تعيش القطط حياة جيدة في المعادي، في دجلة والسرايات والزهراء، وكذلك في روايات هاروكي موراكامي. ربما قتل بعضهم بوحشية في شارع أحمد زكي، أو سائق تاكسي بالقرب من الثكنات تعثر بها فقتلها، أو ربطها طفل في حبل حتى ماتت، وفي رواية «كافكا على الشاطئ» وقعت مذبحة للقطط على يد جون ووكر، لكن الدور المحوري للقطط في روايات موراكامي ومناطق المعادي الغنية يغفر بعض الدراما التي تمر بها القطط من حين لآخر.

يذكرني صديقي أنه بدأ يسمع كلمات وإشارات قطط المعادي منذ أن قرأ حكاية ناكاتا في رواية «كافكا على الشاطئ». كنت وما زلت أسمع كلمات القطط قبل قراءة حكاية ناكاتا. ربما سيتعجب موراكامي لو جاء إلى المعادي وشاهد قططها، أو ربما هذا هو حال كل القطط حول العالم، في المعادي وطوكيو، تتحدث طيلة الوقت وجميعها يحب ناكاتا.

تعرض ناكتا لحادث غريب على إثره أصبح يتحدث للقطط ويسمع حكاياتها. ترشد القطط بطل الرواية كثيرًا، تعطله بعض الوقت، تجعل الجميع يعامله كمجنون. يسير ناكاتا في المدينة لا يبالي بالناس. يختار أن يقف دومًا في صف القطط. كذلك أفعل في المعادي.

تتمتع المعادي بشعبية كبيرة كحي راقٍ، أو بعضه راقٍ. المعادي تجارية كروايات موراكامي، لكنها أقل ابتذالاً من الزمالك. يحقق الياباني مبيعات ضخمة، ينتظر الملايين رواياته كل عام، يرشحه باراك أوباما للقراءة ويظهر في قوائم أوبرا وينفري، لكنه أقل أهمية من كازوو إيشيجورو، الإنجليزي الياباني الفائز بنوبل للآداب، كما المعادي أقل تراثية من مصر الجديدة. لا أحب إيشيجورو، ولا أحب مصر الجديدة.

بينما أراه كاتبًا مهمًا حتى لو كان تجاريًا، فلديه قدرة على نسج الموسيقى والكلاسيكيات في روايته بطريقه من الصعب تكرارها. لديه خيال جامح وطازج لا يمكن مقارنته بأي عمل آخر. لديه روح كافكاوية عصرية وقدرة على الحكي تجعله دائمًا من المرشحين للفوز بجائزة نوبل التي أعرف أنه لن ينالها أبدًا.

حتى لو لم تزر المعادي من قبل فأنت على الأقل سمعت عن أسطورتها؛ المتاهة الكبرى. تتكرر المشاهد المعمارية فتصنع أسطورة عن الحي التي يتوه فيه الجميع، ميدان كبير أخضر تتوسطه أشجار عتيقة، ومحل ورد زجاجي بجوار كشك سجائر، يعقبه ميدان وكشك ومحل ورد، ويسبقه بالطبع نفس المنظر. بعض الميادين ذات أربعة شوارع، بعضها بخمسة، بعضها بثلاثة، للمضي قدمًا في خط مستقيم كل ما تحتاجه في الأغلب أن تكسر تلك الاستقامة وتدور مع الميدان للشارع الثاني أو الثالث؛ ليس خيارًا تقليديًا لمفهومنا عن الاستقامة.

في روايات موراكامي أيضًا تكرار مشابه، الشوارع هي موسيقاه، لا تأخذنا الموسيقى من نقطة لنقطة في خط مستقيم، بل تدفع أبطالنا بشكل غير تقليدي نحو الرحلة، نحو الهدف، لحظة الكشف والتجلي، في ثلاثية 1Q84  تنقلنا الموسيقي من عالم لعالم موازٍ آخر، من عالم طبيعي لعالم بقمرين. عبر الموسيقى وحدها نرحل من عالمنا لعالم شديد الغرابة والتفاصيل. وتفعّل الموسيقي الكلاسيكية ذاكرة الفتاة المكتئبة في «الغابة النرويجية»، تعود فتتذكر كل الأحداث التي ظنت أنها لم تعرفها أبدًا. والأغنية هي مصدر إلهام عنوان رواية «جنوب الحدود غرب الشمس».

في العمارة يتوافق تصميم المعادي مع الأفكار العصرية عن تصاميم المدن، وفي الفن يعيش الرسام حياته كلها يرسم لوحة واحدة يكررها حتى الكمال. لا يختلف معمار موراكامي كثيرًا عن معمار المعادي؛ تكرار مبتكر في كل مرة، ظاهره متماثل وباطنه شديد التابين.

افتتح موراكامي ناديًا للجاز، موسيقى الفردانية، الخروج عن المتعارف عليه والتغريد في وصلات ممتدة تعتمد على الموهبة لا على التنظيم. في المعادي أيضًا يعزف الجاز يوميًا، لا كموسيقى بل كمفهوم. تغرد مطاعمها منفردة، لا يوجد سياق أو ترتيب تجاري منطقي معتاد. كثير من مطاعمها لا يتكرر في أي موقع آخر، لا فروع أخرى لتلك المطاعم المتفردة خارج حدود الجاز أو حدود المعادي.

لا يقدم أدب موراكامي اليابان التاريخية، يابان ما قبل الحرب أو يابان الساموراي، بل تلك المتأمركة الغربية، المنغمسة، الهاربة من جنود لا يتوقفون عن القتال حتى بعد انتهاء الحرب، المطاردة بمأساة القنبلة النووية، التسونامي. تتعدد مشاهد مباريات البيسبول في رواياته ويتلاشى السومو، يطغى الجاز ومقطوعات باخ وبتهوفن على الهوكاجو (الموسيقى اليابانية التقليدية)، تثير نسمات الربيع تنورات الجميلات لا رداء الكيمونو، يجلس أبطاله يحتسون البيرة بدلًا من الشاي الأخضر، وينتحرون غضبًا للحب لا سعيًا للترقي الوظيفي، يتقن أبطاله الرجال الطبخ، لكنه الاسباجيتي بكرات اللحم عوضًا عن شوربة الميزو.

لا تقدم المعادي حيًا تاريخيًا، لا واجهات خلابة كوسط المدينة، لا كنائس عملاقة كمصر الجديدة، بل مدينة خاصة تتجاوز تاريخها والحاضر المحيط لتقدم معمارًا يخدم ساكنيه بعيدًا عن زخرفه زائدة، كومبوند مفتوح دومًا ومستعد للاندماج مع كل ما يقدم له.

أركض في دجلة صباحًا وأتذكر موراكامي، قد يكون أحد المتريضين بجواري، يحب الركض كثيرًا، يركض أكثر من ثلاثة أميال يوميًا، يدخل ماراثونات متنوعة حول العالم. في الماراثون أنت لا تسابق أحدًا، فقط نفسك، يمكنك أن تترك السباق وقتما تشاء. لو أكملت عدة سباقات فالتحدي يكون شخصيًا، أن تحقق رقمًا أفضل أو فقط تبقي على المشاركة ودوريتها. لا يشغل موراكامي باله بالمنافسة كثيرًا كرياضي بالتأكيد، أما كروائي فلا أعرف، المعادي أيضًا لا تشغل بالها بالمنافسة، تزدهر وتكبر وتستوعب دون أن تحاول أن تكون الأفضل، تكمل السباق من أجل الاستمرارية لا من أجل المنافسة، لن يتم اختيارها المدينة الأفضل، ولن تتوقف عن المحاولة لتكون.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.