مرحبًا، ندعوك أولًا أن تستمع إلى بضع دقائق من المقطع التالي، ثم نعود إليك.

أهلًا بك مرةً أخرى، ما الشعور الذي انتابك بمجرد سماعك لموسيقى البوق «Trumpet» في الثواني الأولى للمقطع؟

ألم يداعب خيالك المشاهد الأيقونية لملحمة فيلم العرَّاب، ألم تتذكر «دون فيتو»، و«مايكل كورليوني»، وفي الخلفية نور شوارع صقلية ذات الطابع المعماري الفريد، وتلك الحرب الضروس بين رجال المافيا.

لا أعلم كم مرة شاهدت فيلم «العراب-The Godfather»،  ما أعلمه أنه كل مرة يأسرني كأنها المرة الأولى. يرسم العراب صورة مركبة عن جزء كبير من شكل الحياة في إيطاليا، وترسم كرة القدم الجزء الآخر، ونحن هنا لنخبرك عن علاقتهما بعضهما ببعض، فكيف ذلك؟

كرة القدم و«مايكل كورليوني»: بداية ممتلئة بالأحلام

هذه عائلتي يا كاي، وليس أنا.
مايكل كورليوني محدثًا كاي حبيبته عن رفضه لنشاط عائلته الإجرامي.

شاب مثالي ممتلئ بالأحلام، وبطل حرب، لا يحلم إلا بأن تكون له حياته الشخصية المستقيمة بعيدًا عن عائلته، ورفقة حبيبته «كاي». تلك كانت أولى اللقطات التي أطلَّ فيها علينا مايكل كورليوني.

هكذا بالضبط كانت كرة القدم الإيطالية في مهدها. عرفت إيطاليا كرة القدم عام 1887، عن طريق عامل نسيج يُدعى «إدواردو بوزيو»، وهو الذي وقع في حب كرة القدم في إنجلترا حيث يعمل. وحين عاد قرر نقل التجربة لبلاده. أنشأ أول نادٍ في تاريخ إيطاليا وهو نادي تورنيو. كانت اللعبة تقتصر في البداية على طبقة العمال وأبنائهم، وكان الغرض منها بعيدًا عن الترفيه هو تعبير هذه الطبقة من المجتمع عن هويتها أمام بقية المجتمع الإيطالي.

لم يدم حال مايكل، ولم تدم أحلامه، جرفته جذور عائلته الممتدة إلى الأعماق نحو الطريق الذي لم يرغب في السير فيه، وهو أيضًا ما حدث مع كرة القدم.

موسوليني: في الطريق المعاكس

وجد مايكل نفسه بين أحضان عائلته، منخرطًا في عالم المافيا والأنشطة الإجرامية دون أن يختار ذلك، وكذا وجدت كرة القدم نفسها بدايةً من عهد الديكتاتور الإيطالي بينيتو موسوليني.

لم يكن «موسوليني» مولعًا بكرة القدم، لكنه وجد أن تخصيص 3.5 مليون ليرة إيطالية لتنظيم النسخة الثانية من كأس العالم فرصة كافية لغسل وجهه أمام العالم، ومنحه إنجازًا ولو وهميًّا أمام أنظار المجتمع الدولي.

كان موسوليني مسئولًا عن كل شيء في البطولة، فهو من اختار الحكام وتقسيم الفرق، بل حتى إنه اختار بطل البطولة حتى قبل بدايتها، فيقال إنه هدد المدرب «فيتوريو بوتزو» إذا لم تحصل إيطاليا على البطولة بقوله: «أنت المسئول الأول. إن فشلت فليكن الرب في عونك».

منذ ذلك الحين، أصبحت كرة القدم في إيطاليا بجانب أنها اللعبة الشعبية الأولى، عبارة عن حقل ألغام تدور فيه حروب سرية بلا هوادة.

مافيا صقلية: خلف ستار كرة القدم

نما نفوذ المافيا في صقلية حتى عشرينيات القرن الماضي، عندما وصل رئيس الوزراء «بينيتو موسوليني» إلى السلطة، وشن حملة قمع وحشية عليهم؛ لأنه اعتبرهم تهديدًا لنظامه الفاشي.

مع ذلك، في الخمسينيات من القرن الماضي، وبعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت المافيا مرة أخرى عندما سيطرت شركات البناء المدعومة من الغوغاء على طفرة البناء في صقلية. وعلى مدى العقود القليلة التالية ازدهرت المافيا الصقلية، وتوسعت إمبراطوريتها الإجرامية وأصبحت بحلول السبعينيات لاعبًا رئيسيًّا في الاتجار الدولي بالمخدرات.

كرة القدم كانت الملاذ الآمن لهذه الجماعات للتستر خلفه، وغسل أموالهم من خلاله، كانت الضربة الكبرى الأولى للمافيا في إيطاليا حين قام نابولي بمساعدة مافيا «كامبانيا» سيئة السمعة المعروفة باسم «كامورا»،  بالتوقيع مع النجم الأرجنتيني ونجم فريق برشلونة الإسباني حينها «دييجو أرماندو ماردونا» في صفقة قياسية عالمية، على الرغم من أن نادي الجنوب الإيطالي كان يعاني من ضائقة مالية حينها.

تَبِعَ صفقة ماردونا دخول جماعات المافيا لعالم كرة القدم رويدًا رويدًا، فمثلًا استحوذت بعض الجماعات على اتحادات كرة القدم للشباب، من خلال رعاية اللاعبين الشباب، وأخرى اشترت أو أنشأت فرقًا، أو حتى أنقذت فرقًا تواجه صعوبات مالية، كل ذلك بغرض استغلال النفوذ المكتسب في البيئات المحلية للظفر بالفرص التجارية، أو اكتساب السلطة على مستويات أعلى أيضًا.

بمرور الوقت وقعت كرة القدم الإيطايلة في أسر شباك هذه الجماعات، لأنها ببساطة وفرت لهم رأس المال الاجتماعي والرمزي، فضلًا عن الفرص الاقتصادية لأصحاب المشاريع المشبوهة.

عقد كامل من الظلام

تتحدث عالمة الجريمة الإيطالية «آنا سيرجي» أنه على مدى العقد الماضي كشفت التحقيقات والأبحاث الإعلامية أن تسلل المافيا والفساد أصبح هو السمة المميزة لكرة القدم الإيطالية، لدرجة أن السلوك الإجرامي بدا وكأنه هو القاعدة. لا تقتصر هذه الحوادث على نادٍ واحد، فجماعات المافيا لها مصالح على جميع مستويات الرياضة.

وفقًا لصحيفة «The Local Time» ففي عام 2018، حققت كرة القدم «2.397 مليار يورو» في إيطاليا وحدها. جاء الجزء الأكبر منها من الجماهير، دون احتساب عقود التلفزيون والرعاية والإعلان. من الواضح أن الصناعة التي تجتذب مثل هذه المبالغ الهائلة من المال من شأنها أن تشكل هدفًا جذابًا للجماعات الإجرامية التي تسعى إلى مراكمة الأرباح وإخفاء عائدات الجريمة.

تذكر «آنا» أن المدخل الرئيسي لإحكام سيطرة المافيا على كرة القدم في إيطاليا كان عن طريق سيطرتها على روابط الألتراس، وهو ما كان الطريق لدخول الجريمة المنظمة لملاعب كرة القدم الإيطالية، فالمصالح التجارية للألتراس، إلى جانب تهريب المخدرات، كانتا الشغل الشاغل لقيادات هذه الروابط، حيث تخدم كل منهم جماعة مافيا بعينها.

في عام 2022، تم اغتيال «فيتوريو بويوتشي»، زعيم ألتراس الإنتر، المجرم الذي قضى 26 عامًا في السجن، على يد اثنين أطلقا النار عليه خمس مرات قبل ساعة من مباراة إنتر وسامبدوريا في الدوري الإيطالي. بويوتشي هو مجرم مدان له صلة مباشرة بمنظمات المافيا «ندرانجيتا» و«كوسا نوسترا»، التي أصبحت مهتمة بشكل متزايد بالمعاملات التجارية للألتراس في كرة القدم الإيطالية.

بدأت الشرطة تحقيقًا لمعرفة من نفذ عملية الاغتيال، ومن أمر بها، وتوصلوا أنها كانت تصفية حسابات. لم يكن ذلك هو الحادث الأول، بل كان ثالث حادث قتل لأحد قادة روابط الألتراس في السنوات الخمس الماضية، وهو دليل قطعي على تسلل الجريمة المنظمة إلى ملاعب كرة القدم الإيطالية، كما تعتقد آنا.

عقب وفاة «فابريزيو بيسيتيلي» أتت «وفاة بويوتشي» مؤسس مجموعة «Irriducibili Ultra» التابعة لفريق لاتسيو، والذي اغتيل في وضح النهار في إحدى حدائق روما في أغسطس 2020. وكان بيسيتيلي قد صعد إلى الواجهة تحت جماعة كامورا الإجرامية وشق طريقه كمهرب مخدرات يعمل بمساعدة عائلات الجريمة الألبانية. إلى أن قرر شخص ما على الأرجح أن هذا يكفي.

لم تتوقف المافيا عند تجنيد مشجعي وقادة روابط الألتراس، بل امتد الأمر إلى استقطاب اللاعبين أنفسهم، بل أندية برمتها. 

كلنا فاسدون

29 أكتوبر 2006. أمسية خريفية دافئة في منطقة «سان باولو»، التابعة لباري. يواجه شاب يقود سيارته رجلين على دراجة نارية. يتم إطلاق سبع طلقات عليه، وبكل بساطة تنتهي حياته.

الحياة التي انتهت بهذه المأسوية كانت حياة «جيوفاني مونتاني»، اللاعب الموهوب في نادي باري. وفقًا لأولئك الذين شاهدوه ودربوه، كان لديه مستقبل كبير، وكان يسير في المسار الصحيح لتحقيق النجاح. لكن مونتاني دفع ثمن وقوعه في عالم لم تكن لديه الرغبة في المشاركة فيه.

تقع باري في المنطقة الجنوبية من بوليا، وهي المنطقة التي واجهت مشاكل مع تورط المافيا في الكالتشيو. وقد تم توثيق هذه الحالات في عام 2012، حين ادعى المدعي العام الرئيسي في ليتشي، أن ما يصل إلى سبعة أندية في دوري الدرجة الخامسة لكرة القدم الإيطالية، كانت تحت سيطرة أعضاء المافيا المحلية.

في 21 ديسمبر 2015، بدأ مكتب المدعي العام الإيطالي عملية تحقيق واسعة ضد عشيرة زعيم المافيا «نيكولينو غراندي أراكري»، والتي شملت 147 شخصًا. إنها إحدى المراحل الأولية للمحاكمة القصوى لـ «ندرانجيتا»، مافيا «كالابريا»، والتي بدأت في مارس 2016.

هذه هي أكبر محاكمة في تاريخ إيطاليا، سواء من حيث الحجم أو من حيث عدد الأشخاص المشاركين فيها. في ساحات بولونيا، التي تستخدم مأوى لهذه الجماعات. ظهر في هذه العملية رجال الأعمال الأثرياء، والسياسيون المؤثرون، ولاعبو كرة قدم، أشهرهم الدولي الإيطالي فينتشنزو ياكوينتا.

تم اتهام مهاجم يوفتوس وإيطاليا السابق، والذي ينحدر من «كالابريا»، بحيازة أسلحة نارية بشكل غير قانوني.

لم ترتبط جرائم المافيا بفريق واحد، بل نالت الجميع ، تستعمل هذه الجماعات شبكات شخصية للتلاعب في نتائج المباريات والتربح من شبكاتها غير القانونية للمراهنة، وأشهر قضية حتى يومنا هذا هي قضية «جوسيبي سكولي».

جوسيبي سكولي، هو لاعب جنوى ويوفنتوس ولاتسيو وكروتوني سابقًا، وهو أحد اللاعبين المتهمين في الفضيحة الأشهر في تاريخ الدوري الإيطالي: كالتشيو بولي. الفضيحة التي تسببت في هبوط يوفنتوس إلى الدرجة الثانية في 2006. قد يبدو الأمر طبيعيًّا، حتى تعلم من هو جده، لقد كان زعيم مافيا ندرانجيتا، والرجل سيئ السمعة للغاية. جوسيبي مورابيتو.

يبدو أن كرة القدم الإيطالية غرقت في الظلام بلا رجعة.

يجلس مايكل كورليوني في نهاية الجزء الثاني في  حديقة منزله، ويبدو أن كيانه كله يغرق في الظلام، لم نعد نشاهد مايكل ولا حلمه الفتي، بل نشاهد جثة تجلس، رجلًا يمتلك من النفوذ ما لا يمتلكه أحد، لكنه رجل بحلم مبدد، وهكذا أيضًا تبدو كرة القدم الإيطالية حاليًّا.