمكن القول أنها تحاول ضبط توازن العلاقات مع روسيا، بل وتمثل ورقة ضغط على النظام الأمريكي من أجل الاعتراف بشرعية النظام السياسي الحالي والتخلي عن دعمه لنظام الإخوان المسلمين.

على الصعيد العسكري:

كان قرار الحكومة الأمريكية بتجميد المساعدات التي تُقدَّم لمصر، دافعا قويًا لجعل روسيا البديل الأساسي والأنسب في تنويع مصادر التسليح؛ فنجد أنه في سبتمبر 2014، تم الإعلان عن صفقة وُقّعت بالأحرف الأولى بين مصر وروسيا لتزويد الأولى بأسلحة دفاعية بقيمة 3.5 مليارات دولار، يتم بموجبها تزويد الجيش المصري بطائرات مقاتلة من طراز “ميغ 29” ومروحيات مقاتلة من طراز “ميغ 35“، ومنظومات دفاع جوية متطورة.

وقد تأكد ذلك الأمر خلال زيارة بوتين الأخيرة لمصر، والتي شهدت توقيع صفقة أسلحة قيمتها 3 مليارات دولار وعقدًا لإنشاء محطة طاقة نووية في موقع الضبعة الذي اعتبره الخبراء الروس صالحًا لإقامة المحطة النووية المصرية.

على الصعيد الاقتصادي:

شهد هذا الصعيد تطورًا ملحوظًا من بعد 30 يونيو؛ حيث أبدت روسيا استعدادها لصيانة المصانع المصرية التي سبق أن أسهم الروس في إنشائها في مصر، وبحث تمويل خطي المترو الجديدين، ومناقشة إنشاء صوامع روسية لتخزين القمح في مصر.

أما في مجال التبادل التجاري فقد بلغ حجم الميزان التجارى العام الماضي نحو 5,5 مليار دولار، منها 580 مليون دولار صادرات مصرية، معظمها من المحاصيل الزراعية بنحو 4 مليارات جنيه، وتعد روسيا أكبر مصدر للقمح والسياحة إلى السوق المصرية.

من ناحية أخرى، تم التأكيد على ضرورة تفعيل آليات التعاون بين مصر وروسيا خاصة فيما يتعلق باستعادة مصر لمكانتها السياحية بالنسبة للسياح الروس، وبالتالي أعلنت وزارة السياحة المصرية أن الوزارة تستهدف جذب نحو 2.8 مليون سائح روسي سنويا، عبر السعي إلى الاستحواذ على أكبر نسبة من السائحين الروس لتغيير وجهتهم نحو مصر وتحسين صورة الأوضاع الداخلية في مصر بما يساهم في جذب السياح الروس، كما تم إطلاق حملة تسويقية كبرى بالتعاون مع وزارة السياحة من أجل تنشيط السياحة الروسية مرة أخرى، وتم وضع خطة لزيادة الأعداد، والتحرك نحو المدن الروسية الكبرى المصدرة للسياحة بالاتفاق مع وزير السياحة المصري.

السياحة الروسية في مصر
السياحة الروسية في مصر

كما تم استئناف المشاورات الخاصة ببدء مفاوضات توقيع اتفاق تجارة حرة بين مصر ودول الاتحاد الجمركي الأوروآسـيوي والذي يضم كلا من روسيا الاتحـادية وكازاخستان وروسيـا البيضـاء (بيلاروسيا) وذلك بعد توقف دام ثلاث سنوات. كما جرت فاعليات الدورة التاسعة للجنة المصرية الروسية المشتركة للتعاون التجاري والاقتصادي والعلمي والفني، والتي عقدت على مدى 3 أيام بالعاصمة الروسية، خلال شهر مارس 2014. وفي ختام هذا الاجتماع تم توقيع بروتوكول تعاون في مجالات التجارة، الصناع، الاستثمار، النقل، البنوك، الاتصالات، الزراعة، الجمارك، الري، البنية التحتية، البيئة، البترول، النقل.

وبرغم أن الاستثمارات الروسية بشكل عام ما زالت تمثل الجانب الأضعف فى أضلع العلاقات المصرية الروسية إلا أنه يمكن القول أن ما حققته السياسة الخارجية المصرية في هذا الإطار يعد أمرًا مقبولا في ظل الأوضاع الداخلية التي تمر بها مصر، كما أن الجهود المتواصلة من الجانبين المصري والروسي لتعزيز تلك العلاقات هي أبلغ دليل على إمكانية نموها في المرحلة المقبلة، خاصة بعد المشاركة الروسية في المؤتمر الاقتصادي المصري الذي عُقد في شرم الشيخ، وما أُثير بشأن توقيع مذكرات تفاهم بين البلدين في مجالات الاستثمار والغاز والطاقة غير التقليدية، والتأكيد على مساهمة الجانب الروسي في إقامة منطقة الضبعة النووية.

الاتحاد الأوروبي ونظام ما بعد 30 يونيو: من الرفض والقلق إلى الاتزان

يمكن القول أن موقف الاتحاد الأوروبي بدا مرتبكًا تجاه التطورات التي وقعت في مصر بعد 30 يونيو فرغم دعوة دول الاتحاد المستمرة لضرورة العودة إلى العملية الديمقراطية، مُبدية قلقها من تطورات الأوضاع وانتهاكات حقوق الإنسان في مصر، إلا إنها لم تصف الأمر صراحة بأنه “انقلاب” على السلطة، بل إنها أرادت أن تتابع الموقف عن كثب وبترقبٍ مشوبٍ بحذر من تداعيات تلك التطورات على نموذج الديمقراطية وحقوق الإنسان الذي تمثله وتحاول أن تدعمه في دول مثل مصر. لكن استمرار تراجع حقوق الإنسان في مصر ما زال يهدد العلاقات المصرية الأوروبية لكنه لن يؤدي إلى قطعها، وذلك لعدد من الحقائق التي يجب تسليط الضوء عليها ابتداء لفهم الموقف الأوروبي من نظام ما بعد 30 يونيو.

تعد علاقات الاتحاد الأوربي مع مصر إحدى أهم دوائر السياسة الخارجية الأوروبية؛ لأسباب سياسية واقتصادية ولوجستية، تتعلق بمصالح بلدانها التي تتأثر بالوضع في مصر التي تقع على الشاطئ المقابل من البحر المتوسط.

فالاتحاد الأوربي يعتبر مصر مهمة له من زاوية الاستقرار السياسي الذي ينعكس على الهدوء على ضفتي “المتوسط”، ويتخوف من انتشار أعمال العنف وانتعاش التطرف الديني سواء من داعش أو القاعدة؛ بسبب غياب المعتدلين وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين، في وجهة نظر الاتحاد الأوروبي، لذلك دومًا يدعم الاتحاد فكرة المصالحة الوطنية التي تضم جميع الأطراف دون إقصاء، بما يعيد الإخوان للعملية السياسية باعتبارها رمزًا للاعتدال الإسلامي في ظل الواقع المتطرف من جانب التنظيمات الإرهابية المختلفة، وتم تكثيف هذه المطالبات خصوصًا بعد هجمات فرنسا وتصاعد موجة العنف في الدول الأوروبية.

أوروبا، من ناحية أخرى، هي الشريك التجاري الثاني لمصر، ومصدر مهم للاستثمار الأجنبي في المجالات المختلفة، وتعول القاهرة كثيرًا عليها في استثماراتها، ومن ثم فإن أي تقييمات سلبية من جانب الاتحاد الأوروبي للأوضاع السياسية والحقوقية في مصر يبدو بمثابة “رسالة” ضغط اقتصادية، في وقت تعاني فيه مصر بالفعل من تدهور اقتصادي وتقلص في المعونات الخليجية؛ بفعل انخفاض عوائد النفط، وعدم الاستقرار الأمني والسياسي.

وبعيدًا عن موقف دول الاتحاد من أحداث 30 يونيو والتي أجمعت معظمها على رفض التدخل السياسي للجيش في العملية السياسية ثم تغير ذلك الموقف بعدها واعتبار ما حدث يعد “امتثالا لإرادة الشعب المصري” كما جاء على لسان كاثرين آشتون في لقائها مع الرئيس السابق عدلي منصور، والتأكيد على استمرار المساعدات إلا أن العلاقات المصرية مع الاتحاد الأوروبي قد مرت بعدد من المحطات الهامة التي ساهمت في تدهورها أكثر مما ساهمت في تعزيزها وتنميتها، ومن أبرز تلك المحطات؛

لقاء كاترين آشتون مع عدلي منصور
لقاء كاترين آشتون مع عدلي منصور

المحطة الأولى: فض اعتصامي رابعة والنهضة:

حيث أشار الاتحاد الأوروبي إلى أن “أنباء سقوط القتلى تثير قلقًا بالغًا، وأن العنف لن يؤدي إلى حل”، مطالبًا بضبط النفس، كما طالبت كاترين آشتون بضرورة إنهاء حالة الطوارئ “بأسرع ما يمكن”، وعقب فض الاعتصام بأسبوع أعلن الاتحاد الأوربي تعليق ترخيص تصدير الأسلحة التي قد تستخدم في القمع الداخلي في مصر، وقد طلبت بريطانيا وفرنسا وأستراليا بضرورة انعقاد مجلس الأمن لمناقشة الأوضاع المصرية.

كذلك استدعت الخارجية البريطانية السفير المصري لديها وطالبت بضبط النفس، ودعا وزير الخارجية البريطاني وليام هيج في بيان له، قيادات كل الأطراف بالعمل لخفض احتمال وقوع أعمال عنف من خلال الحوار وضبط النفس، ثم أعلن بعدها بأيام قليلة وقف التعاون الأمني مع الجانب المصري وإلغاء عدد من اتفاقيات السلاح المبرمة بين الطرفين، وهو ما أثار موجة غضب داخليا واعتبار القرار البريطاني تابعًا لنظيره الأمريكي بعد إلغائها المناورات العسكرية.

كان الموقف الإيطالي والفرنسي والألماني متشابهين مع الموقف البريطاني، حيث قامت تلك الدول باستدعاء سفراء مصر لديها، معربين عن قلقهم بشأن الأحداث في مصر وضرورة ضبط النفس والحاجة إلى الحوار للخروج من الأزمة الحالية.

المحطة الثانية؛ مسألة حقوق الإنسان في مصر:

حيث أصدر الاتحاد الأوربي بيانًا، تناول فيه الأوضاع الداخلية في مصر بشكل سلبي أمام الدورة الـ 27 لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بجنيف في سبتمبر 2014، ما أدى إلى استياء الرأي العام والدولة المصرية من التناقض في الموقف وتدخل الاتحاد الأوربي في الشأن المصري.

مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة
مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة

وقد أعرب الاتحاد الأوربي في بيانه عن شعوره بالقلق إزاء تدهور أوضاع حقوق الإنسان في مصر بما في ذلك “الاعتقال العشوائي للمعارضة السياسية والنشطاء”، مطالبًا السلطات المصرية “بصيانة حرية التعبير والتجمع والاحتجاج السلمي”، وندد الاتحاد الأوربي بتدهور مناخ الصحافة وتراجع حرية التعبير وتجريم التظاهرات والتجمعات والاحتجاجات السلمية في مصر.

وبرغم رفض الخارجية المصرية لهذا البيان واعتباره بأنه بمثابة تدخل في الشأن الداخلي المصري واستدعائها لسفراء الاتحاد الأوروبي في القاهرة وإعلانها رفضها الكامل لهذا البيان، إلا أن هذا الأخذ والرد في العلاقات ساعد على توترها أكثر لا تعميقها وتعزيزها.

المحطة الثالثة؛ مراقبة الاتحاد الأوروبي للانتخابات:

فبعد موافقة الاتحاد على مراقبة الانتخابات البرلمانية التي كان من المقرر إجرائها في مارس الماضي ثم تأجلت، قالت الممثلة العليا لشؤون السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي “فيديريكا موجيريني”، إن الاتحاد “لن يرسل بعثة كاملة لمراقبة الانتخابات البرلمانية المصرية، لكن سننشر بعثة خبراء أصغر لتقديم تقرير بشأن البيئة السياسية للانتخابات والحملة الانتخابية”، ثم بعدها صدر قرار آخر صادم من الاتحاد الأوروبي أكد على عدة عناصر أهمها؛ أن انتخابات برلمان 2012 صحيحة، مطالبا بالإفراج عن كل المعتقلين بما فيهم 167 نائبًا معتقلًا، كما شكك البيان في انتخابات الرئاسة التي فاز فيها الرئيس السيسي في مايو الماضي 2014، معتبرًا إنها: “لم تستكمل المعايير الدولية”، فضلا عن كونه اتهم الحكومة الحالية وأجهزة أمنها بأنها تمارس العنف ضد كل المصريين.

فيديريكا موجيريني الممثلة العليا للسياسة الخارجية والأمنية بالاتحاد الأوروبي
فيديريكا موجيريني الممثلة العليا للسياسة الخارجية والأمنية بالاتحاد الأوروبي

كل تلك المحطات الهامة في علاقة الاتحاد الأوروبي بمصر في عهد الرئيس السيسي أثَّرت بشكل سلبي في مسار العلاقات بشكل عام، إلا أن هذا لا يعني التأثير على العلاقات الثنائية مع بعض دول الاتحاد بشكل منفرد؛ فنجد أنه بعد خطاب السيسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حدث تقارب نسبي في وجهات النظر والذي دفع إلى إتمام صفقة شراء مصر 24 طائرة «رافال»، «4 أسراب» من فرنسا ضمن أكبر صفقة عسكرية منذ عدة سنوات بلغت 5.2 مليار يورو، هذا بالإضافة إلى الدعوة الأخيرة التي وُجهت للرئيس السيسي من جانب المستشارة الأمريكية آنجيلا ميركل لزيارة ألمانيا والتي من شأنها أن تحدث تحولا في طبيعة العلاقات مع الاتحاد الأوروبي ككل وذلك كون ألمانيا تمثل الجناح الأقوى والصوت المسموع بين دول الاتحاد.

بيد أن تلك الزيارة الأخيرة نفسها شابها توتر من نوعٍ خاص بعد إلغاء رئيس البرلمان الألماني “البوندستاغ” نوربرت لامرت، إلغاء لقاء كان مقررًا مع الرئيس السيسي خلال زيارته لألمانيا، نتيجة لاستمرار ملاحقة المعارضين والنشطاء في مصر وتعثر العملية الديمقراطية وأحكام الإعدام المشكوك في صحتها على حد تعبيره، إلا أن تلك الزيارة إذا لم تثبت للمجتمع الألماني قدرة الجانب المصري على تحقيق الاستقرار والتقدم في ضوء عملية ديمقراطية نزيهة وشفافة، وإذا لم تحاول علاج الشرخ الذي حدث في العلاقات المصرية الأوروبية، فإنها قد تفقد مصر أحد أهم حلفائها في العالم.

حدود الدور المصري في ضوء علاقاته الخارجية

توقيع اتفاقية الرافال بين مصر وفرنسا
توقيع اتفاقية الرافال بين مصر وفرنسا

ليس من شك أن هناك العديد من العوامل التي تؤثر على حدود ومظاهر الدور الخارجي لأي دولة ومنها تهديدات الأمن والاستقرار، ومعدلات النمو الاقتصادي، وكذلك الحريات السياسية المتاحة لمواطنيه. من ناحية أخرى فإن سلوك الدولة المصرية الخارجي مرهون بطبيعة فكر قيادتها السياسية ورغبتها في ممارسة دورها ونفوذها في ضوء التطورات الإقليمية التي تمر بها من المنطقة.

في هذا الصدد يمكن القول أن السياسة المصرية قد نجحت حتى الآن وبدرجة معقولة في كسب ود الجانب الروسي واستطاعت استغلال حالة السيولة في النظام الدولي من أجل استخدام روسيا كورقة ضغط على صانع القرار الأمريكي بما دفع الأخير لاستئناف المعونة الاقتصادية التي كانت قد تم تجميدها كما ذكرنا. من ناحية أخرى فإن تعاطي النظام المصري مع الدب الروسي لا ينطلق من علاقات دولة حليفة بقدر ما يبدو أنها صداقة استراتيجية لها أهدافها ومصالحها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتي تبَّدت في العديد من الأشكال التي ذكرناها آنفًا.

إلا أن التطورات التي يمر بها الإقليم والملفات المطروحة على ساحته قد تؤثر بدرجة ما على طبيعة تلك العلاقات خاصة بعد الحرب الأهلية الدائرة في اليمن، والتي تشترك مصر في العمليات العسكرية لوأد جماعة الحوثيين هناك، والمدعومة من إيران المدعومة من روسيا، واحتمالات امتداد هذا التحالف العسكري المصري الخليجي لللتدخل في سوريا لإسقاط نظام الأسد الحليف لروسيا، وتعد سوريا أحد أهم وأبرز المحطات الاستراتيجية لروسيا والتي لن تتخلى عنها بسهولة لأنها المدخل الوحيد لها على منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي فإن استمرار العلاقات المصرية الروسية بوتيرتها المتصاعدة تدريجيًا مرهون بكيفية التنسيق وبحدود الدور الذي يمكن أن تلعبه مصر في هذا الأمر بما لا يضر بالمصالح الروسية في المنطقة.

الحوثيين
الحوثيين

أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي فمازال التشكك والترقب هو الملمح المميز للعلاقة المتوترة مع مصر، خاصة بعد البيان الأخير الخاص بمراقبة الانتخابات، إلا أن حلحلة هذا الموقف تبدأ من ألمانيا بالأساس ومن ثم تبدو أهمية الزيارة الأخيرة للرئيس السيسي لألمانيا وما قد يتبعها من تطورات ستؤثر بالضرورة على نظرة دول الاتحاد للنظام المصري من بعد 30 يونيو؛ إذ أن وعود تحقيق الديمقراطية المتعثرة في مصر بما تتطلبه من إجراء الانتخابات البرلمانية والالتزام بخارطة الطريق من ناحية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين وإعادة النظر في قانون التظاهر من ناحية ثانية، وإتاحة مناخ تسوده أجواء حرية الرأي والتعبير والصحافة من ثالثة، كلها من شأنها أن تساهم في تحسين صورة النظام المصري أمام المجتمع الأوروبي بما يستتبعه ذلك من تدعيم العلاقات فيما بينهم سواء الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية.

لذا فإن حدود الدور المصري في النظام الدولي والإقليمي على حد سواء مرهون بفكرة المواءمات السياسية والقدرة على تحقيق التوازن المطلوب بين الأمن وما يستتبعه من تعزيز لنمو الاقتصاد القومي، وبين الالتزام بتحقيق الحرية ومتطلباتها بما يدعم مناخ الرأي والتعبير الذي تُقدِّره المجتمعات الأوروبية وتعتبره ركنًا أساسيًا في العلاقات بين الدول.

*باحث في العلوم السياسية

اقرأ المزيد

خطاب السيسي في عام: ما الذي قاله وما دلالاته؟بعد عام من الحكم: حصاد الحرب على الإرهابهل يستقر نظام السيسي؟ (1)السياسة الاقتصادية للسيسي: ماذا استهدفت وماذا حققت؟ (1)“عام من الإنجازات”: كيف قيّم السيسي أداءه في عامقراءة في ملامح العلاقات المصرية العربية في عهد السيسي