في الوقت الذي ينشغل فريق خاص من المحققين الأمريكيين بقيادة «روبرت مولر»، المدعي الخاص المكلف بالتحقيق في قضية التدخل الروسي المزعوم في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والذي قد تتطيح نتائجه – في حالة ثبوت التدخل – بالرئاسة الهشة والجدلية للرئيس «دونالد ترامب»، يتم عرض فيلم «العصفور الأحمر – Red Sparrow» ليلقي الضوء على خلية خاصة تابعة للمخابرات الروسية، تختص باختراق دوائر السلطة العليا في القوى العظمى العالمية، التي تتقاطع خطوطها مع مصالح الدب الروسي.

فيلم العصفور الأحمر من إخراج النمساوي «فرانسيس لورانس» المشهور بإخراجه لسلسلة «Hunger Games»، وبطولة النجمة الحسناء «جينيفر لورانس»، التي تلعب دور راقصة البالية الروسية «دومينيكا إيجوروفا»، التي تتعرض لحادث درامي أثناء أدائها أحد العروض الرئيسية، حينما تنكسر ساقها بشكل خطير بما يعني عدم قدرتها على استمرارها في مسيرتها المهنية.

تشعر دومينيكا بالتحطم التام، وخصوصًا أن عملها كان مصدر رزقها الوحيد من أجل العيش والاعتناء بأمها المريضة، وهنا يتدخل عمها ضابط المخابرات النافذ «فانيا إيجوروف»، والذي يعرض عليها وظيفة خطرة يقنعها أنها السبيل الوحيد لكي تضمن مستقبلها ومستقبل والدتها. تكتشف دومينيكا أن عمها قد رتب لها الانضمام لمجموعة خاصة تدعى «العصافير الحمراء»، وهي مجموعة من الشباب والفتيات الروس الذين يتمتعون بجمال وفتنة خاصة، بجانب ذكاء متقد ومهارات استثنائية.

يتم تدريب هذه المجموعة في مدرسة سرية على يد سيدة متحجرة المشاعر، من أجل هدف واحد فقط، التجرد من مشاعرهم الشخصية وكل قيمهم وأخلاقهم؛ من أجل تحقيق الهدف الروسي باستعادة عظمة الحقبة السوفيتية، والانخراط في شخصيات جديدة يتم زرعها في عواصم عالمية، والتقرب من سياسيين من أجل الحصول على معلومات ووثائق مهمة، أو ابتزاز تلك الشخصيات جنسيًا من أجل ضمان ولائهم وعملهم لصالح الرؤساء الروس.

في 18 فبراير/شباط الماضي، كشف الصحفي الأمريكي «توماس فريدمان» بمقال في الـ«نيويورك تايمز»، عن تفاصيل مثيرة حول احتمالية تورط «ترامب» في علاقة جنسية خلال وجوده بروسيا أثناء إقامة مسابقة ملكة جمال العالم منذ سنوات، وأن الروس قاموا بتسجيل تلك العلاقة بالصوت والصورة ويستخدمون تلك الشرائط في ابتزاز الرئيس الأمريكي وتحريك البيت الأبيض حاليًا بما يتناسب مع مصالحهم.

أحداث «العصفور الأحمر» تعطي لفرضية فريدمان احتمالًا كبيرًا، وتتبع خطوة بخطوة استراتيجية الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» في وضع بلاده مرة أخرى في مرتبة القيادة على المسرح الدولي، لتتدخل وتهيمن على الكثير من النقاط الجيوستراتيجية حول العالم، لتصبح لروسيا كلمتها المسموعة مجددًا، ولتصبح لاعبًا مؤثرًا ينازع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وألمانيا والصين، مثلما أثبت بالفعل عبر تدخله في أوكرانيا والقرم وسوريا وغيرها من نقاط النزاع العالمية، حيث المصالح الحيوية في السيطرة على حوض البحر المتوسط ومنابع النفط.

بعد إتمام تدريب شاق وقاس على المستوى النفسي والبدني، تنتقل دومينيكا إلى عدة مدن أوروبية من أجل تحقيق عدة أهداف، أولها كشف سر عميل مزدوج روسي يعمل في قمة هيراركية السلطة الروسية، وأيضًا لإتمام صفقة تجنيد شخصية أمريكية بارزة. يتقاطع مسار دومينيكا مع عميل المخابرات الأمريكية «نيت ناش» –يقوم بدوره الممثل الأسترالي «جويل إدجيرتون»- الذي يقع في غرامها، ويحاول بدوره تجنيدها للعمل لصالح الأمريكيين.

بقدر ما يحتوى الفيلم من إثارة بالغة بانتمائه لفئة أفلام الجاسوسية والحركة، ونجاحه في غمس المشاهد في أجواء أفلام الجاسوسية التي تنتمي لحقبة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، بقدر ما كشف الضوء على العقيدة القومية للجيل الشاب الذي يعيش في روسيا العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، والكيفية التي يقوم بها النظام السلطوي الروسي في تجنيد أبناء الطبقة الوسطى وتحت الوسطى من أجل تحقيق أهدافه وطموحاته الجنونية.

يبدو الضابط الروسي إيجوروف الذي يبدو معادلًا موضوعيًا للرئيس الروسي «بوتين»، وخصوصًا مع التشابه الجسدي الكبير بين الأخير والممثل البلجيكي المخضرم «ماثياس شونارتس» الذي يلعب دور «إيجوروف» – مهووسًا بالسلطة وبتحقيق أهدافه، حتى للقدر الذي يدفع بنت أخيه إلى «بيت للدعارة» كما تصف دومينيكا نفسها مدرسة «العصافير الحمراء».

هذا الصراع بين حب دومينيكا لبلادها، وبين ظروفها المعيشية الاقتصادية الصعبة –في بلاد بلغ معدل الفقر فيها أعلى نسبة في العشر سنوات الأخيرة بمعدل 13% وبمجمل 19,8 مليون شخص يحيون تحت خط الفقر- يثير الكثير من علامات التساؤل، حول قدرة الجيل الروسي الشاب للتطلع لمستقبل أفضل، يحقق فيه أحلامه وينخرط فيه في تشكيل مستقبل بلاده، بعيدًا عن سلطوية الطبقة الأوليجاركية الحاكمة، بقيادة القيصر الجديد بوتين. وأيضًا حول جاذبية النموذج الأمريكي له في مقابل النموذج الروسي.

يكشف الفيلم كذلك عن وجود طبقة خفية داخل دوائر السلطة نفسها، تحاول مقاومة الطموحات الديكتاتورية للنظام الحاكم بشكل سري، يجنبها قسوة التعذيب والإعدام الذي يمارسه النظام على المعارضين بمنتهى القسوة.

الفيلم الموجه بشكل رئيسي للجمهور الأمريكي، يحاول استثمار الاهتمام الداخلي في الولايات المتحدة بالتدخل الروسي في انتخابات 2016، ويقدم محاذير جادة من أجل إعادة تقييم قوة وخطر القوة الروسية، في الوقت الذي يصب ترامب نفسه الاهتمام على إيران كخصم وعدو رئيسي للشعب الأمريكي.

يلقي الفيلم الضوء أيضًا على نقاط الضعف داخل منظومة الحكم الأمريكي، ودوائر المخابرات والأمن القومي، فيما يشكل مراجعة ذاتية وموضوعية ذات قيمة عالية، تؤكد على استمرار حيوية «الديمقراطية» الأمريكية وقدرتها على المساءلة، وطرح جميع القضايا بجرأة وشفافية، على الرغم من كل المخاطر التي تتعرض لها نفس الديمقراطية على يد شعبوية وعشوائية ترامب.