بعد عقود قليلة من الآن لن يعود هناك هذا العالم الافتراضي المسمى بـ«فيسبوك»، سيكون هناك عالم آخر بديل يسمى «Oasis – الواحة»، يمكنك أن تلج إليه عبر نظارة للواقع الافتراضي، فتكون شخصًا آخر تمامًا بهيئة مختلفة تختارها بنفسك، يمكنك أن تكون على شكل «بطوط» أو «مازنجر»، أو تختار هيئة ـ«براد بيت»، أو تكوني «سيندرلا» أو مقاتلة من مقالات الـ«أمازون»، يمكنك أن تتجول في عالم من الواقع الافتراضي «Virtual Reality» مليء حتى آخره بملايين التفاصيل، طرق ومدن بل كواكب ومجرات، عالم يسكنه ملايين الأفراد ويتفاعلون فيما بينهم، لدرجة أنك لن تعرف متى يبدأ الحلم ومتى ينتهي، وأين هو عالمك الواقعي بالضبط.

يقدم لنا المخرج الألمعي «ستيفن سبيلبيرج» أيقونة جديدة من الخيال العلمي، يرصها جنبًا إلى جنب مع إبداعاته الفنتازية السابقة، «ET» و«AI» و«Minority Report»، وغيرها من الأعمال المبهرة والمشبعة التي قدمها على مدى سنوات طويلة من الاستكشاف. المرعب هذه المرة أن خياله العلمي يقترب كثيرًا من واقعنا، ولا يبدو خيالًا بقدر ما يبدو أمرًا قريبًا على وشك التحقق والقصة كلها مسألة وقت، ومسألة ظهور رائد أعمال جديد شجاع ومغامر بفكرة جديدة يأخذ الفكرة ليحولها لواقع يستخدمه الملايين، مثلما فعل «زوكربرج» مع فيسبوك، ومثلما فعل «جوبس» مع «آيفون».

تدور أحداث فيلم «جاهز أيها اللاعب الأول – Ready Player One» في المستقبل القريب، بعد أن تعصف بالأرض عدة كوارث طبيعية وكوارث أخرى من صنع البشر، فتتحول المدن العالمية العظمى إلى مجموعة من مدن الصفيح العشوائية، ويسكن الناس في مقطورات «Trailers» فقيرة مكدسة، ويقاوم الناس واقعهم الأليم عبر الانخراط في خدمة تقنية جديدة للواقع الافتراضي، يطلق عليها مبتكروها اسم الواحة، حيث يختار كل منهم شخصيته البديلة «Avatar» كما يتمناها وينخرط في أي نشاط يمكن أن يحلم به، من قيادة السيارات السريعة، لخوض الحروب العنيفة، للعب التنس، أو الاستلقاء على شاطئ مشمس نظيف، أو التحول لرجل أعمال ناجح.

في هذا العالم عليك أن تجمع العملات الافتراضية لتستطيع شراء ما تحلم به، ولتتمكن من الاستمتاع بطموحاتك الافتراضية لأطول وقت ممكن. ثم يحدث أن يتوفى مؤسس تقنية الواحة، وينتشر بعدها بث لفيديو مسجل قام بإعداده قبل وفاته، يعلن فيه أنه سينتازل عن مملكته التكنولوجية التي تقدر بمئات المليارات من الدولارات إلى الشخص الذي يستطيع حل لغز معقد داخل الواحة، ويحصل على ثلاثة مفاتيح مخفية ستقوده إلى «بيضة عيد الفصح» المخفية أيضًا، من يحصل عليه أولًا ستخضع الواحة لإرادته التامة.

في عالم بصري شديد الإبهار – تصوير الـ«IMAX» مع تقنية الرسوم ثلاثية الأبعاد «3D» – يأخذنا سبيلبريج في عالم مذهل من بنات خياله، حيث يتسابق آلاف الأشخاص من أجل تحصيل تركة عالم التكنولوجيا الفذ «هاليداي»، وعلى رأسهم بطل الفيلم المراهق «بارزيفال» ومجموعة من أصدقائه الذين يتعرف عليهم في العالم الافتراضي، ويصطدم بإحدى الشركات التي تجند مئات من موظفيها من أجل الوصول إلى البيضة قبل أي شخص آخر، يقود تلك الشركة رجل الأعمال «سورينتو» الذي لن يترك الواحة التي يبلغ حجمها السوقي مليارات من الدولارات، لن يترك تلك الثروة الطائلة لتئول للاعبين هواة من الشباب، مع كل ما تعنيه الواحة من سيطرة على المستقبل ونفوذ متغلغل يسيطر على ملايين من البشر، الذين ارتبطوا بتلك التقنية وأصبحت جزءًا أصيلًا من حياتهم اليومية.

الصراع على المستقبل في «Ready Player One» يبدو متمثلًا في عدة مستويات، المستوى الأول بين الشركات العملاقة وبين مستخدم تقنياتها وخدماتها، وكيف أن تلك الشركات تنظر إلى المستخدمين كتيار غير منقطع من البيانات الرقمية التي تتحول في النهاية لتيار من الأموال داخل جيوب مؤسسي الشركات وأصحاب أسهمها بالبورصة، وكيف يمكن أن تخرج التنقية في وقت ما عن سيطرة مبتكرها، ويخضع العالم في النهاية للفوضى بسبب خطأ بشري ما.

الصراع الثاني بين أحزاب متعارضة داخل الشركات نفسها، حزب يرى أن التقنية هدفها تحسين حياة المستخدمين وتحقيق الرفاهية والمتعة والفائدة لهم، وبين تيار آخر يرى حتمية استمرار تطور تلك التقنيات التي تبدأ في البداية كوسائل تكنولوجية مفيدة، ثم تتوحش مع الوقت وتتغول على خصوصية المستخدمين وأمنهم وسلامتهم الشخصية.

الصراع الثالث بين مستخدمي تلك التقنيات أنفسهم، وكيف أن بعضهم يستخدمها في تحقيق الخير، والآخر يعتبرها مطية لتحقيق أغراض شريرة.

في الفيلم يزرع سبيلبرج بذكاء عدة عناصر تثير في نفس المشاهد الشعور الحميم والدافئ بالنوستالجيا، تمضي عدة مشاهد داخل فيلم «The Shining» للعبقري الراحل «ستانلي كوبريك»، الذي بدا وكأن سبيلبرج يقدم إليه تحية إجلال مع اقتراب الذكرى التسعين لميلاده، وأيضًا عبر استخدام أيقونات سينمائية ارتبطت بها عدة أجيال مثل وحش الـ«جودزيلا»، و«كينج كونج»، والعملاق الحديدي «The Iron Giant»، وكأنه يحاول مقاومة النسيان العنيف الذي يعصف بثقافة الـ«Pop Culture»، مع السيل الجارف من المنتجات الثقافية والفنية الذي يغمرنا طول الوقت، فلا نكاد نتذكر ماذا شاهدنا أو سمعنا أو قرأنا منذ شهر واحد فقط.

لا نعرف إذا كان العالم الذي خلقه سبيلبرج في فيلمه الجديد هو يوتيوبيا أم ديستوبيا، أعتقد أنه ترك الأمر لتقديرنا الشخصي، هل تأخذنا التكنولوجيا إلى دمارنا الشامل، أم تكون حبل الأمان الذي ينقذنا في آخر لحظة. إلا أن ما يقره هو أن عالم الكبار قد خذل الأجيال الشابة، ولم يترك لهم من الحكمة شيئًا يذكر، وأن عليهم أن يتلمسوا موضع الحكمة بأيديهم خطوة خطوة ليستطيعوا تمييز الصالح من الغث.

هذا العالم الذي تمضي أحداثه عام 2045 في مدينة كولومبوس بولاية أوهايو، لا يبدو فيه ساسة ولا مثقفون ولا فنانون ولا حكماء، فقط الصراع الأخير بين أرباب الرأسمالية من أصحاب الشركات العملاقة، وبين جيل شاب يمثله مجموعة من المراهقين يشقون طريق التمرد من أجل إحكام السيطرة على عالمهم وأحلامهم، تحدوهم خيالات رائد أعمال متوفى حديثًا اسمه «هاليداي»، يدرك قبل وفاته أن عليه إرجاع مفاتيح عالم الواحة إلى الجيل الذي سيعتني بها جيدًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.