تمكن ريال مدريد من استكمال هيمنته الرقمية على القارة الأوروبية بــ 13 بطولة من دوري الأبطال، بعدما تمكن من الظفر باللقاء النهائي الذي أُقيم في «كييف» بأوكرانيا ضد فريق ليفربول، بثلاثة أهداف مقابل هدف وحيد.

في هذه الجملة يمكن أن نلخص تلك المهمة التي يدعي البعض أن التاريخ لا يعرف سواها، وأن كل تلك التفاصيل التي نهتم بها وبما بين سطورها ما هي إلا هراء. لكن الغريب الذي عُرف عن هذه اللعبة منذ لحظتها الأولى أنها لعبة للتفاصيل، وأن الجماهير تذهب يوميًا وفي كل أوقات اليوم في بقاع الأرض كافة إلى الملاعب الكروية من أجل متابعة التفاصيل وليس النتائج فقط. التاريخ ذاته يخبرنا بهذه الحقيقة التي يحب البعض نكرانها، ولهذا سنتبع التفاصيل.


الشوط الأول: الكل فاشل والكل ناجح

زين الدين زيدان, ريال مدريد, يورجن كلوب, ليفربول, نهائي دوري أبطال أوروبا
تشكيلة الفريقين وتقييمات اللاعبين

شخص عادي متابع للكرة على فترات بسيطة كان سيتوقع بسهولة الشكل الذي سيختاره كلا المدربين لبداية اللقاء. زيدان فقط كان يحمل بعض الإثارة باعتباره يملك حلولًا عدة في تشكيلة أكثر عمقًا بدرجات عن تشكيلة كلوب، لكن في النهاية اختيار 4-4-2 «ماسة-Diamond» كانت الخيار الأمثل والأقرب للمنطق.

المعروف عن «كلوب» وفرقه أنها تتعايش على الضغط من كل مناطق الملعب، تلك الطريقة هي السمة الأساسية لليفر كذلك، إزاحة عنصر خطورة كبير كمانشستر سيتي من الطريق، باعتباره أقوى منافس واجهه الـ«ريدز»، لم يأتِ إلا بضغط تسبب في وأد أي خطورة يحققها وسط ملعب وصانعو ألعاب الـ«سيتيزنس».

وباعتباره السلاح الدفاعي الأكثر فتكًا عند «يورجن»، تحتم على «زيزو» خلق زيادة عددية حول دائرة المنتصف، والذي بدوره سيصنع حلولًا أكثر لحامل الكرة بانتشار أكثر اتساعًا حول منفذي الضغط من لاعبي ليفربول. المعطيات خلال نصف الساعة الأولى من اللقاء أكدت فشل زيدان في ذلك بالرغم من امتلاكه عناصر مثل «كروس»، «مودريتش» و«إيسكو». لذا فهو نجاح واضح لمنظومة الحُمر الدفاعية وفشل لأول الحلول التي سعى لها الميرينجي للصعود بالهجمة من مناطق بنائها.

على الصعيد الآخر فإن المكمل لعملية الضغط التي ينفذها لاعبو ليفربول بالطبع هو الهجوم المرتد باستغلال سرعة الثلاثي الهجومي، «ماني»، «فيرمينو» و«صلاح»، لكن يحتاج ذلك إلى مساحة في دفاعات الخصم، وهو ما يمكن أن يوصف بالطبيعي إذا قطعت الكرة وقت بناء الهجمة.

المصل جاء من الفرنسي هنا عن طريق فعلين، الأول هو إلغاء فكرة تقدم «كاسميرو» في وسط ملعب الخصم وقت بناء الهجمة مع رجوع كل من «كروس» و«مودريتش»، من أجل الحفاظ على أكثر عنصر دفاعي في وسط الملعب في موقعه أمام الدفاع، والثاني هو تراجع خط الدفاع والضغط إلى مناطق قريبة جدًا من صندوق الـ18، بل أحيانًا بداخله. هنا تنعكس الآية، ينجح فكر زيزو الدفاعي ويفشل، لمرة من المرات القليلة، التخطيط الهجومي لليفر.

زين الدين زيدان, ريال مدريد, يورجن كلوب, ليفربول, نهائي دوري أبطال أوروبا
التدخلات الدفاعية لكل فريق في النصف ساعة الأولى من المباراة

حالات الضغط هنا مختلفة، كلوب يبدأ ضغطه من منتصف ملعب ريال مدريد وزيدان يفضل التراجع من أجل عدم ترك مساحة للاعبي الليفر في التحرك. في النهاية كلاهما تساوى دفاعيًا في نصف ساعة بـ7 تدخلات دفاعية مباشرة لكل فريق، 5 ناجحة لمدريد و3 لليفر.


العالم بدون محمد صلاح

في الدقيقة الـ31 من عمر الشوط الأول، خرج المصري محمد صلاح على إثر إصابة تعرض لها قبل ذلك بدقائق قليلة. هنا تتعاظم أهم الجمل التي يفضلها المصريون، الفريق تأثر جدًا بعد خروج صلاح من أرض الملعب. نحن الآن نحيي حقيقة رقمية واضحة المعالم، لا مجرد أمنيات يعيش عليها الشباب المصري.

معدل لمسات لاعبي ليفربول قبل إقحام «آدم لالانا» إلى وسط الملعب والاتجاه إلى رسم 4-1-3-2، كان يحسب بـ6.2 لمسة لكل دقيقة، في حين انخفض إلى 4 لمسات فقط في كل دقيقة منذ إقحامه وحتى انتهاء الشوط الأول، على العكس ارتفع نفس المعدل عند الفريق الملكي إلى 13.6 بعدما كان 8.4 فقط.

مما يعني تراجعًا غير مبرر وتنازل عن الكرة أكثر لصالح عناصر ريال مدريد، بالإضافة إلى انخفاض حتى معدل التمريرات بنفس القيم تقريبًا، يعني أن الفريق فشل حتى في الحفاظ على تمريراته المتقنة أو الدقيقة، وترك مساحة أكبر لتمريرات ريال مدريد. الأخير تمكن من تمرير 171 كرة في غضون 15 دقيقة فقط منذ خروج صلاح وحتى انتهاء الشوط، في حين كان رقميًا قد سجل 194 تمريرة فقط في نصف ساعة كاملة في وجود «مو مو» فوق أرض الميدان.


الشوط الثاني: لكنكم تحبون صلاح

انتبه العالم أجمع لإصابة صلاح وخروجه من أرض الملعب، انتباه منطقي باعتباره أهم عنصر في تشكيلة ليفربول، لكن بعد دقائق من خروج المصري، الدقيقة 37 تقريبًا، خسر المدير الفني الفرنسي أحد ركائزه المهمة. «كارفاخال» ترك زيدان مرة أخرى بدون ظهير أيمن يعتمد عليه.

في العموم، وبالرغم من وجود عدد ضخم من النجوم في تشكيلة ريال مدريد، لكن التركيز التكتيكي عند زيدان يعتمد على الجماعة، وكذلك على إبداع كل فرد في المساحة المتروكة له، بمعنى أن الأدوار تقسم على الجميع وحسب إمكانيات كل منهم تظهر الصورة الكاملة، وإخلال أي عنصر بدوره يعني وجود عجز واضح في المنظومة. ودون الخوض في صحة هذا من عدمه، لكن عدم وجود أي بدلاء للظهيرين على كل طرف يضع الفرنسي دائمًا في معضلة عند غياب أحدهما. تلك المعضلة تتضاعف في مواجهة فرق تحبذ الضغط كليفربول.

زين الدين زيدان, ريال مدريد, ناتشو, كارفاخال،,نهائي دوري أبطال أوروبا
الخريطة الحرارية لتحرك ناتشو وكارفاخال

دخول «ناتشو» بدلًا من «داني» يعني زيادة أوامر دفاعية -إجبارية- للجبهة اليمنى، هنا تطرأ حالة اضطرار لتحويل «إيسكو» بدلًا من موقعه في عمق الملعب على رأس مثلث خط المنتصف، إلى الطرف الأيمن للقيام بالنصف الهجومي من أدوار الظهير، والتي لن يقوم بها الظهير الإسباني مهما تطلب الأمر.

خلال ما تبقى من دقائق في الشوط الأول، كانت هيمنة مدريد على الكرة مستمرة وعناصر الـ«ريدز» ما زالوا تحت تأثير صدمة خروج صلاح، وبين توهة الشكل الخططي الجديد، بالتالي لم يظهر تأثير «ناتشو» السلبي على الفريق، لكن مع بداية الشوط الثاني حاولت عناصر ليفربول تجميع ما تبقى منها نفسيًا وبدأوا في استعادة الضغط المنظم على عناصر بناء اللعب عند ريال مدريد.

التدخلات الدفاعية لكل فريق خلال الربع ساعة الأولى من الشوط الثاني

في تلك الحالات المشابهة من الضغط يكون أمامك حلان لكسر النمط، إما وجود عناصر تجيد التمرير القصير والطويل بدقة، أو تفتيت الكتلة الدفاعية الضاغطة عن طريق توسيع رقعة الملعب. الحل الأول ظل باهتًا بنفس درجة أداء «كروس» السيئ طوال أحداث اللقاء تقريبًا، لذا الذهاب إلى الحل الثاني أصبح حتميًا، لكن في غياب الجانب الهجومي عند ناتشو وفشل إيسكو في تقديمه بالشكل الأمثل، اضطر زيدان لتعديل جديد.


زيدان: المحظوظ الذكي

زين الدين زيدان, ريال مدريد, ناتشو, كارفاخال, نهائي دوري أبطال أوروبا
زين الدين زيدان, ريال مدريد, ناتشو, كارفاخال, نهائي دوري أبطال أوروبا

شهدت الدقيقة 61 من عمر اللقاء أول تغيير لكتيبة زيدان، نزول الويلزي «جاريث بيل» بدلًا من «إيسكو»، لمحاولة خلق جبهة مع ناتشو تؤدي الدور الذي كان من المفترض أن يقوم به «كارفاخال»، والذي يؤدي مثيله «مارسيلو» على الرواق المعاكس. تحولت الطريقة عندها من 4-3-1-2 إلى 4-1-3-2 بزيادة هجومية واضحة للفريق المدريدي.

مارسيلو, ناتشو, جاريث بيل, ريال مدريد, نهائي دوري أبطال أوروبا
الخريطة الحرارية لتحرك ناتشو وبيل مقارنة بمارسيلو

على الورق كان التغيير منطقيًا من أجل إخراج الكرة من حيز تنفيذ الضغط الخاص بليفربول، وهو ما ظهرت نتائجه سريعًا وانخفضت معدلات التدخلات المباشرة عند الـ«ريدز» من 6 تدخلات في ربع الساعة الأولى فقط، إلى 10 خلال أكثر من نصف ساعة أخيرة في المباراة، بجانب الوقت بدل الضائع.

الواقع يشير إلى أن زيدان يملك جزءًا كبيرًا من الحظ فعلًا، شيء لا يمكن نكرانه، هدف بنزيما الأول والخطأ الذي وقع فيه الحارس الألماني «كاريوس» في الهدف الثالث كلها لقطات تشير إلى جانب حظ، لكن الأهم أن زيدان أيضًا يحسن استخدام ذلك الحظ للموسم الثالث على التوالي.

أرجوكم كفى مديحًا وشُكرًا لي، أنا لستُ بخير، أنا لستُ مهمًا. سأبلغ ٥١ عامًا الشهر المقبل، خسرت مباريات وفزت بمباريات في حياتي وأستطيع التعامل مع ذلك، لكننا جميعًا نشعر بحزن شديد ورحلة العودة إلى منازلنا لن تكون أفضل رحلاتنا.
تصريح يورجن كلوب عقب المباراة

ريال مدريد هو أكثر فريق يملك عددًا من النجوم في كل مراكز الملعب، كل لاعب نجم عالمي في مركزه، وربما يصنف الأفضل على مستوى العالم، فكون هناك مدير فني قادر على التعامل مع كل هؤلاء، خالقًا بهم ومن خلالهم تشكيلة عميقة تصل إلى النهائي في ثلاث مرات وتحقق فيها جميعًا اللقب، هو شيء لا يمكن وصفه إلا بالعظيم حتى مع الاعتراف بأنه حالفه الحظ في كل رحلاته، الحظ وأشياء أخرى.

في المعسكر المغاير فإن كلوب أيضًا قد استفاد كثيرًا من الحظ في الوصول إلى تلك المرحلة من المنافسة، أيضًا الحظ وأشياء أخرى، لكن الفارق كمن في فارق الإمكانيات، يمكن القول بأن يورجن حقق معجزة حقيقية حين وصل بفريق كهذا إلى النهائي، لكن الفوز بالبطولة لديه عوامل أخرى كثيرة، أهمها أنك عندما تنظر إلى دكة البدلاء لتحضر بديلًا تجد عناصر أفضل من «لالانا»، «إيمري شان»، «سولانكي» وغيرهم، لأنه وارد أن يخدمك الحظ بخروج عنصر مهم من الخصم مثلما حدث، لكن سوء استخدامك لتلك الواقعة يصل بك لنهاية محتومة بالفشل.

أما فيما يخص إصابة صلاح، الأكثر تأثيرًا في المباراة، فيجب ألا نغالط أعيننا، جميعنا شاهد الواقعة وكل منا قد أخذ انطباعه الأول الذي ربما ثَبُتَ مع إعادة اللقطة مرات ومرات، وربما تغير. لكن الأهم أن قناعة ما قد ترسخت.

ومن جانبي، فإنه لا يوجد أدنى شك لدي في تعمد راموس الاعتداء على المصري، إما لترهيبه فيما هو متبقٍ من دقائق أو ربما إبعاده عن الصورة تمامًا كما حدث. وحتى إن ساورني الشك في ذلك للحظة، فإن انبطاعي عن سيرجيو مسبقًا وذكرياته القديمة ستعود بي لذات النقطة.