وجدت نفسي مهتمًا بمطالعة ما يكتبه العديد من رموز الساحة الحاليين من مقالات وتدوينات على المواقع الإلكترونية المختلفة، باختلاف مشاربهم العلمية وذائقتهم المعرفية. ووجدتني أثناء القراءة أتساءل وأحلل، أتفق وأنتقد. أحاول سبر غور البنية الكامنة وراء التعدد الظاهر في القضايا والآراء، وأسعى جاهدًا لتجريد النماذج المعرفية العامة وراء كثير من الاختلافات.

وتساءلت لم لا أشرع في كتابة مقالات أتفق فيها وأنتقد، أحلل فيها وأضيف إلى عملية الكتابة الأولى، فأجعل من القراءة التفاعلية عملية كتابة جديدة كما يصف رولان بارت مثل هذا النوع من القراءة؟ كما أنني تبينت أن قرائتي تمثل تجليًا لهمومي المعرفية التي لا تنفك عن مكابدتي لإثراء المعاني الكلية عن الله ونفسي والواقع الذي أحياه، فوجدت أن نتاج هذا التفاعل سيكون حافزًا لحالة حوارية حول النصوص، وهذا بدوره يستنطقها ويضفى عليها قدرًا من الحياة اللازم لها إن كنا نرجو منها تغييرًا حقيقيًا ونأمل لها بفعالية نابضة.

وما دفعني كذلك للخوض في هذا الأمر، محاولة لكشف كيف يرى طلاب العلم والمفكرون والكتاب الجادين الواقع الحالي بعد الأحداث الجسام التي ألمت بنا جميعًا؟ وما هي أوجه الاتفاق الضمني التي تختبئ بين السطور مستترة وارء اختلاف التوجهات وتنوع المشارب؟ وما هي الروح السارية غير الواعية التي تتدفق في شرايين العمل الإسلامي الحالي؟ كل تلك الأسئلة ألحت علي وقادتني إلى الشروع في كتابة هذه السلسلة. وكان أول ما قدر الله لي الاستهلال به هو مقال «جيل يعاني العجز وقهر الرجال» للشيخ أنس السلطان. وسأشرع في تحليله على مستوى البنية والمضمون.

المقال متماسك على مستوى البنية؛ تتكامل فيه المقدمة الوصفية بانسيابها وجريانها مع التدقيق اللغوي بدقته وانضباطه، وقد استهل الشيخ المقالة بوصفه الناجع للحالة التي يخطف بها القلوب ويُشِعر المُطَالِع أنه مهموم بما في داخله، وقد تداعى إليّ الاستهلال القرآني في سورة العاديات في وصف الخيل وأنا أقرأ مقدمة المقال. وهذا النوع من البدايات إن لم يوظف جيدًا، يخرج القارئ عن مجال التأثير لما هو مكتوب؛ إذ أن إقحامه في صلب الموضوع مباشرة لا بد أن يكون جنس المقحوم فيه يخاطب همومه ويثير وجدانه، ولكنه في المقال قد وُظِف توظيفًا فاعلاً وآسرًا.

ولقد عمل العنوان على تمهيد هذه البداية المُقحِمة لصلب القضية، وعمل على جذب المُتَلَقي للمواصلة إيمانًا منه أن الكاتب يقدر ما بداخله، ويحاول مساعدته آخذًا من حالته نقطة البداية، لا مفترضَا بداية ما على المتلقي الانبعاج حتى يتواءم معها، ويصبح قادرًا بعدها على التلقي والفهم. ومن دلائل تماسك البنية توظيف الدقة والانضباط اللغوي في منتصف المقال لتعمل عمل الدعامة ؛ تُحكِم سريان المقدمة حتى لا يتدفق السريان ويستحيل إلى توصيف هلامي سائل بلا ملامح، وتُحدِث ترابطًا بين الوصف الاستهلالي والحل المُقتَرَح. كما أن الاستشهادات الواردة في النص داعمة لفكرته، ومتشربة بإحكام في بنيته كما في حديث الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم.

ومن حيث المضمون أرى أن المقال يعكس حالة حقيقية أصيلة كانت غائبة في حركة الدعوة في الفترات السابقة ؛ ألا وهي التعامل مع المجتمع وفقُا لحالته الحقيقية التي هو عليها، الشعور الحقيقي بهمومهم، وليس افتراض حالة طوباوية يجب على المجتمع الوصول لها بغض النظر عن حالته الحالية، فالانطلاق من الحالة الحالية لا الحالة الطوباوية المُفتَرَضَة نقطة قوة تُحسَب لكاتب المقال.

وفي الوقت ذاته أجد أن تلك الحالة ما زالت في طور التكوين، ولقد تسرع الكاتب في الحل المقترح في مواصلة العمل قدر الاستطاعة، وقبله صوغ مآلات العجز في ثنائية ضيقة: إما الفتور عن العمل، أو العمل، كما لو كان الأمر محصورًا في هذين الصورتين فحسب، وهذا يجرنا لسؤال لا يتسع المجال هنا للاستفاضة فيه: علاقة المعاني الإيمانية المُرَاد إنزالها في الواقع بصورة الأعمال في ظل تحديات الراهنة؟

ونأتي لحل العمل المُقتَرَح في المقال وأجيب من المقال نفسه، فالعمل في الواقع الحالي شأنه شأن الكلمات المذكورة في أوائل المقال كالانتماء وغيرها باتت دالة بلا مدلول لدى الكثيرين في حالة العجز المتفشية، فعن أي عمل نتحدث! عن العمل في الشركات النظامية السالبة للحرية؟ أم العمل التطوعي الذي أضحى في أغلبه معاول للهدم لا للبناء؟ أم العمل «الجواني» لنفوس واهنة من كثرة الآلام والجراح؟ … إلخ.

ولهذا أرى أن مفهوم العمل بحاجة إلى تحرير وإثراء حتى تستعيد تلك الكلمة مدلولها، وحتى لا تخمد جذوة الحماسة التي يلهبها المقال بوصفه الجياش ودقته اللغوية أمام السيل العرم من تحديات الواقع. ففي ظني أن الواقع أصبح أكثر تعقيدًا من مُجَرَد الحث فيه على العمل ومواصلته دون عملية تحرير وتفكيك لمنطلقاته وتحدياته الحالية، وأرى أن الصور المُحتَمَلة لا بد أن تتنوع بدلاً من حصرها في ثنائية العمل أو التوقف عن العمل بحيث تناسب الصور الحالات «الجوانية» المُرَكَبة لأبناء هذا الجيل، وتتماشى مع حجم ملابساته المُعَقَدَة.

وختامًا فالمقال يعكس حالة جادة في الالتفات لحال المتلقي المنوط به، ولكنها بحاجة للإنضاج كي تثمر المزيد في المستقبل.

والله أعلم

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.