حسابٌ على تيليغرام، ومحفظة إلكترونية يستغرق إعدادهما دقائق معدودة. هذا كل ما احتاجته كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، لكي تُشعِل مواقع التواصل الاجتماعي وتثير عجب المراقبين. إذ أعلنت قبل أيامٍ بدء قبول التبرعات لدعم المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بعملة البيتكوين المشفرة.ستجلب الخطوة بكل تأكيد المزيد من التمويل للحركة، في وقتٍ يُعاني فيه القطاع أزمة اقتصادية طاحنة مع تصاعد الضغوط السياسية من حكومة الاحتلال والسلطة الفلسطينية. غير أن التوقعات بإسهام محفظة بيتكوين للقسام في «كسر حصار» غزة تحمل في طياتها الكثير من المبالغة، وهو ما سنحاول مناقشته في السطور القادمة.


البيتكوين: زلزال على الساحة الدولية

لم تَكُن البيتكوين أولى المحاولات لتطوير عملة افتراضية مشفرة، فالمحاولات مستمرة منذ تسعينيات القرن الماضي، غير أن مطورًا (أو مجموعة من المطورين) يحمل الاسم المستعار «ساتوشي ناكاموتو»، وهو مجهول الهوية حتى اليوم، تمكن من تطوير نظامٍ فعال للتحقق من المعاملات بالعملة المشفرة وتسجيلها، يُعرَف باسم البلوكتشين.وقد ألمح ساتوشي في ورقته البحثية التي تشرح تقنية البلوكتشين مفتوحة المصدر إلى أنه طورها استجابةً للأزمة المالية العالمية في 2007، وما تلاها من تدخل الحكومات بدفع مليارات الدولارات لانتشال البنوك من حافة الانهيار. يذهب ساتوشي إلى أن هذا التدخل من المؤسسات المركزية في النظام المالي العالمي القائم على الدين هو المصدر الرئيس للشرور وانعدام المساواة وعرقلة مسيرة الحرية في العالم.أما بلوكتشين البيتكوين، فهي تعيد للأفراد حريتهم المالية، بعيدًا عن القمع الحكومي. هي شبكة لا مركزية تمكن مستخدميها من إجراء تحويلاتٍ مجهولة الهوية بالعملة المشفرة، من «محفظة» إلكترونية إلى أخرى في غضون دقائق معدودة، وبتكلفة زهيدة. كل ما تحتاجه هو العنوان المميز للمحفظة المُراد التحويل إليها وفقط. وعبر توزيع السجلات التي تحمل التاريخ الكامل لمعاملات البيتكوين بين المحافظ، تُراقب جميع العُقَد الموجودة في الشبكة بعضها بعضًا، بما يمنع تزييف تاريخ المعاملات وحالة الأرصدة الحالية أو تزويرها، ومن ثمَّ تنتفي الحاجة إلى جهاتٍ وسيطة بين المتعاملين بالعملة.استُخدمت لاحقًا تقنية البلوكتشين في صنع العديد من العملات المشفرة الأخرى البديلة للبتكوين، التي تأرجحت بين النجاح والفشل. لكن أيًا منها لم يتمكن من زحزحة البيتكوين عن عرشها، لتظل الأعلى سعرًا (3300 دولار للبتكوين الواحدة وقت كتابة المقال)، والأوسع تبنيًا والأسرع انتشارًا (200 مليون مستخدم بحلول عام 2024).لا عجب أن تطوير تقنية البلوكتشين والعملة الأبرز القائمة عليها وهي عملة البيتكوين كانت حدثًا تكنولوجيًا مزلزلًا. لم تغفل عين الحكومات والمنظمات الدولية عن الخطر الداهم المتمثل في نظامٍ مالي لا مركزي عابرٍ للحدود، وما قد يعنيه هذا من تضاعف لتمويلات الأنشطة غير المشروعة والإرهابية (مثل تنظيم الدولة الإسلامية الذي أجرى عملياتٍ واسعة لغسل أموال التنظيم باستعمال البيتكوين)، أو تجاوزٍ للعقوبات الدولية المفروضة على دولٍ بعينها ما يمثل تهديدًا صريحًا لموازين القوى (أصدرت فنزويلا عملة البترو السيادية المربوطة باحتياطي النفط، بينما طورت إيران عملة البيمان المربوطة بالذهب). كما حاولت دول صغيرة هامشية، ومنها جزر المارشال ومالطة، صنع دور أكبر لها على الساحة الدولية عبر تبني العملات المشفرة واجتذاب مطوريها من جميع أنحاء العالم، وتوفير التسهيلات لهم. ورغم أن أغلب هذه المحاولات ما تزال في مهدها، والتبني الشعبي للعملات المشفرة في المعاملات اليومية ما زالت معدلاته منخفضة للغاية، فإن التطور المستمر في تقنيات العملات المشفرة يعني أن المشهد مرشح بقوة للتغير في العقود القادمة.


شريان حياة مشفر لقطاع غزة

من المنطقي أن تلجأ إلى البيتكوين حركة محاصرة جغرافيًا وسياسيًا وماليًا، كحركة حماس وجناحها العسكري كتائب عز الدين القسام. إذ تُقدِم الحركة على هذه الخطوة في محاولاتها لفك الحصار الاقتصادي الخانق المفروض على قطاع غزة، والمستمر في التصاعد ليصِل إلى ذروته في عام 2018.اتخذت سلطات الاحتلال الإسرائيلي عددًا من الإجراءات لتشديد الحصار على القطاع في ذلك العام، تضمنت إغلاق شريان الحياة الأخير، معبر كرم أبو سالم، وتشديد القيود على دخول المواد الخام، لينخفض معدل النمو الاقتصادي من 3.1% في 2017 إلى 0.6% في 2018. وقد وصف جمال الخضري، رئيس اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار على قطاع غزة، عام 2018 بالعام «الأكثر كارثية» على القطاع منذ عام 1967.

حماس في حاجة ماسة لدفع رواتب العاملين بجهازها البيروقراطي في القطاع، الذين يعانون من تقليص رواتبهم على يد السلطة الفلسطينية بقرارٍ من الرئيس محمود عباس. يستخدم عباس وقيادة حركة فتح رواتب الموظفين كورقة ضغطٍ على حماس، من أجل إعادتها إلى مائدة المفاوضات. ومع أن دولة قطر تدخلت لإنقاذ الموقف ببرنامج إغاثي قيمته 150 مليون دولار في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، فقد رفضت حماس منحة قطرية بقيمة 15 مليون دولار، على خلفية خروقاتٍ إسرائيلية مستمرة لاتفاقاتٍ سابقة، و«اعتراضًا على سياسات الاحتلال»، وفقًا لخليل الحية، القيادي بحركة حماس. غير أن حماس تظل تدفع ثمنًا غاليًا موقفها السياسي الرافض لتدخل الاحتلال في تمرير وتعطيل المنح الخارجية، وتستمر الأزمة المالية الخانقة في القطاع.أنشأ أبو عبيدة، الناطق العسكري باسم كتائب القسام، قناة على تطبيق المحادثة الآمن تيليغرام، في التاسع والعشرين من يناير/ كانون الثاني لعام 2019. وعبر قناته الرسمية الجديدة، أعلن أن المقاومة الفلسطينية ستبدأ في استقبال التبرعات بعملة البيتكوين المشفرة من «محبي المقاومة وداعمي قضيتنا العادلة». وبالفعل، صار عنوان المحفظة متاحًا بعد يومين على قناة تيليغرام و الموقع الرسمي لكتائب القسام.


1920 دولار: «نقطة في بحر»

رغم استحالة التيقن من هوية المُرسِل والمستقبل على شبكة البيتكوين، على الأقل بغير توافر إمكانات حاسوبية متطورة، فإن بعض البرمجيات يمكنها استكشاف عناوين المحافظ العامة، ومعرفة حجم المبلغ الصادر أو الوارد لكل محفظة بمجرد معرفة عنوانها العام.حتى وقت كتابة المقال، استقبلت محفظة القسام منذ إنشائها 0.57 بتكوين؛ أي 1920 دولار أميركي تقريبًا، عبر عددٍ من المعاملات الصغيرة نسبيًا، لا يتجاوز أغلبها 50 دولارًا. ويصل الرصيد الفعلي للمحفظة حاليًا إلى 340 دولارٍ، إذ أرسلت الجزء الأكبر من عملات البيتكوين التي استقبلتها إلى محافظ أخرى، ربما بغرض توزيع رصيد المحفظة طلبًا للأمان. ومن المحتمل أيضًا أن تكون هذه المعاملات قد استخدمت فعليًا في عمليات شراءٍ من أسواقٍ غير قانونية على الإنترنت العميق.هناك العديد من الأسباب وراء صغر حجم المعاملات. فشبكة البيتكوين لا تخلو من المعوقات التي تصعب استخدامها؛ ومنها أن استخدامها يتطلب قدرًا من المعرفة التقنية لدى المستخدم ما زالت غير منتشرة في المجتمعات العربية المسلمة، التي تظل قاعدة الدعم الأبرز للقسام والمقاومة الفلسطينية، وهي على الأرجح الجمهور المستهدف من الخطوة. يتطلب إرسال البيتكوين إلمام المُرسِل بكيفية تعدين عملات البتكوين أو شرائها، وتخزينها في محفظة إلكترونية آمنة، ثم إرسال المبلغ إلى محفظة القسام.فضلًا عن أن شراء عملات البيتكوين أو بيعها في مقابل العملات النقدية ليس بهذه السهولة. فقد سعت المؤسسات المالية التقليدية إلى حماية النظام المالي العالمي من الاختراق الكامل من جانب شبكة البيتكوين وشبكات العملات المشفرة البديلة، وذلك بتضييق البنوك على أي معاملات يُشتبه في كونها متعلقة ببيع وشراء العملات المشفرة بين المُتعامِلين. بهذه الطريقة، يضيق الخناق على المنظمات الإرهابية والدول الخاضعة للعقوبات المالية الأميركية والأوروبية، ويصعب عليها تجاوز العقوبات والحفاظ على تدفق السيولة المالية باستخدام العملات المشفرة.يُستثنى من ذلك منصات تداول العملات المشفرة، وهي المُعادل لأسواق تداول العملات النقدية الأجنبية. تخضع أغلب المنصات الكُبرى لسياسات معرفة العميل التقليدية المتبعة في البنوك، والتي تستلزم معرفة كامل بيانات المستخدم وإثبات مصدر دخله لكي يتمكن من شراء البيتكوين أو بيعها. وبهذا تتحكم المؤسسات المالية في منافذ استعمال البيتكوين في نقل القيمة عبر الحدود، وتحظر أي محفظة تجري معاملاتٍ مع عناوين مشبوهة. وبالقطع أضيف عنوان محفظة القسام إلى قائمة العناوين المحظورة. كل هذا يصعِّب إرسال التبرعات ويضع مُرسِلها تحت طائلة القانون من ناحية، ومن ناحية أخرى يصعِّب على كتائب القسام مهمة تحويل عملات البيتكوين التي تستقبلها إلى أموال نقدية واستخدامها محليًا.ربما يكون من المبكر الحكم على تدفق المبالغ المشفرة إلى محفظة القسام، لكن بهذا المعدل، من الصعب تخيل أن تلعب آلية الاقتصاد المشفر أي دورٍ على المدى القريب في انفراج أزمة حماس. والأرجح أن استخدام المبالغ المتقطعة الواردة إلى المحفظة لن يتجاوز تلبية احتياجات القسام في أسواق الإنترنت العميق.