في عُرف كرة القدم هناك قاعدة تُطبق غالبًا، أو دومًا في حال لم يحدث شيء خارجي، وهي أنها لا تعترف سوى بما يُقدم على أرض الملعب دون النظر إلى أسماء أو تاريخ أو خلافه. وفي حال كان أحد الطرفين من فئة الكبار والآخر من فئة الصغار وأصاب الطرف الأول بعض من الغرور أو النرجسية في التعامل مع الطرف الأضعف فإنه غالبًا ما تكون العواقب أكثر سوءًا.

تلك هي النظرية العامة، أما الخاص فإنه يشير إلى خروج منتخب ألمانيا من الدور الأول لكأس العالم في ظاهرة تحدث لأول مرة منذ ما يقارب مائة عام، وعلى مدار ثلاث مباريات لعبها حامل اللقب تأكد أن الأمر لم يأت من قبيل الصفة، بل أنه بني على عدة عوامل جمعت في النهاية واندرجت تحت نقطة النرجسية والغرور الألماني المذكورة سلفًا.


1. العقلية الألمانية لا تكفي

يتميز الجمهور الألماني سواء أصحاب الجنسية الألمانية أو جمهور المانشافت في جميع أنحاء العالم بالحديث عن العقلية والشخصية قبل أي شيء. صحيح أن تقاليد الألمان في كرة القدم فريدة عن غيرهم، وصحيح أيضًا أنها تسببت لهم في كثير من النجاحات على مدار تاريخهم، إلا أن التمسك الزائد بالتقاليد خلّف نوعًا من الاعتزاز الزائد، والذي خلف بدوره نوعًا من الغرور والنظر إلى أي شيء من المنظور الذي يراه الألمان، والذي يعد ما يخالفه خطأ أيًا كانت تفاصيله.

حينما تواجد بيب جوارديولا كمدرب لبايرن ميونيخ شن العديد من الألمان الحرب عليه بدعوى تدمير الفلسفة الألمانية، على الرغم من أن الاحتراف كان كفيلًا بالقضاء على مثل هذه الادعاءات، وأن المدرب الهجومي تواجد في إيطاليا وتواجد الدفاعي في إسبانيا، وتخلى الإنجليز عن الكرات الطولية ولم يحدث شيء، صحيح أن كل هؤلاء أيضًا يعادون كل من يخالف تقاليدهم ولكن نرجسية الألمان في التعامل فاقت الكل ولم يحدث لها مثيل في أي من بقاع أوروبا.

منذ أربعة أيام تصدرت الأحاديث حول العقلية الألمانية الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، وترددت عبارات لا أمان مع الألمان كثيرًا عقب هدف توني كروس في الدقائق الأخيرة، الذي منح ألمانيا ضمان التأهل نظريًا بحساب أن لقاء كوريا سيكون في المتناول.

أمام كوريا حضرت العقلية الألمانية، وحاول الألمان إلى آخر دقيقة، وتقدم نوير من مرماه ليصبح مهاجمًا ثامنًا بعدما لعب لوف بسبع مهاجمين فعلًا وبلا مبالغة، ولكن حضور كل ذلك لم يفد نظرًا لوجود مشاكل تكتيكية أكبر بكثير من أن تحل بالعقلية التي ثبت بالدليل القاطع أنها لا تكفي.


2. مشاكل تكتيكية كبيرة

على مدار 270 دقيقة لعبها المانشافت سجل الألمان هدفين فقط منهم هدف من كرة ثابتة ليسجل أسوأ معدل تهديفي له على مدار تاريخه في كأس العالم. وعلى الرغم من نجاحه في كسب معركة الاستحواذ إلا أنه عانى من المرتدات خلال الثلاث مباريات والتي كلفته أربعة أهداف جاءت جميعها من مرتدات.

كما شهدت تبديلات لوف جنونًا في الثلاث مباريات أيضًا بإقحام 6 مهاجمين، ووصل الجنون ذروته أمام كوريا ووصلوا إلى 7 مهاجمين في الربع ساعة الأخيرة، وعلى الرغم من كل ذلك لم تكن محاولات ألمانيا على المرمى توحي بوجود نصف هذا العدد من المهاجمين حتى.

ومن خلال الإحصائيات المذكورة ومن خلال مشاهدة المباريات الثلاثة، كان واضحًا للجميع أن مشكلة غياب لاعب الارتكاز الصريح أو قاطع الكرات عن تشكيلة المانشافت تسببت في فجوة كبرى بين خط الدفاع وخط الوسط، وأنه في حالة تمركز لاعب من الخصم في هذه المساحة فإن المرتدات تتضاعف فاعليتها عن المعدل الطبيعي، خاصة مع دفاع متهالك كدفاع ألمانيا.

ثنائية كروس وخضيرة أو حتى مع وضع جورتسيكا كثالث برفقتهم افتقدت العمق الدفاعي نظرًا لبطء جميع المذكورين وضعفهم في الارتداد الدفاعي. أما بالنسبة للرقم السلبي الهجومي، فإن المشكلة الأبرز لألمانيا كانت غياب السرعة، وهي بالمناسبة المشكلة التي اندرجت تحتها كل مشاكل ألمانيا.

فسواء ماركو رويس أو دراكسلر أو توماس مولر أو أوزيل، فإن الرباعي الذين لعبوا كأجنحة على مدار الثلاث مباريات عانوا من البطء الذي خلق صعوبة في محاولاتهم الدخول إلى العمق، أو البحث عن الحلول الفردية التي تكون من أهم متطلبات مركز الجناح في كرة القدم الحديثة، ناهيك عن رعونة فيرنير غير المبررة والتي شاركه فيها مولر والتي حالت بين ألمانيا وبين ترجمة الفرص القليلة التي صنعت أو التي أفلتت من بطء أوزيل ورفاقه.


3. لوف وصناعة الأزمة

بالنظر إلى المشاكل التكتيكية المذكورة، وبالبحث عن حلول لها يمكن بسهولة استنتاج أن كل أزمة منها كان يمكن حلها في حال الاستعانة بأحد الأسماء التي لم يستدعها لوف أو التي استدعاها ليكمل بها القائمة فقط ولم يفكر في الاعتماد عليها حتى حينما فرضت عليه الظروف ذلك.

قبل المونديال صدم لوف العالم باستبعاد لوروا ساني، الجناح الأفضل في إنجلترا في مسألة فتح الملعب على المستوى العرضي والقادر على خلق الحلول الفردية أمام التكتلات الدفاعية، وبالعودة إلى نقطة سوء مستوى الأجنحة وبالنظر إلى العقم الهجومي الناتج عن غياب الفرديات فإن الأمور لا تحتاج إلى المزيد من الحديث حول نقطة ساني بأي حجة من حجج لوف أو مؤيدي قراره.

بعد المباراة أكدت شبكة أوبتا للإحصائيات أن نسبة استحواذ منتخب كوريا بلغت 26% فقط، وهي أول مرة منذ مونديال 1966 يفوز منتخب بمباراة بنسبة استحواذ كتلك، وهذا منطقي جدًا حين يتم تقييد مفاتيح اللعب الهجومية بأدوار دفاعية، وهو ما نتج عن عدم الاعتماد على قاطع كرات على الرغم من امتلاك إيمري تشان وإيلكاي جوندوجان وتوماس فايجيل.

حدث ذلك غالبًا بسبب أن العقلية الألمانية تتطلب عدم تواجد لاعب ارتكاز، وأن الكبرياء الألماني سوف يكسر بإضافة لاعب وسط بميول دفاعية لا سمح الله، وهو ما يفضح أيضًا الاستحواذ السلبي الذي لم يحدث أي جملة منظمة أو هجمة خطيرة ناتجة عن مجموعة تمريرات على الرغم من وصول نسبة الاستحواذ الألمانية إلى 74%.

أما عن قضية مانويل نوير أم تير شتيجين فهي قضية مقحمة وليست من أسباب الخروج. تير شتيجين لم يكن ليمنع هدفًا دخل في مرمى نوير، وحتى لو وقف مكانه ولم يتقدم كما فعل نوير في الهدف الثاني أمام كوريا فإن المباراة كانت ستنتهي بخروج ألمانيا أيضًا، البكاء على تير شتيجين هو نوع من نسف كل قرارات الخاسر، وبما أن لوف أخطأ في عدة قرارات فلا داعي من وصف قرار إشراك نوير بالفاشل أيضًا.


المرحلة القادمة

بما أن ألمانيا ليست دولة عربية، فإنه بالتأكيد لن يتم نسف كل شيء ومن ثم المطالبة بالبناء من الصفر، وأيضًا لن يتم التعتيم على الكارثة بحجة أن كل شيء على ما يرام وأن الفشل والنجاح قضاء وقدر وأنه يكفي شرف المشاركة وما إلى ذلك.

الاتحاد الألماني لم يتعلم من درس إيطاليا في يورو 2008 و إسبانيا في كأس القارات 2013 وأن سقوط البطل يعني بوادر أزمات أو من الممكن أن يعلن معه نهاية حقبة وحتمية بداية أخرى، الكارثة التي ضربت إيطاليا في 2010 وإسبانيا في 2014 ظهرت بوادرها ولكن الاتحادات عولت على نجاحات الماضي، ولم تضع في اعتبارها أنها أصبحت جزءًا من الماضي.

وبإلقاء الضوء أكثر على إسبانيا في 2014، نجد أن القصة مطابقة لقصة ألمانيا، ديل بوسكي ولوف أفكار منتهية الصلاحية لم ينتبها إليه، وجيل بمعدل أعمار مرتفع عن الطبيعي انتهت أيضًا صلاحية بعضهم، كل ذلك ترتب عليه الخروج من الدور الأول في كأس العالم كما حدث مع ألمانيا.

رحيل ديل بوسكي بعد كأس القارات 2013 أو حتى بعد التتويج بيورو 2012 كان حتميًا من أجل بداية مرحلة جديدة، كذلك الحال مع يواخيم لوف عقب يورو 2016 أو حتى بعد التتويج بكأس العالم 2014، المبالغة في تجديد عقده لأنه بطل عالم لم تكن منطقية نظرًا لاحتياج ألمانيا إلى التجديد على مستوى كل شيء، وهو ما سيحدث الآن على الأغلب ولكن بعد وقوع الكارثة.

الآن حان الوقت من أجل رحيل لوف والاستعانة بوجه جديد، مع وجود احتمالية لأن يتسبب عناد الألمان في تأجيل هذه الخطوة حتى وقوع كارثة أخرى تصدق على الأولى، وتثبت بالدليل القاطع فشل لوف، وتبدأ في محو إيجابياته وإنجازاته السابقة.

التجديد كذلك يجب أن يشمل جيل 2010 الذي يشكل العمود الفقري للمنتخب حاليًا، بالاستعانة ببعض المواهب الصاعدة وبأفراد من جيل أبطال القارات 2017، تلك التي لعبها لوف بالشباب من أجل تجديد الدماء، وحينما أثبتت نجاحها لم يستدعِ منها إلا كيميتش، والذي لولا اعتزال فيليب لام لجلس يشاهد كأس العالم رفقة لوروا ساني.