في حياتي يقابلني الكثير من المواقف العاطفية التي تنم عن مشاعر صادقة مع الله تعالى أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكني لا أخفي قلقي عندما أجد هذه المشاعر -والمشاعر فقط- هي الأساس الوحيد والعدة الفريدة للإنسان في إيمانه بالله وبالإسلام، لا تقليلًا من شأن العاطفة الصادقة، ولكن معرفةً بطبيعة المشاعر وسرعة تقلبها وتبدلها.تقول: «آمنتُ بالله لأني شعرت به يقف معي، في مصائبي وآلامي».. هذا جميل، ولكن ما الذي يحدث إذا ابتلاكِ مرة ولم تشعري بهذا المعنى؟ أتجحدين وجوده؟ وما أكثر من نزلت بهم المصائب ولم يشعروا بعونه ولطفه، أيكون ظالمًا إن لم يُشعرهم بهذا، أم يكونون كفارًا إن لم يدركوا هذا؟يقول : «آمنتُ بالله الذي أشاهد حكمته في الأحكام والأوامر والنواهي».. هذا جميل، ولكن ما معنى الحكمة؟ هل هي تقديراتك الشخصية للأشياء وتفسيرك لها الذي تراه دالًا على انتظام الأحكام، في حين أن غيرك يراه تسلطًا وظلمًا؟ وهل إذا لم تدرك حكمته تنكر وجوده؟لست بصدد تشكيك كل مؤمن، وأعلم أن لكل صاحب قناعة ما يقوله بصدد كلامي هذا، ولكن يكفي أن أخبرك أني لا أفهم ديني بهذه الطريقة، وما يعتبره الكثير هو أساس دينهم أراه – وفق ما تعلمته من تراث أمتنا – ثمرته الحلوة التي جنيتها أو رأيتها بعد إحكام الأساس الحقيقي من وجهة نظري.


الدين في منظومته المعرفية هو أصول (أساسات) تسلم لفروع، وكل أصل ينبني عليه فرع، ثم يكون هذا الفرع أساسًا لفرع آخر وهكذا.. وهي (جميع هذه الأصول والفروع المرتبة على بعضها) في النهاية كلها تستند لمبدأ واحد، وهو «قانون التناقض»، حيث العقل المطلق!
الدين في منظومته المعرفية هو أصول (أساسات) تسلم لفروع، وكل أصل ينبني عليه فرع، ثم يكون هذا الفرع أساسًا لفرع آخر وهكذا.

فإدراك وجود الإله هو عملية عقلية محضة – سأوضحها في مقال لاحق إن شاء الله – فإن أدركتُ وجودَه – أقول: أدركت لا أنشأت وجوده، فهو سبحانه موجود قبل أن توجد العقول، ولكن العقول تستدل على وجوده وسنعود لهذه النقطة بمزيد بيان فيما بعد – وعلمتُ أنه الإله بإعمال عقلي، انتقلت للبحث في النبوات ومدى صدق الأنبياء، فإن ثبت صدقهم عندي بدليل عقلي، انتقلتُ إلى الإيمان بما أخبروا به ونسبوه إلى الله من أحكام ووعد ووعيد.فالترتيب حتى الآن هكذا:إثبات لوجود الله عقلًا، ثم إثبات لصدق الرسول وصحة نسبته إلى الله كمبلّغ عنه بالدليل العقلي أيضًا. فإن ثبت أن الرسول مبِلغ عن الله رسالته، فإن هذه الرسالة لابد أن تعتمد في وصولها إلينا على أمرين:

الأول: وسائط في النقل لنقف عليها، وهي التي نسميها السند، وهو ما أوضحناه في المقالات السابقة ووضحنا كيف نتوثق من صحة ثبوتها.

الثاني:لغة لأفهم بها رسالته التي بينها لنا وبلغها لنا.


ثم في فهمي لبيانه (رسالته) أحتاج لأدوات الفهم – كفهم اللغة التي يتحدث بها – وهنا تثور عشرات القضايا هي أصول في هذه المساحة – وإن كانت فروعًا بالنسبة لما سبق من إثبات وجود الإله وإثبات صدق الأنبياء – مثل هل أفعال الإله معللة بالمصلحة أم لا؟ وهل الإله يأمر بالشر؟ وما الشر؟ وهل هو نسبي أم مطلق؟ إلخ. وفي هذه المساحة – أيًا كانت النتيجة التي وصلت إليها – لا ينبغي أن تكرَّ على الأصول التي أسستها بالبطلان، فعندما أثبتُ وجود الإله ثم انتقلتُ للبحث في أفعاله وفي مسألة الشر، فأنا في دائرة وجود إله، ولا معنى أبدًا بعد ذلك لأن تقودني النتيجة التي ينتهي إليها بحثي في أفعاله إلى إنكار وجوده، هذا أقرب للعبث.ولنأخذ مثالًا على ما نقول: لو أثبت وجود الأشعة فوق البنفسجية، ثم انتقلت للبحث في تأثيرها على جدران بيتي، فأيًا كانت النتيجة التي سينتجها بحثي الأخير هذا فإن هذا لن يعني أبدًا إنكار وجودها، لأني تجاوزت في بحثي هذه النقطة أصلًا! فسواء ظهر أن الأشعة فوق البنفسجية ضارة أو نافعة، مميتة أو عظيمة، فهذا بحث في أوصافها، وبدهي أن يكون بعد الفراغ من إثبات وجودها، وبدهي ألا أستدل بأي صفة لا تروق لي على أنها غير موجودة! ولكن البعض يُعرّف الإله بأنه «الخير المطلق» أو «الرحمة المطلقة»، فإن انتفت هذه الحقيقة عنده انتفى الإله، وهذا خلل في المفاهيم، سنوضحه في موضعه المناسب إن شاء الله. إذن في البناء المعرفي أنا أنتقل خطوة خطوة، أضع أساسًا ثابتًا ثم أرتقي عليه لأضع أساسًا آخر وهكذا.
«أصول الفقه» هي منهج البحث الأعظم عند المسلمين لتقرير سائر المعارف الدينية، التي هي أعمّ من الفقه، لا الفقه وحده بخلاف ما يوحي به الاسم.

في المرحلة السابقة كان جُلّ البحث في الإله وصفاته وأفعاله، ومن أفعاله إرسال الرسل، وبمجرد إيماني بأن هذا رسول حقًا مُبلغ عن الله رسالته، يكون دخولي في دائرة (الدين) للبحث في الرسالة التي حملها هذا الرسول إلي.لذا اصطلحوا على تسمية البحث في مراحله السابقة باسم (أصول الدين)؛ لمّا كان الدين ينبني عليه. فإن فرغت من البحث في أفعاله انتقلت للبحث في أحد أخص هذه الأفعال وهو (البيان)، كيف بيّن لنا الإلهُ مرادَه وأمره ونهيه.هنا تثور عشرات – بل مئات – المسائل المنهجية التي يبحث فيها الباحث في مرحلة فهم (كيفية البيان)؛ ما اللغة؟ وما علاقة الدال بالمدلول؟ وهل اللغة متغيرة أم ثابتة؟ وهل يمكن لسامع أن يفهم كلامًا تكلم به إنسان منذ ألف سنة رغم اختلاف اللغة وتعدد الوسائط؟ وكيف انتقل لنا البيان النبوي؟ إلخ. ثم ينتقل لمرحلة أخرى من البحث وهي كيفية توليد المعارف من هذا البيان، وهل الكلام له ظاهر غير مراد ومعنى مجازي مراد، وما الحقيقة؟ وما المجاز؟ وكيف أفرق بينهما؟ وهل الفعل بيان؟ وهل المعاني التبعية مقصودة أم لا؟ إلخ. ثم ينتقل لمرحلة جديدة من استكشاف المسكوت عنه، وهل يدخل في البيان الذي بلغني؟ هل عندما حرَّمَ الخمر قصد الخمر فقط أم معنى معين فيها يمكن أن يتحقق في غيرها مما لم يتكلم به؟ وكيف يمكنني الوقوف على هذا المعنى المراد؟ وكيف يمكنني اختبار صحة فهمي للمعنى الذي استنبطته؟ إلخ.هكذا مئات المسائل تُبحث بحثًا دقيقًا صارمًا ويُستدل عليها ولها، حتى تكون أساسًا لخطوات أخرى لاحقة. هذه المرحلة من البحث اصطلح أجدادُنا على تسميتها باسم «أصول الفقه»، التي هي في الحقيقية منهج البحث الأعظم عند المسلمين لتقرير سائر المعارف الدينية، التي هي أعم من الفقه، لا الفقه وحده بخلاف ما يوحي به الاسم.فإن استقرت عندي الأدوات التي سأبحث بها، وأمسكت باللغة التي سأستمع لها، انتقل البحث إلى تقرير معارف وحقائق جاء بها البيان النبوي، واستنباط أخرى، فتتمايز عندي أنواع متفاوتة المراتب من الأحكام بعضها أقطعُ بنسبته لمراد الله والبعض الآخر أنسبه بغلبة الظن. وهذه المعارف تنقسم بدورها إلى:1. حقائق ثابتة في الوجود كالجنة والنار والملائكة وبعض الحقائق عن الإله، وكلها أمور لا يستقل الإنسان بإدراكها إلا بعد وجود دين يبينها له، فاصطلحوا على تسمية هذه المعارف بـ«العلميات»، إذ إن المطلوب الأعظم منها هو فقط (العلم) بوجودها، دون عمل معين.2. إلى أوامر ونواهٍ، وهي أمور مطلوبة من الإنسان، نسميها «تكليفات»، فهي أمور عملية، المطلوب فيها العمل، لذا اصطلحوا على تسميتها بـ«العمليات»، وهذه العمليات بدورها تنقسم إلى قسمين: (أ) أعمال تتعلق بالنفس والقلب، اصطلحوا على تسميتها بـ«الأخلاق»، والبعض يسميها بـ«التصوف»، وآخرون يسمونها «تزكية»، وكلها مسميات لمدلولات متقاربة.(ب) أعمال تتصف بالجوارح، كالأكل والشرب وحركات البدن، اصطلحوا على تسميتها باسم «الفقه»، وطلبًا لمزيد من الدقة ربما قيدوه باسم الباحث الذي قام على استنباطه (في الجزء الاستنباطي) فيقولون: فقه الشافعي، فقه مالك.. إلخ.


فأنت – إن لم تكن فقدت تركيزك معي – تلاحظ أن الدين ينتقل من خطوة لخطوة، ولا يبني فرعًا إلا على أصل سابق. فأين إذن تقع مساحة الرحمة الإلهية والحكمة.. إلخ في هذه المنظومة؟ الحقيقة الصادمة أنها تقع في مساحة العلميات التي تقع تحت المعارف الدينية! ذلك أننا إنما عرفنا كونه حكيمًا ورحيمًا بخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه سبحانه بأنه كذلك، لا بمقتضى العقل كما يظن الكثير من الناس، وتوضيح هذا الأمر الغريب على الأذهان سيكون بعد عدة مقالات تمهد لأصول التفكير في القضية.فانظر إلى هذا التفاوت الهائل بين من يجعل الحكمة والرحمة الإلهية هي الأصل الأول للدين والدليل على وجود الإله، وبين من يرى أنها معانٍ عرفناها من حديث الإله عن نفسه الذي بلغه لنا رسوله، فتعقلناها داخل دائرة الدين لا خارجه، فهي مبنية على ثبوت الأسس السابقة عليه، ولنا عودة بإذن الله تفصيلية لهذه القضايا. فإذا كان الدين يستند – في أصله – إلى العقل المطلق، وهو يتلخص فيما سميته بقانون التناقض، تعين أن يكون هذا الموضوع هو نقطة البدء في حديثنا القادم.