المكان، مدينة «باجيو» بالفلبين، والزمان، عام 1978، رجلان يجلسان في مواجهة بعضهما البعض وبينهما رقعة شطرنج، تبدو ملامحهما متقاربة لحد كبير فهما ينتميان للأصول ذاتها رغم إختلاف المعتقد. الفتى الذهبي للاتحاد السوفيتي «أناتولي كارابوف»،يواجه عدو السوفيت المنشق «فيكتور كورتشنوي». لم تكن مباراة عادية، فالحرب الباردة على أشدها بين المعسكرين الشرقي والغربي. الغرب يحاول الاستفادة من هجمات المنشقين السوفيت، والشرق يحاول أن يثبت أن العبقرية تخبو وتنتهي إذا خرج صاحبها عن أفكارهم وأيديولجياتهم.

ساعة بعد الساعة، كان «كورتشنوي» يستمع إلى صوت يقول له: «عليك أن تخسر»، وظن أن الصوت قادم من داخل عقله جراء ما تعرض له من ضغوط نفسية وأسرية. تيقن فيكتور أنه أحد الحضور، يحاول تشتيته. الرجل ظل يهتف ويهتف حتى خسر «كورتشنوي»، المرتد عن أفكار السوفيت.

في كرة القدم يقف بيب محل «كورتشنوي» ولكنه لا يواجه كارابوف ورجلًا يصيح فحسب، بل يواجه مئات المنتقدين. موسم تلو الآخر في دوري أبطال أوروبا يقف «بيب جوارديولا» على الخط الجانبي يستمع لتلك الصيحات التي تشكك في أفكاره وتطالبه بالخسارة. وبعد أن يخسر يعلن معسكر الواقعية انتصار أفكاره، وتستمر صيحات التشكيك دون توقف. وما زاد الأمر إرباكًا، أنه بات يكرر فشله دون أن يتعرض للإقالة حتى، أو أن ينقلب لاعبوه عليه. فهل ما زالت خدعة الحظ تنطلي عليهم أم أنهم يتجاوزون عن أخطائه؟


حرب الهوية

ربما لو تناسي «كورتشنوي» تشكك الجميع في هويته وأفكاره المناهضة للسوفييت لتمكن من الفوز، وربما لو انتبه جوارديولا لخطأ لاعب الشطرنج الروسي لما حمل نفسه مزيدًا من الأعباء.

يحظى مدرب برشلونة السابق بكثير من المبالغة في تقديره وفقًا للكثيرين، لكن في حقيقة الأمر «بيب» ليس له علاقة بذلك. في الخمسة المواسم السابقة، وفد إلى إنجلترا العديد من المدربين الفائزين: يورجن كلوب، أنطونيو كونتي، أوناي إيمري،بالإضافة إلى جوارديولا وعودة جوزيه مورينيو. جميعهم فاز مسبقًا خارج البريميرليج، لكن واحدًا منهم فقط وُضِعَ في مكانة مختلفة.

أنا لا أعلم، عليكم أنتم الإنجليز أن تحللوا الأسباب. لكن من الصعب أن تغيروا طريقة اللعب التي ترسخت في دمائكم وتاريخكم. والآن ستغيرونها، لماذا؟ لأجل شخص أتى من خارج البلاد، يملك تاريخًا تدريبيًّا ناجحًا؟ هذا غباء.

هكذا أجاب جوارديولا على سؤال الدولي الإنجليزي السابق والإعلامي الحالي «جاري لينكر»، والمتعلق بتغيير ثقافة إنجلترا الكروية. حاول «بيب» أن يجيب بدبلوماسيته المعتادة، لكن بعد فشل أول مواسمه مع مانشستر سيتي تغير الأمر. انتقد الإنجليز أفكاره، وحولوا الأمر لصراع حول الهوية، إما أن يفرض الإنجليز هويتهم وإما أن يتمكن المدرب الإسباني من إحراجهم.

حتى في ألمانيا، عانى الرجل من الأمر نفسه، لذلك أصبح مدرب بايرن ميونيخ السابق مهووسًا بالسيطرة على كل شيء، كل تفصيلة، كل تمريرة، دفاعًا وهجومًا، الفوز لا يصبح فوزًا إلا وهو مبهر للجميع، لأنه لن يرد عليهم بسرد تاريخه، بل برؤية واقعه.


سندخل بالكرة المرمى

الواقع يقول إن مدرب مانشستر سيتي أصبح مهووسًا بالرد على الإنجليز. إذا كانت ثقافتهم تهمل التدرج بالكرة، مقابل الاندفاع البدني والكرات الطويلة، فـ «بيب» سيقود لاعبيه للتدرج والدخول بالكرة قلب المرمى.لاحظ «مايكل كوكس» المحلل بشبكة «ESPN» ذلك الأمر بعد مباراة أرسنال في الدور الثاني. عندما أحرز «سيرجيو أجويرو» الهاتريك العاشر له في البريميرليج، حيث بلغ مجموع المسافات التي أحرز منها الأهداف الثلاثة 12 ياردة فقط.

يحتل السيتي صدارة الترتيب من حيث عدد الأهداف المسجلة، وعدد الأهداف المتوقع إحرازها. وبما أن الفريق بات يسدد من مسافات أقرب، فإنه يحتل المركز الأول في عدد الأهداف المتوقع إحرازها من داخل منطقة الجزاء «55.14 هدف»، ومنطقة الست الياردات «24.41 هدف».

وكما يتطلب الأمر عبقرية من المدرب، فإنه يتطلب أيضًا مجهودًا خارقًا من اللاعبين. التدرج السليم بالكرة، والانتشار الجيد لخلق زوايا التمرير، إلى تمديد الملعب بالعرض باستخدام الأجنحة، ثم الوصول إلى الثلث الأخير وإرسال العرضيات من مسافة أقرب.

ستسأل نفسك الآن، ما الذي يضر أن يصل المدرب ولاعبوه إلى تلك المرحلة من الإتقان؟ ما يقدمه مانشستر سيتي من كرة جذابة قد تستهلك لاعبيه، لذا يلجأ جوارديولا إلى المداورة لتجنب الإرهاق. لكن عند لحظة ما سيفقد المدرب تحكمه في جاهزية لاعبيه، خاصة مع احتدام المنافسة وزيادة التوتر بجانب الإصابات التي تضرب الفريق.

كما حدث في الهزيمة المفاجئة أمام نيوكاسل بهدفين مقابل هدف،صرح جوارديولا بعد المباراة قائلًا:

في الدوري، سقط ليفربول وعوَّض السيتي سقوطه أمام نيوكاسل، لكن في دوري أبطال أوروبا، لحظات عدم الجاهزية تلك قد تلقي بك خارج البطولة، أو تجبر المدرب على ارتكاب الأخطاء، وليس فقط اللاعبين.


نسيان البديهيات

حقيقة أن الأمور تسير بالشكل الصحيح لمرة أو اثنتين لكن اليوم لم تكن كذلك؛ لأن اللاعبين بشر، وسيشعرون بالإرهاق عاجلًا أم آجلًا. الصورة من الخارج قد تكون مختلفة، لذلك ليس لأني تحدثت معهم فيما يجب أن يقوموا به، فهم سينفذون فورًا

ربما خسر «كورتشنوي» المباراة بسبب تحريك خاطيء لا يقم به رجل مبتديء في لعبة الشطرنج، لقد كان مشغولًا بكيفية الفوز لإسكات هذا الذي يصرخ في رأسه ولا يتوقف مما جعله نسي بديهيات اللعبة، تمامًا كما فعل جوارديولا.

في كل مرة كان يحاول فيها جوارديولا كسب الأفضلية على خصمه في دوري الأبطال كانت الأمور تسير في الاتجاه الخاطئ. عندما كان مدربًا لبايرن ميونيخ واجه برشلونة في الدور نصف النهائي 2014/2015. عدل بيب طريقة لعبه إلى 3-4-3 بثلاثي في خط الدفاع، على غير عادته. حاول جوارديولا خلق زيادة عددية في خطي وسطه وهجومه كي يضغط برشلونة في مناطقه. وفي ظل الإصابات المعتادة في صفوف بايرن وتألق ميسي، فشل النادي البافاري في الصعود.

وفي نسخة 2017 / 2018 واجه السيتي ليفربول في الدور ربع النهائي. حاول جوارديولا أن يجد حلًّا للضغط الجنوني للاعبي الليفر، فدفع بـ «إيمريك لابورت» كظهير أيسر و«إلكاي جوندوجان» في مركز الجناح الأيمن، كي يتحرك إلى الداخل كلاعب وسط رابع، مفسحًا المجال لتقدم الظهير الأيمن «كايل والكر». كان «بيب» يحاول زيادة الخيارات المتاحة للتمرير في الوسط، هربًا من ضغط يورجن كلوب. لكنه في النهاية خسر بثلاثية نظيفة.

وأخيرًا في نسخة 2018 / 2019 واجه مانشستر سيتي توتنهام في الدور نفسه. حاول جوارديولا من جديد ارتكاب المحذور. أراح «ليروي ساني» و«كيفين دي بروين» في مباراة الذهاب، ولم يدفع بهما إلا في آخر الدقائق. وفي الإياب بدأ المباراة بدون أهم لاعب في منظومته الدفاعية، «فيرناندينيو».

يمكن القول إن دوري الأبطال أكثر عشوائية مما يظن جوارديولا. ما قبل الـ VAR وما بعده، مساحة كبيرة للمفاجآت، ومساحة أكبر للحظ. لذا فالبديهيات أولاً ثم التفكير المفرط ثانيًا. بالطبع لا يمكننا توحيد الظروف لجعل المقارنة منطقية، لكن زيدان مع ريال مدريد وقبله لويس إنريكي مع برشلونة، لم يلجئوا لتعديل تشكيلاتهم وفقًا للمنافسين إلا نادرًا. جوارديولا نفسه مع برشلونة في 2009 و 2011 لم يكن يفعل ما يفعله الآن، لأنه مهووس بإثبات ما أُثْبِت.

لو شبهنا التعليمات التكتيكية بإشارات المرور، فهل فكرت يومًا أن السيارات ستسير بشكل آمن في عدم وجودها؟ في مدينة «Poynton» بإنجلترا جُرِّب ما يسمى بالـ «Shared Space» حيث لا إشارات مرور ولا علامات إرشادية. تتشارك السيارات والدراجات والناس المساحة نفسها في انتظار وقوع الحوادث. الغريب أن غياب الإشارات جعل الناس أكثر حذرًا، فقلَّت الحوادث كما حدث بمدينة «دراختن» بهولندا.

بالطبع الأمر لم يكن منضبطًا في كامله، لكن التجربة تستحق. كثير من العلامات يقابله كثير من الإرباك، والمزيد من الـ «Over-Coaching» قد يضرك بدلًا من إظهار عبقريتك.

في النهاية، الثماني السنوات التي فشل بها جوارديولا في دوري الأبطال شهدت أيضًا فشل أسماء كجوزيه مورينيو، يورجن كلوب، أنطونيو كونتي، ماكسيميليانو أليجري، دييجو سيميوني، وغيرهم. لذا، فإن الأحكام الجزئية لا ينبغي أن تتحول إلى عامة، والبطولة المكونة من 13 مباراة ليست المعيار الوحيد للحكم على أي من الأسماء السابقة. ومن يدري لو كان أجويرو قد أحرز ضربة الجزاء تلك لما كنت تقرأ هذه السطور من الأساس.