يقول الفيلسوف الألماني «آرثر شوبنهاور»، في كتابه On the Suffering of the World، إن الألم هو الأساس الذي يقوم عليه العالم، وإن الشر هو الوضع الافتراضي للوجود بينما الخير (انعدام الشر) هو شيء نادر الحدوث، وكأن الألم في الحياة هو صفاء السماء، بينما السعادة هي المطر المؤقت الذي يسقط كل فترة على نحو مفاجئ وينتهي على نحو مباغت أيضاً.

ويزيد في أطروحته فيقول إننا -أي البشر- نشبه مجموعة من الخرفان التي وُلدت في محل الجزارة، بينما الموت هو الجزّار، كل فترة يختار خروفًا منّا ليذبحه أمامنا دون مقاومة، فنعيش كالخرفان بين الرعب والقلق بانتظار لحظة الذبح القاسية، وفي ذلك السياق فأي لحظة من السعادة أو الطمأنينة فهي لحظة غير واعية نغفل بها عن حقيقة وجودنا ونتناسى نظرات الجزّار الذي لا يرحم وسكينه المتشوقة لذبح رقابنا.

للوهلة الأولى قد تبدو تلك الأطروحة مُشابهة لمراد الآية القرآنية الكريمة: «لقد خلقنا الإنسان في كبد» (سورة البلد: آية 4)، ولكن يفاجئنا القرآن في مواضع أخرى، ليناقض أطروحة «جزّار» شوبنهاور، فيقول وكأنه يقترح حلاً بديلًا ويعد من خلاله بالنجاة: «ومن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى» (سورة طه: آية 123).

فكيف يؤكد القرآن أن الإنسان وُلد في كبد وشقاء دائم، ثم يعود ليعده بالنجاة من الشقاء بالرغم من طبيعة الحياة القاسية وتقلباتها الضارية؟

ثنائية الألم والملل

يعود شوبنهاور من جديد ليقول في كتابه «فن العيش الحكيم»:

إن عقارب ساعة الإنسان تتراوح بين مشقتين، الألم والملل.

ويقصد هنا أن الاحتياج ذاته هو نوع من أنواع الشقاء والألم، ولكي يتخلص الإنسان من ذلك الألم، فهو يلجأ للسعي باتجاه إشباع احتياجاته. فعلى سبيل المثال، يجد الإنسان نفسه بحاجة إلى المال فيضطر للعمل لساعات أطول. يجد نفسه بحاجة إلى الأنس في حياته فيضطر للسعي خلف الصحبة. يجد نفسه بحاجة إلى الحب فيضطر للسعي خلف الجنس الآخر.

وهكذا يستمر سعي الإنسان دون توقف، فحياته تتراوح دائمًا بين ألم الاحتياج وألم السعي لإشباع احتياجه، حتى عندما يحالفه الحظ ويصل لما كان يسعى إليه، حينها يتخلص الإنسان من ألم الاحتياج ليجد بانتظاره ألم الملل.

ومثلنا مثل جميع مخلوقات العالم، لا نستطيع أن نتعامل مع السكون، لا نألف الراحة ولا نتحمل الملل، فالكون كله في حركة، وعقولنا التي تطورت طوال آلاف السنين منذ الإنسان الحجري وحتى اليوم، غير مُصمَّمة للجلوس دون فعل شيء، العقل البشري الذي اعتاد الركض وصيد الطعام في الغابات وحماية كهفه من الحيوانات المفترسة، لا يمكنه التعامل مع حالات الملل دون أي نشاط يشغله. ولذلك نُسيء التعامل مع الملل عن طريق إحدى الطريقتين: إمّا أن نكون أكثر عرضة للمشاعر السلبية والغرق في الحزن والاكتئاب والتأسي على الماضي والقلق حيال المستقبل، وإمّا نحاول الهرب من الملل عن طريق محاولة إشباع بقية الاحتياجات غير الأساسية، وذلك يعود بنا إلى ألم الاحتياج، لنُعيِد الكرّة من جديد، ونسعى لإشباع احتياجاتنا التي لن تُشبع أبدًا بشكل كامل، فدائمًا ما سترى العينُ -الباحثة عن النقص والراغبة في الكمال- العيوب.

وهكذا تتراوح حياة الإنسان بين شقاء الاحتياج والسعي لإشباعه، وبين ملل الإشباع والسكون غير المريح. فلو حاول الإنسان أن يتوقف عن السعي لإشباع احتياجاته، سوف يموت. لكن ماذا لو توقف الإنسان عن الاحتياج؟

الإنسان الكامل والطريق نحو التخلص من الاحتياج

للصوفية (في الإسلام) درجات ومنازل تُرتِّب شيوخهم، فكما أن للدراسة الأكاديمية منازل مثل: الطالب، يعلوه المُعيد (المدرس المساعد)، يعلوه الأستاذ الجامعي، يعلوهم عميد الكلية ثم رئيس الجامعة. وكما يوجد رُتب في جهاز الشرطة مثل الملازم الأول يعلوه الملازم يعلوه النقيب وهكذا… فللمتصوفة المسلمين مراتب مثل: المريد، يعلوه العالِم، يعلوه العارف بالله، يعلوه الكامل، يعلوه المستطيع.

وبدون الخوض في التفاصيل، فالهدف من تلك الرتب هو ترتيب الطريق للقمة الصوفية التي يتربع على عرشها الشخص الكامل، وفي حالات نادرة جدًا الشخص المُستطيع.

والكامل في التصوف هو الذي قطع شوطًا كبيرًا في الطريق إلى الله من خلال مجاهدة نفسه وتزكيتها، هو شخص تحققت معرفته بالله، فأصبح مثلما يقول الحديث القدسي: «سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها…». وذلك شخص كافح الألم حتى تخطاه، حارب الاحتياج حتى هزمه، وعلى حد قول الصوفية، وصل لمرحلة الزهد التي وصف حالها «القديس أوغسطينوس» حين قال: «جلست على قمة العالم عندما أصبحت لا أخاف شيئًا ولا أشتهي»، والتي تحققت فيها منزلة الفضيلة التي قال عنها المسرحي البريطاني «برنارد شو» إن «الفضيلة ليست فقط في تجنب الرذيلة، بل في عدم اشتهائها من الأساس».

وبالطبع لم ينفرد التصوف الإسلامي بتلك المنزلة، فسنجدها أيضًا في الرهبانية المسيحية التي تنص في أحد تعاليمها أن الصائم لا يمتنع فقط عن تناول الطعام بل عن الاشتهاء نفسه: «إذا اشتهيتَ فقد أفطرتَ». وكذلك التمارين والصلوات البوذية التي تهدف إلى تحمل درجات رهيبة من الألم.

كما نرى أيضًا نموذجًا يشبه الإنسان الصوفي الكامل عند فلاسفة كبار مثل نيتشه ونظريته عن الإنسان الفائق، مما يعني أن محاولات السعي لعدم الاحتياج لم يُناد بها رجال الدين وحسب، بل تضافرت الجهود على مدار التاريخ لحل مشكلة الألم والمشقة التي لا تنتهي، من قبل حتى أن يطرحها شوبنهاور لأول مرة.

ومع ذلك ستتضح الأمور أكثر لو نظرنا بشكل عقلاني لتلك الجهود، بدايةً من الأديان السماوية وغير السماوية، وصولاً إلى فلاسفة القرن العشرين وتساءلنا: ما هي نقطة التلاقي بين كل هذه الأديان؟ ما الذي اجتمعت على التسليم به كل هذه الفلسفات واختلفت فقط في طريقة مواجهته؟

تقبُل المعاناة بدلًا من مقاومتها

تنص أولى تعاليم الحكيم بوذا والتي تقوم على أساسها الديانات اللا سماوية كلها بلا استثناء: على قاعدة واحدة:

الحياة هي المعاناة.

وتلك هي القاعدة التي لم ينكر حقيقتها أحد، فالمعاناة لا مفر منها، والطريقة الوحيدة للتعامل مع آلام العالم التي لا تنتهي ليست في الهرب منها وتجنبها، بل تقبلها، والسعي خلفها، بل وتطويعها لتحقيق أهداف الارتقاء الإنساني والسمو البشري.

فالتعامل مع المعاناة كمُسلَّمة لا مفر منها، يُمكنه أن يمدنا بالشجاعة لاستدعاء الألم لحياتنا بدلًا من انتظاره، وللإقبال على المعاناة التي نختارها بأنفسنا، لا التي يلقينا بها القدر بدون مقدمات. كما أن تلك هي الطريقة الوحيدة التي تَعِد في النهاية بالتخلص من الاحتياج والسمو عن الرغبات، والتي من الممكن أن تستعبدنا لو استسلمنا لها.

وذلك يشبه في مبدئه نظرية عالم النفس الشهير «كارل يونج»، الذي رأى في قصة صلب المسيح بالكتاب المقدس، ضرورة تقبل البشر للمعاناة طواعيةً مثلما فعل المسيح (في النسخة الإنجيلية)، عندما تقبّل الموت مصلوبًا ورفض مقاومته أو الهرب منه حين وجد أن معاناته في الموت ستكون لها قيمة ومعنى أكثر من استمراره على قيد الحياة. وقد قُوبلت نظرية يونج بالكثير من الانتقادات من اتباع الكنيسة الكاثوليكية حين ذلك، والتي كانت تحاول الترويج لنظرية التضحية السلبية التي أساءت فهم كون المسيح فاديًا للبشرية.

اختيار المعاناة التي تملأ الحياة بالمعنى

يقول أحد العارفين بالله:

لكل شيء في الحياة غاية وهدف، أمّا الغاية فهي النضوج، وأمّا الهدف من الغاية فهو التحرر. مثل الثمرة على شجرتها، إذا نضجت سقطت منها وتحررت.

بعد أن تأكدنا من أن المعاناة هي شرط العيش، ولا تجوز الحياة بدونها سواء وافقنا أو اعترضنا، فلم يتبق سوى أن نتعامل معها بحكمة عن طريق الإقبال عليها طواعية، فبدلًا من انتظار المعاناة أن تختارنا وتحل على رأسنا المصائب، يجب على كل منّا أن يحسم أمره ويختار المعاناة التي تستحق الألم، المعاناة التي تخدم هدفه وتساعده للوصول إلى غايته، لا المعاناة التي تفتقد للمعنى وترمي بصاحبها في أعماق اللا جدوى، وبذلك تتحول المعاناة إلى وسيلة بدلًا من أن تصبح غاية وأسلوب حياة اتبعه الكثير عن جهل.

وذلك هو المبدأ الأساسي الذي قامت عليه «مدرسة العلاج النفسي بالتسامي» logotherapy، التي أسسها الدكتور «فيكتور فرانكل»، بعد أن لاقى الويلات في معتقلات النازيين ورأى الموت بعينيه أكثر من مرة، ليخرج باستنتاجه الأهم الذي ذكره في كتابه «الإنسان يبحث عن المعنى» قائلًا:

إن المعاناة تتوقف عن كونها معاناة، عندما يصبح لها معنى. ذلك أن الإنسان لا يرفض المعاناة ولا يرغب في حياة فارهة خالية من أية آلام، بل إنه على استعداد لتحمل أي معاناة بشرط أن يجد لمعاناته معنى وغرضًا.

وبما أن المعاناة فرض عين على كل كائن حي، فالأولى أن نختار المعاناة القيّمة التي تمد حياتنا المعنى وتزين جروحنا بالفخر والشرف. يقول المولى عز وجل في كتابه العزيز مُخاطبًا الصحابة بين أهوال الحرب:

«لَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا»
سورة النساء – آية 104

وكأنه المولى عز وجل يخبرنا أن الجميع يعاني، سواء طواعيةً أم لا، وما يصنع الفارق أن هناك أُناسًا تعاني من أجل المعاناة نفسها بدون هدف وذلك هو الشقاء بعينه، وهناك جماعة أخرى اختارت لمعاناتهم معنى وغاية، وهذه هي الجماعة التي لا تضل ولا تشقى.

ومثلما يقول المتنبي، مؤكدًا أن طعم المعاناة واحد، وما يصنع الفارق هو الغرض منها:

إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ *** فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ
فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ صَغيرٍ *** كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ

أو كما صاغها «الأبنودي»، مُلخِّصًا لأقوال الفلاسفة بعاميته البسيطة:

ما دام هتموت… احمل السيف اللي بتحبه

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.