ليس علينا أن نذكر دائماً وأبداً أننا لا نملك رفاهية عداوة أحد، ولا ننتهج من قريب أو بعيد أن نحشر أنفسنا بين صراعات لا تنتهي، ولكننا نؤمن بضرورة الطرح المستمر للأسئلة التي ربما انتشلت إجابة من هنا أو هناك، وفي بعض الأحيان قد تزيد الحيرة.

بهذا النهج حاولنا فك شفرة أسئلة من قبيل: لماذا يصر الفقراء على الاستدانة من أجل التفاخر بالموت، ولماذا يتميز قرّاء القرآن غيظاً عند ذكر المغالاة في أجورهم، ولماذا يتهافت الناس على استدعاء شيخ صيّت (صيّيت) في كل عزاء؟

لا ندّعي أننا جبنا كل ركن لنعلم خبايا ثقافات مختلف المناطق، ولكن ما فعلناه بدقة أننا التقينا أنواعاً كثيرة من الأهالي قد حرصوا في مناسبات الموت لديهم أن يستدعوا شيخاً صيّيتاً، حتى وإن لم يكن هو الأفضل أو الأشد إتقاناً، ولكن الصيت مُقدّم عمّا سواه.

القارئ «الصيّيت».. لا بد منه

ابتدأت رحلتنا بقرية بسيطة تابعة لمركز قريب من المنصورة بالدقهلية، هنالك بدا أهل البلدة من ميسوري الحال، يعمل معظمهم بالفلاحة والأنشطة المتصلة بها. المتوفى رجل كبير، له من الذكور ثلاثة، وقفوا حتى يتلقّوا العزاء في أبيهم، بينما كان الشيخ محمود الشحات أنور يُدغدغ السرادق بنغم قرآني مُبين، ولا نزعم أننا وجدنا بسهولة مكاناً نتمكّن فيه من رؤية القارئ والاستماع إليه بين زُمر «السّميعة» الذين أحاطوه، مئات من الناس قد أتوا حتى يروا سليل العائلة الشحاتية صادحاً.

بعد نهاية الليلة، استطعنا أن نتحدث مع الابن الأصغر للمتوفى، فرحّب بنّا، ولكنه أبى أن يُذكر اسمه أو أي صفة على قريته عند رواية كلامه، وهكذا فعلنا.

قال، في البداية، إنه من أسرة فوق المتوسطة، وعائلة تعد تلك المراسم في مآتمها من الواجبات التي لا بد منها، واعتبر السرادق الضخم والميكرفونات الكبيرة من أشكال الاحتفاء بالمتوفى وامتناناً لقضاء الله الذي لا يُحمد على مكروه سواه.

وأضاف أن مسألة أجر القارئ من المراسم الراسخة التي ورثوها أباً عن جد، فلا بد لليلة العزاء من قارئ ذائع الصيت «يوقف المأتم على قدم»، مُشيراً إلى أن ذلك من الأشياء التي تدعو للفخر في الأرياف، وحدث في مرات عديدة أن أهل المتوفى لم يعتدوا بليلة عزاء وكان القارئ الشهير فيها غير موفق، فيجتمعون بعدما يختم الشيخ ليلته ليستردوا منه بضعة آلاف من أجره، لأنه لم يجلجل في تلك الليلة كسابق عهده.

ولفت إلى أن الشيخ محمود الشحات أنور قد تقاضى في تلك الليلة الساخنة 60 ألف جنيه، مُشيراً إلى أن «سليل العائلة الشحاتية» على معرفة خاصة بأسرته، ما جعله يخفّض من أجره لقاء تلك الصلة القديمة، بينما أرجع الابن الأصغر للمتوفى ذلك الإصرار على «نجل الشحات» إلى أنه، والحق يُقال، يصنع ليلة للميت قلّما يفعلها أحد سواه.

مأتم هنا وعيدٌ هناك

بعدها بأيام استطعنا أن نحضر عزاءً كبيراً بقرية في الشرقية تابعة لكفر صقر، كان فارسه الشيخ محمد يحيى الشرقاوي، لم نستطع أن نستأثر بأي معلومات من أهل المتوفى أنفسهم، ليس لأنهم أبَوا الحديث، والحق يُقال، ولكن لأنهم كانوا غارقين حتى آذانهم في لملمة شمل ذلك الجمع الكبير الذي ضاق السرادق به، مما جعلنا نلتقي واحداً من السمّيعة.

قال (م.ج)؛ مهندس زراعي، إن القراء «الصيّيتة» يحلِّون على القرى في مناسبات العزاء كمثل الأعياد، ما يجعل أهل المتوفى يعدون تلك المظاهر، التي تشير إلى الفرح ولا تمت إلى حالة الحزن التي يحيونها، أمراً من المفاخر التي يتحدث عنها أهل البلد أياماً بعدها، وأرجع مسألة مغالاة المشايخ في أجورهم إلى التقاليد الدينية، التي تُرغِم ذوي الميت أن يتوقفوا كثيراً أمام عتاب الكثيرين: «هتستخسروا في المرحوم قرشين على روحه!»، لافتاً إلى حساسية تلك الأمور في الأرياف، وقد يُعيّر أهلها بعضهم بعضاً بمثل تلك الأحداث.

وأضاف أن محبته لسماع القرآن وصداقته لكثير من القراء لا ترده أن يُوجِّه النقد إلى عديد منهم؛ حرصاً على قدر المستطاع من التخفيف عن كواهل أهالي المتوفين من ناحية، فضلاً عن كرامة صاحب القرآن الذي ينبغي ألا يظهر في ثوب تاجر جشع أمام الناس، مُشيراً إلى أنه يعرف بعضاً من المشايخ لا يصعدون «التختة» إلا بعد تقاضي مبلغ التلاوة كاملاً غير منقوص قبلها، ولا تفاوض في ذلك الأمر لديهم.

وذكر أن بعض أهل الريف قد يضطرون حسب الأعراف والتقاليد أن يقترضوا ثمن تكاليف السرادق والقرّاء ومأدبة الإطعام، حتى يتمكنوا من التفاخر أمام سائر القرية بأنهم استطاعوا جلب شيخ «صيّيت» حتى يُحيي مصيبتهم في فقيدهم، مُضيفاً أن الشيخ الشرقاوي في تلك الليلة قبض 45 ألف جنيه، كما علم هو نفسه من صاحب المأتم.

«السمّيعة».. جمهورٌ متألق

وفي قرية قريبة من القاهرة تابعة لمركز قليوب، استطعنا أن نحضر عزاءً أتى فيه صاحبه بالشيخ حجاج الهنداوي، وكانت تلاوته التي حضرناها متألقة لدرجة جعلت صخب «السمّيعة» يفوق صوت القارئ نفسه أثناء التلاوة، ما جعل القارئ يرجوهم أن يهدؤوا حتى يتم الربع.

لم نتمكن من لقاء أحد أبناء المتوفى، ولكن ابن أخيه، الذي رفض ذكر اسمه، قال لنا إن الهنداوي قد طلب في الليلة 42 ألف جنيه، ولكنه خفّضها لـ37 ألف بعدما توسط عنده أحد أحبابه، ففعلها جبراً لخاطر الرجل، وإن كان الشيخ لا يتهاون في مثل تلك الأمور.

وردّ مسألة إصرار أهل المتوفى على جلب الشيخ الهنداوي خصوصاً، إلى أنهم ليسوا أقل شأن من عائلة أخرى بالبلد أتت به في مأتم فقيدها قبل ذلك الحين بشهرين، مُشيراً إلى أن ذلك يجعل أسرته حديث البلدة كلها لليالٍ وأيام.

تمكنا أن نلتقي أيضاً بأحد المقربين من الشيخ فاروق ضيف، بمأتم في قرية قريبة من شبين الكوم، كان الجو هادئاً لوقت بدا طويلاً حتى استطاع القارئ أن يُلهِب الآذان والقلوب بمحاكاة فريدة للشيخ محمد رفعت، فانطلقت الأفواه تُحيِّيه بحرارة وتُثني على أدائه لتلك المدرسة العتيقة.

قال (ي.ح)؛ مهندس ميكانيكي وأحد محبي الشيخ فاروق ضيف، إن القارئ يحاول ألّا ُيكلِّف أهل الميت ما لا يطيقون، بينما لا يتنازل أيضاً عن تقدير نفسه حق قدرها، ولذلك فإنه لا يتقاضى «وهبة» تقصم الظهور، رغم صيته الذائع وأدائه الرائع.

وفي دار مناسبات كبرى في أحد أحياء القاهرة الراقية، كنّا على موعد مع الشيخ ياسر الشرقاوي، الذي بدت قراءته سلاسل مكتملة من فن تلاوة القرآن، في ظاهرة لم يكن «السمّيعة» حاضرين بها، بينما جلّ المعزّين من ذوي الوجاهة الاجتماعية، ولم نتحدث إلى أهل المتوفى طبعاً، بينما استطعنا أن نعرف من أحد المطلعين على الأمر أن القارئ ذا الأداء التراثي الحداثي المتميز قد تقاضى 45 ألف جنيه، مضيفاً أن العائلات ذات المكانة المرموقة يحرصون دائماً على دعوة القارئ.

لم نستطع الحصول على معلومات أكثر من ذلك، فآثرنا أن نجلس مستمعين إلى الشيخ الشرقاوي، ولم نشعر مع التلاوة إلا بهدوء فاق جميع المآتم التي حضرناها، لا صخب أو أحاديث جانبية، وإنما تلاوة متقنة بشدة، لا تمييعاً فيها للقواعد أو تلاعباً بها في النغم، فهل ذلك القارئ غير «صيّيت»؟

أخبرنا المسؤول عن تجهيزات العزاء، بأن الشرقاوي «قارئ الأكابر» كما وصفه، لا يحب الصخب من حوله أثناء القراءة، لأنه يقدر للقرآن حق قدره، كما أنه ربما نهر من يصطنع صخباً أثناء الاستماع إلى التلاوة حتى ولو كان تحية له على حسن الأداء، وأسرّ لنا الرجل بأن الشيخ قد تلقّى في تلك الليلة 43 ألف جنيه، مُشيراً إلى أن ذلك المبلغ لا يعدو أن يكون ثمن سهرة واحدة لابن المتوفى، صاحب تجارة الحديد.

لماذا تنظرون دائماً في لقمة العيش؟

قال الشيخ (م.و)؛ من قرّاء القرآن المشاهير، حينما التقيناه بمأتم بقرية قرب الزقازيق، إن الحديث عن أجر، أو ما سمّاها «وهبة» التلاوة، يمثل حساسية شديدة لدى القرّاء، فالمطربون يحصلون على ملايين لقاء أغنياتهم، ولا يسأل أحد عمّا يفعلونه، مُشيراً إلى معظم القراء «بياكلوا عيش» كباقي أصحاب الصناعات، ولا يتعلق الأمر بقضية إيمانهم برسالة المهنة، فهم لا يحملون على عاتقهم تحقيق العدالة -مثلاً- كالمحامين أو حفظ السلم كرجال الأمن، إنهم مجرد بشر عاديين جداً أوتوا موهبة الصوت الحسن.

كما تساءل: لماذا يهتم الرأي العام بالمآتم وقرائها فقط ولا يلقي بالاً لحفلات الزفاف التي تنفد فيها التكاليف الطائلة؟ الأمر سيان، كما قال، إلا أن القداسة الدينية التي يظهر بها شيخ بجبّة وقفطان وعمامة وصوت قرآني مُحكم جعلت الناس لا يحتملون أن يبدو في صورة جشع أو مُغالٍ، كما يظنون، بينما يقبلون بصدر رحب المناسبات السعيدة التي لا بأس أن يُبددوا فيها من المال ما يشاؤون على المطربين والفرق الموسيقية وقاعات الأفراح.

وأضاف أن المظاهر الاجتماعية صاحبة اليد الطولى على القرّاء، فلولاها -حسب وصفه- ما وجد القراء الكبار مآتم يتلون بها، لا سيما في الريف، على بعد أركانه بالوجهين البحري أو القبلي، وإن كان كل أهل منطقة يُفضِّلون قرّاءً معينين.

وبيّن أن القرّاء في الغالب يحاولون عدم الاصطدام ببعضهم، فلو دُعي واحد منهم مثلاً بنطاق جغرافي يخص شيخاً آخر في الريف، فإمّا أن يطلب الأخير مصاحبة الأول معه في المأتم ليتقاسما «الدّكة»، أو أن يستأذن هاتفياً زميله صاحب المنطقة، لكيلا تحمل النفوس شيئاً.

وأشار سريعاً إلى المناطق التي تخص القرّاء، فشق كبير من الشرقية يخص الشيخين عبد الفتاح وأخاه محمد الطاروطي، ويتقاضى الأخير نحو 25 ألفاً في الليلة، بينما الأول يمكن أن يصل أجره إلى 45 ألفاً، بينما الغربية يسري فيها صيت القارئين محمد يحيى الشرقاوي وعبد الناصر حرك، لا سيما في مركزي زفتى والسنطة، ولا تزيد وهبة الأخير عن 30 ألفاً للمأتم الواحد، بينما طنطا وما حولها تحب الشيخ محمد عبد السلام بسيوني، الذي لا يطلب أكثر من 15 ألفاً، إلا قليلاً.

وذكر أن الوجه القبلي بأسره يكاد يعشق الشيخ محمود صديق المنشاوي، الذي يعده الناس هناك في مختلف محافظاته الأب الروحي لهم، ويمكن أن ينتزع منه القارئ محمود الخشت بعض المناطق في أعالي الصعيد، ولا يطلب أكثر من 30 ألفاً، بينما الإسماعيلية وما حولها تحب القارئ محمود علي حسن رغم أصوله الشرقية.

لا بأس! هكذا الأمر في كل زمن

ختاماً، الأمر أشبه بظاهرة الشيخ الضرير ذائع الصيت التي جسّدها ببراعة الفنان حسن حسني في فيلم البدرون، من إخراج عاطف الطيب، فقد كان «قيسون» لا يتنازل عن 3 بواكٍ في الطلعة الواحدة، وربما كان نصيب كل ليلة من لياليه وافراً، فيبارك الله وتنهال عليه الدعوات.

وترى (السايس) الذي لا يملك من قوت يومه إلا الكفاف يرجو من الشيخ قيسون أن يباركه بإحياء طهور ابن ابنته، إلا أن القارئ لا يدخر وسعاً في أن يُذكِّره بالبواكي الثلاث ثمن الطلعة، فيؤمّن الرجل على كلامه بأنه سوف يدبّر له المبلغ الذي يريده.

بغرائبية بالغة، تطل علينا ظاهرة الشيخ الصيّيت، بينما يحاول يوسف (أحمد عبد العزيز) أن يقنع أمه وخالته بأن شريط كاسيت للنقشبندي لن يتجاوز ثمنه جنيهات ثلاثة، سيغني عنهما 3 آلاف جنيه يتقاضاها الشيخ قيسون لقاء صدحه، ولكن الوالدة وأختها تعتبران ذلك عيباً في حق مكانتهما الاجتماعية، بينما الرجل البسيط (السايس) يعد ذلك انسلاخاً من طبقته الاجتماعية البسيطة وتشبهاً بالأكابر من الناس، في معركة غير متكافئة لا يمكن أن يكون فيها «منْ تشبّه بقومٍ فهو منهم».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.