أسدٌ عليّ وفي الحروبِ نعامةٌ .. فتخاءُ تنفرُ من صفيرِ الصافرِ هلّا برزْتَ إلى غزالةَ في الوغى .. بل كان قلبُكَ في جناحيْ طائرِ!

بيتان من الشعر الصادق أطلقهُما شاعرٌ مجهول، فانتشرا في الكوفة – بل العراق كله – كالنار في هشيمٍ مغمورٍ بالنفط! ثم توغَّلا في أعماق الذاكرة الإنسانية، حتى أصبح البيت الأول منهما، أشهر الأمثال العربية التي جرت – ولا تزال – على ألسنتنا عبر ١٤ قرنًا.يخبرنا المؤرخون أن الحجاج بن يوسف الثقفي طاغية العراق الأشهر، وعمود دولة بني أمية، قد تتبّع لسنواتٍ مبدعَ هذيْن البيتيْن، دون أن يعرفَ له طريقًا، ودون حتى أن يعرف – أو نعرف – له اسمًا. ظلّ البيتان صداعًا مؤرقًا، وإن لم يرددْهما الناس إلا همسًا طوال حياتِه، خوفًا من بطشه وتساهله في الدماء.وكأن هذه الأبيات وأمثالها من النقد اللاذع الذي يُنَفِّس فيه الوعي الجمعي للناس عما تجيش به الصدور من آلام القهر والطغيان، هي جزء بسيط من القصاص العادل من سدنة الظلم والاستبداد. تظل تلك الزفرات تلاحقهم وتقض مضاجعَ هيبتهم على مر العصور. وقد يبلغ بعضهم من العمر أرذله وتناله سطوة من غضب الشعوب، فيسمعها وأشدَّ منها مدويةً ملء ما بينَ الأرض والسماء.


من الكوفة إلى سيناء، لا جديد ولا شمس

سلسلة لا تكاد تنقطع من الصراع الطويل بين المستبدين والخوارج، تلتف حول رقبة تاريخ وواقع (ومستقبل؟!) أمتنا الإسلامية. في أتون هذا الصراع العدمي المرير، تحترق آمال جيلٍ بعد جيل في ملامسة الحُلم المنشود بإقامة عدل الله في أرضه بأيدي الأمة التي أرادها وسطًا، وأرادها منتصرة لنفسها إن أصابها البغي، وما أرسلَ رسولَها إلا ليكونَ رحمةً للعالمين.يُدفَعُ الناس دفعًا إلى التيهِ المرير، بين واقعٍ يفرضُه مستبدٌّ غشوم، لا يتورع، لتثبيت حكمه، عن استحلال الدماء والأعراض والأموال، وتفصيل الدين على مقاس طغيانه، فارضًا السلاحَ مصدرًا لشرعية الأمر الواقع؛ وبين معارضين غُلاة، لا يخرجون على ظلمه إلا بقدر ما يخرجون على الأمة كلها، بل قد تتصاغر جرائمُه أمامَ بعض جرائرهِم، فينفضّ الناس من حولهم.. والأدهى، من حول فكرة الثورة والتمرد – وحتى مجرد عدم الرضا – مطلقًا، فيصبحون آذانًا صاغية لدعايات الاستقرار في القاع، ولعزفِ جوْقات علماء السلطان والنخب المتملّقة.يتغذى كلا الجانبيْن وجوديًا على الآخر. فلو لم يجد المستبد المأزومُ خوارجَ، لاصطنعهم على عينه. وكذلك يجد الخوارج في دموية المستبد الغاشمة مادة خام لإذكاء الصراع الدموي، ولتجنيد مئات المقهورين والقانطين في صفوفهم. تستمر الحلقة المفرغة في الدوران: مزيد من الاستبداد الدموي، فمزيد من الخروج العنيف، يستغله الاستبداد ليفرض مزيدًا من القمع الدموي على كل معارض ولو بالكلمة. تكفُرُ قطاعاتٌ جديدة بكل أملٍ في الإصلاح السلمي، ينضم بعضهم إلى المارقين، تشتد سطوتهم، يشتد الاستبداد في رد فعله الدموي… وهكذا. وفي قلب تلك الدوامة، تغرق محاولات الإصلاح العاقلة بين تهم الخيانة والخروج المارق من هنا، وتهم الكفر والخنوع من هناك.


الكوفة تتشفَّى قليلا، وتتوجس كثيرًا

لم يغادر هذا المقطع وغيره أذهان أهل الكوفة – حاضرة العراق آنذاك – لحظة، بعد أن قصفهم به الحجاج في خطبته الأولى على منبر جامعهم الكبير العام الفائت. تهديدٌ صريحٌ بالقتل لأهون شبهة، صدَّقته شهورُه الأولى كحاكمٍ للعراقيْن، فوَّضَهُ الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بكافة الصلاحيات الدموية لقمع العراق، الذي لم يترك ثورة شيعية أو زبيرية أو خارجية .. الخ على الأمويين إلا أذكاها.أما الآن 76هـ، فلا يصدق الكوفيون المشهدَ الذي لم يتصوَّروه لا في حلمٍ ولا كابوس. فبعد اعتيادهم المرير على طلة الحجاج القاسية، كانت هذه المرة الأولى التي يرون فيها غيرَه مُجلجِلًا على المنبر مهدِّدًا متوعِّدًا. وللعجب، فهدف التهديد والوعيد كان الحجاج نفسه وأسياده في دمشق. كان الأسلوب الهادر العنيف لا يتناسب بتاتًا مع الرقة المتوقَّعة من الخطيب.. أو للدقة الخطيبة! إنها فارسة الخوارج الأشهر غزالة، زوجة شبيب الشيباني الذي زلزل العراق شهورًا. تنازَع الكوفيين الحيرةُ بين إطلاق عنان الشماتة بالحجاج، وبين التوجس الشديد من الخوارج وتاريخ بعضهم الأسود دماءً وتكفيرًا. لكن عمومًا، لم تمنعْهم الحيرة المتوجسة من تناقل البيتيْن اللذيْن لخَّص بهما شاعرهم المجهول ورطة الحجاج.. وبمنتهى التشفي!


أشهر زوج ثوري في تاريخ الإسلام

يخبرنا الذهبي في موسوعته الشهيرة «سِيَر أعلام النبلاء» عن شبيب الشيباني، أنه كان صاحب شجاعة استثنائية، دوَّخ بها الحجاج في السنواتِ الأولى لحكمه العراقيْن، وذلك بعد أن تولَّى شبيب مطلع 76هـ قيادة الخوارج الصفرية – وهم أقل غلوًّا من فرق الخوارج المعاصرة لهم كالأزارقة والنجدات – وذلك بعد مصرع قائدهم صالح بن مسرح عندما كبسه 3 آلاف من جند الحجاج وهو في 90 من أعوانه. نجا شبيب بأعجوبة من هذه المعركة، ليبايعه الخوارج أميرًا للمؤمنين.نجح شبيب – رغم قلة عدد جنده – في هزيمة 5 جيوش كاملة أرسلها الحجاج تباعًا للقضاء عليه. ثم قاد أقل من مائتي فارس من الخوارج، ومنهم زوجته الفارسة غزالة، في غارة مفاجئة على المدائن وسط العراق، وهزموا سرايا الحجاج هزيمة منكرة، ثم دخلوا الكوفة غِرَّة، ففرَّ الحجاج من أمامهم، وتحصَّن في دار الإمارة. ترسم الرواية التاريخية مشهدًا أسطوريًا لشبيب حاملًا عمودًا من الحديد، ويفتك بأحد قادة الحجاج بضربة واحدة، وكيف أن باب دار الإمارة حمل لسنواتٍ أثر ضربةٍ هادرة من عمود شبيب.سمح شبيب لغزالة أن تبرّ قسمها بدخول مسجد الكوفة للعن الحجاج وخليفتِه على منبره، وصلاة ركعتين بالبقرة وبآل عمران! وقبل أن نستكمل القصة إلى مصير غزالة وشبيب، سنعود 40 عامًا إلى الوراء.. إلى جذور قصة الخوارج.


الخوارج على صفحة تاريخ الإسلام.. بعد الاستبداد طبعًا

بلغني أنك خرجت غضبًا لله ولرسوله، ولست أولى بذلك مني، وقد علمت أنكم لم تخرجوا طلبًا للدنيا، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم طريقها. فهلم إلي أناظرك، فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل الناس وإن كان في يدك نظرنا في أمرك.

من رسالة عمر بن عبد العزيز إلى أحد زعماء الخوارج يدعوه للمناظرة

تعوق الدراسة الموضوعية للخوارج فكرًا وتاريخًا، حقيقة أن معظم ما بأيدينا من المصادر عنهم كتبه خصومُهم المنتصرون عليهم، وكذلك نخبُ الاستبداد. ولذا فالأوْلى التروي قبلَ تعميم الصورة السلبية التقليدية عليهم جميعًا.

تزامنَ ظهور الخوارج مع بدء انحسار موجة الحكم الراشد التي كانت قمتَها العهدُ العُمري وشطرُ خلافة عثمان. إذ في النصف الثاني للأخيرة، تغلَّب نفوذ أقاربه الأمويين عليه – وكان شيخًا تجاوز الثمانين – وعلى الدولة وجيوشها وثروتها. كان مشهدًا لم يألفْهُ الناس، حديثو العهد بالفاروق عمر حريصًا على تجنب مثقال ذرة من شبهة تقديم الأقارب. برزت نوازع التمرد بالأمصار الهامة كالكوفة والبصرة ومصر، وأطلت العصبية القبلية برأسها أنَفًا من استئثار الأمويين بكل شيء.

اقرأ أيضا:ذو النورين خليفة: موجز تاريخ خلافة عثمان

تطورت الحوادث، فحوصِرَ الخليفة الثالث، ثم قُتِل. دارت رحى الفتنة الكبرى، وكان من أبرز نتائجها، هبوط أمة الإسلام الظافرة على زمانها ومكانها من واقع الحُلم الراشدي إلى وقائع استبداد كسري وقيصر، و ما كاد يمضي على سحقها لهم سنواتٍ معدودة. وهنا برزَ الخوارج اسمًا ورسمًا.غلبت السلبية على سمعة الخوارج لاقتران أول تمرد في تاريخ الإسلام بجريمة قتل عثمان. وكذلك لأن أول من وصفوا حصريًا بلفظة الخوارج، كانوا أولئك الذين تمردوا على الإمام علي لرضاه بالتحكيم، واتهموه بالتهاون مع معاوية المستبد بحكم الشام ونصف الدولة، فكفَّروا الجميع، ثم خرجوا مستحلِّين الدماء والأموال. حينها، سحقهم علي في وقعة النهروان 38هـ. ثم كانت الوصمة البشعة، باغتيال أحدهم – ابن مُلجم – للإمام علي 40هـ.أضاف مزيدًا من السواد عليهم، بروز الشبهُ بينهم قولًا وفعلًا وبين من وصمتهم الأحاديث النبوية بالخارجين، صغار الأعمار سفهاء الأحلام، المارقين من الإسلام رغم تعبُّدهم، لضيق أفقهم، ولاستسهالهم التكفير والقتل. بعد مصالحة الحسن – معاوية 41 هـ. سكن الخوارج قليلا، لكن بمجرد تولي يزيد بوراثة جبرية وافتتاح عهده المشؤوم برأس الحسين، انفجرت الثورات هنا وهناك، خاصة بالعراق والحجاز، وفي قلبها الخوارج. لم يَعُد الخوارج كيانًا واحدًا فانقسموا فرقًا شتى لاختلافهم في فروع فكرية وتطبيقية، وغالبًا ما تسمَّت فرقهم بقادتها، كالأزارقة (نافع بن الأزرق )، والنجدات ( نجدة بن عامر )… الخ. ولا يتسع المقام هنا لمناقشة المقارنة بين هذه الفرق وبعضها.استمر الخوارج يستقتلون ضد استبداد الأمويين لعشرات السنين بوتيرةٍ لم تهدأ سوى عاميْ حكم عمر بن عبد العزيز. لكنهم عمومًا لم يُكْتَبْ لنضالهم النجاح، إذ أعان سطوةَ الولاة الأمويين عليهم، تفرقهم واقتتالهم البيني لأتفه الاختلافات، واقتران شجاعتهم بالتهور وسوء التخطيط، وغياب القاعدة الشعبية لنفور معظم المسلمين من غلوِّهم. فمُني الخوارج بهزائم خسروا فيها جُلَّ قادتهم.

أحدثت النكبات المتتالية تغييرات كبيرة في الخوارج، فظهرت فرقٌ أقلُ غلوًّا، وأكثرُ حنكة، نجح بعضها في إقامة دويلات هنا وهناك، كدويلة الصفرية في المغرب الأقصى التي استمرت قرنًا ونصف. ومن تجليَّاتهم المتأخرة المذهب الإباضي، المذهب الرسمي بسلطنة عمان، وهو الأقرب للمذهب السني، ولا يحب كثير من منتسبيه نسبتهم إلى الخوارج.

ومن المفارقات أن الخوارج الذين كانوا يُكفرُّون خصومهم لغياب الشورى والعدل ولتوريث الحكم، لم تخْلُ دولهم من كل هذه الأمراض. أما الأمويون، فرماهم الدهر بالعباسيين الذين جمعوا خبث الشيعة وصبرهم، واستماتة الخوارج، وكبرياء الفُرسْ، فقضوْا على دولتهم وارتكبوا بحقهم من المجازر ما تتضاءل بجواره بعض مجازر الأمويين. وأقاموا إمبراطورية بغداد على أنقاض ملك دمشق، دون كبير اختلافٍ بينهما شكلًا ومضمونًا.


شهابٌ لا يُطفئُهُ سوى الماء

يا أهل العراق.. يا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق.. لقد كنت أدعو الله أن يبتليكم بي! ولقد سقط مني البارحة سوْطي الذي أؤدبكم به فاتخذت هذا مكانه وأشار إلى سيفه
والله لآخذنَّ صغيرَكم بكبيركم، وحُرَّكُم بعبدكم، ثم لأرصِّعَنَّكم رصْعَ الحدَّادِ الحديدة، والخبازِ العجينة!
لمَّا ولدتهُ، رأيتُ كأنه يخرج مني شهابٌ من نار، فعلمتُ أنهُ لا يُطفئهُ إلا الماء.
جهيزة الفارسة أم شبيب، متحدثةً عنه لما أتاها خبر موتِه

انسحب شبيب بجيشه من الكوفة، لعجزه عدديًا عن السيطرة على هذا المصر الكبير، فاستعاد الحجاج عاصمته. استمرَّ جيش شبيب في سحق سرايا الحجاج، فاستنجد الأخير بملكه في دمشق الذي أغمَّتْهُ أخبار هذا التمرد، فأمده بآلافٍ من جيوش الشام حتى قاربت قواته 50 ألفًا. ولم يكن مع شبيب سوى ألف مقاتل.نجحت قوات الحجاج في إيقاع أول هزيمة بجيش شبيب، وكان أشد ما فيها مصرع زوجه غزالة، وأخيه مصاد. جمع شبيب فلول قواته، ليعاود المقاومة، ووقعت حادثة غريبة أنهت الفيلم في منتصفه فجأة.. إذ كبا بشبيب جواده في النهر، فمات غرقًا!لما وصل الخبر للحجاج، تنفَّس الصعداء. ولكن يبدو أن الميتة الغارقة حرمته من لذة الانتقام من عدوه اللدود، فأراد تعويضها في جثمانه. فأمر باستخراج جثة شبيب من النهر، ثم أمر بشق صدره وإخراج قلبه!