في أحد أيام الصيف التي كنت أقضيها في ألمانيا، ليس لكونها مصيفًا جميلًا، بل لكونها وجهة لعمل «إضافي» لكثير من أبناء جلدتي، الذين يحملون من صيفها ما يُعينهم على شتاء البوسنة. وبالرغم من كوني وقتها «عاملًا»، فإن هذا العمل كان بمثابة استراحة محارب أقضيها في تنمية هواياتي، والتي من ضمنها هواية استماع البودكاست أثناء إعداد الطعام.

أذكر جيدًا أنني استمعت إلى حلقة، تحدثت فيها ضيفة قضت شهورًا وشهورًا مع هؤلاء «المهاجرين غير الشرعيين» -كما يصفهم البعض- أو «الإخوة اللاجئين»، كما يصفهم آخرون، وذلك بصفتها طبيبة متطوعة، كانت تستكمل دراستها في بلغاريا، لكي تساعدهم على النجاة في مختلف دول البلقان التي تقع على مشارف الحضارة الأوروبية. وقتها ما فتئت أسأل نفسي سؤالًا واحدًا: كيف اختلفت نظرتهم تجاه هؤلاء المارين من «أراضيهم» من كونهم أناسًا وبشرًا إلى كونهم «غير شرعيين» وخطرًا؟

ما لم أتنبأ به أنا، ولا غيري ممّن هو أفضل بصيرة مني، أن هذا الصيف من عام 2019، وما تحمله لنا الأيام المقبلة، سيكون بداية كابوس، ما أردنا أن نراه رأي العين لا نحن ولا هم. إذا قلبنا صفحات الماضي، التي هي في طريقها لتصبح جزءًا من التاريخ، فقد بدأ اللاجئون في الدخول إلى البوسنة والهرسك بدءًا من عام 2017، حيث رصدت الشرطة البوسنية حينها مرور ما يقارب الـ 651 شخصًا من خلال الأراضي البوسنية في طريقهم إلى الغرب السعيد. هذا العدد من المهاجرين، وإن كان الآن لا يعد شيئًا، كان أول رسالة تحذير إلى البوسنة كي لا تتحول إلى جزء من الطريق الجديد للمهاجرين، ولكن لم يعبأ بها أحد، إذ ارتفع هذا العدد بنسبة 380%. وهكذا تعرفت البوسنة على الجزائري والباكستاني والأفغاني والتركي والليبي والسوري والمغربي والألباني، القادمين إليها برًا وبحرًا من اليونان عبر ألبانيا والجبل الأسود أو صربيا.

تفجر الأزمة

بعد أن تعرفنا على بعضنا البعض، ارتأت السلطات أنه من الأفضل اصطحاب هؤلاء المهاجرين إلى مركز استقبال بالقرب من العاصمة سراييفو، لكن هؤلاء الضيوف الذين لا يرغبون في البقاء في البوسنة سرعان ما بدؤوا بالتحرك نحو الحدود البوسنية الكرواتية، وبالتحديد إلى مدينة فليكا كلادوشا.

رد فعل أهالي مدينة «فليكا كلادوشا» الذين قدّموا المساعدة للمهاجرين وآووهم في بيوتهم وقدموا لهم الطعام والشراب، كانت خير مثال لموقف شعب شهد ويلات الحرب عمّا قريب، بينما انشغلت وسائل الإعلام بمحاولات تقديم الجواب على سؤال: «من أين جاء هؤلاء؟»، والسياسيون مشغولون بالبحث عن حلول مع الدول المجاورة والتقليل من خطورة الموقف، وبحث إمكانية إغلاق الحدود الشرقية مع صربيا والجبل الأسود التي تمتد على طول 600 كيلو متر.

لن يمر أكثر من أربعة أشهر، قبل أن يفهم البوسنيون والعالم أنه لا يجدر بالبوسنة والهرسك أن تصبح على طريق المهاجرين إلى أوروبا، حيث امتلأت مراكز الاستقبال في سراييفو، ومن ثَمَّ خروج اللاجئين إلى الحدائق لاستجداء المساعدة التي هرع المتطوعون لتقديمها. والحدث الثاني الذي حمله إلينا شهر مايو/أيار 2018، والذي كان بمثابة رسالة ترحيب للاجئين في عالم سياسة البوسنة، سيكون إيقاف الحافلات التي تقل بعضهم من حدائق سراييفو إلى مركز معدّ لاستقبالهم خارجها من قبل الشرطة البوسنية.

ستسألني كيف توقف شرطة بوسنية حافلة أرسلتها الحكومة البوسنية وتتبعها شرطة بوسنية، وسأبتسم لأنك لست من البوسنة فلا تفهم هذه الأمور، وأجيبك أن الشرطة التي كانت تتبع الحافلة كانت شرطة كانتون سراييفو، والتي أوقفتها كانت تابعة لـ كانتون الهرسك – نيريتفا ذي الغالبية الكرواتية. لا تقلق ستتعوّد كما تعوّد اللاجئون، وستعرف أن البوسنة فيها إقليمان وأحد عشر كانتونًا، ولا تقلق فقد عبر اللاجئون بعد ساعات من الانتظار في الحافلات بسلام. من تلك اللحظة أصبح واضحًا للجميع أن اللاجئين سيصبحون ورقة في التجاذبات السياسية بين أطياف البوسنة وإداراتها.

وضع متأزم

منذ تلك اللحظة وحتى نهاية عام 2018، بدأت كل الأطراف المعنية في قصتنا تتخذ قراراتها التي سترسم مواقفها حتى اليوم، فاللاجئون اتخذوا من سراييفو محطةً للراحة، ولمواصلة المسير إلى الحدود الغربية مع كرواتيا، والتي من جانبها قد أغلقت حدودها واستخدمت في ذلك أساليب عنيفة نددت بها منظمات كالعفو الدولية وهيومن رايتس ووتش وصحيفة الجارديان.

وبذلك انضمت كرواتيا إلى الدول التي تطبق سياسة الاتحاد الأوروبي الجديدة القاضية بمنع دخول اللاجئين بأي ثمن، وعوضًا عن ذلك دفع ملايين اليوروهات إلى الدول المتاخمة لحدودها، حيث دفعت في ذلك العام مليون ونصف يورو إلى الحكومة البوسنية لإنشاء مراكز استقبال جديدة للاجئين، والتي قامت بهذا الدور، كما حاولت بما أتيح لها من عدة وعتاد أن تمنع اللاجئين من الوصول إلى الحدود، بينما قام الشعب بكل أطيافه ومؤسساته بالتعاطف مع اللاجئين وتقديم الطعام والمساعدات لهم.

أمّا وسائل الإعلام، فكان كلٌ يغني على ليلاه، فطابور من الموالين للجار الشرقي (صربيا) قد تحدث عن أنهم ليسوا لاجئي حرب بل محاربين سابقين، أمّا الموالون للجار الغربي (كرواتيا) بدؤوا في نشر الإشاعات عنهم، وطابور ثالث تحدث عن سرقات اللاجئين وشرائهم للأسلحة في بيهاتش، ورابع تحدث عن رؤيتهم للثلج أول مرة وعن التحاق أبنائهم بالدراسة.

حصاد هذا العام (2018) كان 3 آلاف لاجئ عالق في الأراضي البوسنية، ورفض 49% من البوسنة رسميًا، متمثلًا في إقليم سربسكا ورئيسه، استقبال اللاجئين قطعيًا.

لا تحمل هم السياسة كثيرًا، بل تعوّد كما تعوّد اللاجئون، وابتعد عن مدن هذا الإقليم إلى المدن ذات الغالبية من البوشناق المسلمين.

أوضاع مأساوية وتحريض الرأي العام

هذا الوضع سيصبح نقطة الصفر في ملف اللاجئين في البوسنة على مدار العامين المقبلين، إلا أن معالجة وسائل الإعلام وموقف عامة الشعب من الضيوف المجهولين هو منْ سيتغير باستمرار.

ففي عام 2019 دارت الأحداث في حلقة مفرغة، وفي كل دورة تصاعدت وتيرتها، بين لاجئين يقطعون البوسنة من الشرق مارين بالمدن ذات الغالبية من البوشناق المسلمين، مثل توزلا وزنيتسا وسراييفو، التي تحولت، وبالأخص محطات الحافلات فيها إلى بيوت ثانية لهم، وصولًا إلى بلدات الغرب مثل بيهاتش، التي نجحت فيها السلطات المحلية في عكس توجيهات المنظمات العالمية بنقل اللاجئين خارجها وبدأت في إنشاء مراكز استقبال جديدة (مثل فوتشياك أو Jungle camp كما أسماه اللاجئون)، بلا كهرباء ولا دورات مياه ولا خطوط هاتف، أي في ظروف غير إنسانية يجب أن نخجل منها، كما وصفتها مبعوثة الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان بعد زيارتها. وقد أدت كل هذه الضغوط إلى إعادة اللاجئين إلى مراكز في سراييفو.

من جانبها فقد أغلقت كرواتيا حدودها الأوروبية، واكتفى الاتحاد الأوروبي بالتلويح بكمية الأموال التي دفعها إلى حكومة البوسنة، والتي بلغت في عام 2019 نحو 14.8 مليونًا، بينما بلغ عدد اللاجئين الذين دخلوا إلى البوسنة في ذلك العام من 7 إلى 10 آلاف.

على الطرف الآخر من المعادلة، فقد ركّزت وسائل الإعلام على الحديث عن قيام الشرطة الصربية بتوصيل اللاجئين إلى الحدود البوسنية، وعن عنف الشرطة الكرواتية على الجانب الآخر، وكأنها محاولة استجداء الرأي العام نحو مساعدة اللاجئين، بينما ظهر صوت نشاز ضعيف يتحدث عن جرائم قام بها اللاجئون، بعضها حقيقية وبعضها مُختلَقة، بينما أظهرت الاستطلاعات أن حوالي 75% (في استطلاع آخر 87%) من الشعب البوسني يرون ضرورة مساعدتهم، بينما 8% فقط يرون أنهم قد يمثلون خطورة.

أمّا بعدها، فقد حلّ عام لم يشهد الناس له مثيلًا، إذا أنسى فيروس كورونا الشعب مشكلة اللاجئين، لمدة ستة أشهر كاملة، حتى تم تشكيل الحكومة الجديدة منتصف العام، وإعلان وزير الأمن عزمه ترحيل اللاجئين إلى بلادهم، ما ترتب عليه أزمة دبلوماسية مع باكستان الشقيقة.

ثم بين أخذ ورد استقال الوزير، لتتبعه أيام من النشر الممنهج من صحف موالية من الجار الغربي عن جرائم اللاجئين في البوسنة، ثم استمرت على هذا المنوال كل وسائل الإعلام التي تنشر باستمرار عن جرائم قتل بين اللاجئين وأعمال شغب في المراكز وعن استئجارهم للعاهرات وعن سرقاتهم من المواطنين وغيرها الكثير.

أمّا الشعب الذي تعرض لأزمة اقتصادية من جرّاء كورونا، وتحت تأثير كل هذه الأخبار وما يلمسه يوميًا من تصرفات هؤلاء الغرباء، قد بدأ يفقد صبره، خاصة أهل بيهاتش والمدن المتاخمة للحدود الكرواتية، والذين أحسوا أنهم قد تُركوا وحدهم أمام هذه السيل، ولذا قد بدؤوا في التظاهر لإخراج اللاجئين من مدنهم، ومن ثَمَّ تبعهم سكان المناطق الأخرى في التظاهر بعد جرائم اللاجئين وقطع الطرق أمام الحافلات التي تنقلهم، لنصل في نهاية العام إلى الذروة.

في مشهد الذروة، وقبل أن تُسدَل الستائر، سيستيقظ مهاجر على حدود بيهاتش مع إخوته الذين قضوا شهرًا في العراء، محاولًا –بالإضراب عن الطعام وبإحراق الخيام وبكل السبل- إقناع الجميع بحقه، متسائلًا عن سبب ترك منظمة الهجرة الدولية لهم، وعن سبب تغير مشاعر البوسنيين تجاههم، وعن سبب استنكار الكثيرين حتى مجرد الدعوات من رئيس العلماء لكل الأطراف المعنية لمساعدتهم.

كما سيستيقظ كل مواطن بوسني، سواء كان من مدينة بيهاتش أو من غيرها، على مشهد ثلاث سيارات تابعة للشرطة مقلوبة في مركز للاجئين في سراييفو، وسيشعر بالرعب حتى النخاع عندما يعرف أن اللاجئين هم منْ فعلوا ذلك، وسيشعر بالخوف في كل مرة حينما ينتظر ابنته التي تعود من المدرسة ليلًا، أو ابنه الذي ذهب إلى البقالة، أو عندما يمر بجانبه رجال ذوو بشرة سمراء، في مسرحية سينتصر فيها الحب أو الكره أو الإنسانية أو الخوف، في عالم يُبحَث فيه عن الإنسان الأكثر إنسانية من غيره.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.