«الدين» في الاصطلاح الأصولي له تعريفات متعددة في صياغاتها، ولكنها متحدة في معناها وجوهرها. ومن هذه التعريفات التي قالها قدماء العلماء، أن الدين هو: وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل. و«الدين» بالنسبة للفرد الذي يتدين به يعني: الانقياد له، والسير على هداه، والامتثال لأوامره ونواهيه. والتفقه في الدين يعني: التفهم وأخذ الفقه تدريجًا.

وعلم الفقه كما قال العلماء ومنهم ابن حجر الهيتمي في كتابه «تحفة المحتاج في شرح المنهاج» هو: العلم بالأحكام الشرعية العملية الناشئة عن الاجتهاد، وموضوعه فعلُ المكلف من حيث تداول تلك الأحكام عليه، وهذا الفقه مستمد من الأدلة المجمع عليها وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والأدلة المختلف فيها كالاستصحاب ومسائله، وفائدته: امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وغايته انتظام أمر المعاش والمعاد مع الفوز بكل خير دنيوي وأخروي.

ذلك هو معنى الدين ومعنى الفقه في الدين على المستوى الأصولي. أما «التدين» فهو يعني: المستوى التطبيقي لتعاليم الدين ومبادئه وأحكامه، وموضوعه: سلوك الشخص المتدينِ بهذا الدين؛ بالنظر إلى تلك التعاليم والمبادئ والأحكام. وكلما زاد التزامه الفعلي بها، زاد تدينه، وكلما ابتعد عنها قل تدينه.

ونظريًا، ليس هناك شخص متدين بشكل مطلق، أو شخص غير متدين بشكل مطلق؛ إلا في حالات الإلحاد وإنكار وجود الله، ومن ثم إنكار الدين من أصله. ولهذا كان من قواعد عقيدة أهل السنة أن «الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية». وهذه القاعدة من أعظم القواعد؛ لأن تلك المراوحة بين الطاعة والمعصية هي التصوير الأقرب للحالة الواقعية للإنسان؛ أي إنسان، في علاقته مع الدين؛ أي دين.

وستظل هناك مسافة بين «الدين» في أصوله ومبادئه العليا بالمعنى السابق بيانه، و«التدين» الذي يمارسه المؤمنون بهذا الدين أو ذاك في حياتهم الخاصة، أو يطبقونه في معاملاتهم وتصرفاتهم المختلفة. والإنسان المصري الذي هو غالبًا متدين بطبعه كما يقولون، تسري عليه هذه القاعدة، مهما كانت قوة إيمانه بالدين، ومهما كانت شدة التزامه بتعاليمه، لا فرق في ذلك بين مسيحيين ومسلمين.

وبالرغم من وضوح سمة التدين لدى المصريين وثباتها عبر آلاف السنين، فإن أكثر البحوث والدراسات حول الشخصية المصرية لم تتطرق إلى السؤال عن علاقة هذا التدين بأحوال التقدم والتأخر، متى كان «التدين» دافعًا للتحرر، ومُحفزًا للتقدم وداعمًا للسلم الأهلي والتضامن الاجتماعي؟ ومتى وتحت أي ظروفٍ كان عاملًا من عوامل الركود، وسببًا لرسوخ الاستبداد، وغطاءً للتأخر والبلادة، ومثيرًا للفتن والانقسامات والحروب والنزاعات؟ وهذه الأسئلة تفترض أسئلة أخرى من أهمها: ما مضمون القيم الدينية التي نتحدث عنها ويهتم بها المصري؟ وكيف يعبّر هذا الإنسان عن إيمانه بها؟ وكيف يبرهن على صدق التزامه بتعاليمها في حياته وفي علاقاته بالآخرين؟

إذا تأملنا ظاهرة «تدين» المصريين في ضوء تساؤلات من النوع الذي ذكرنا بعضًا منه، سنعرف دون عناء كبير كم هي قليلة الأهمية – بالنسبة لنا نحن المصريين – النتائج التي تنشرها بين الحين والآخر مراكز بحوث واستطلاعات الرأي العام الأجنبية مثل «معهد جالوب»، أو مركز «بيو»، أو غيرهما. فكثيرًا ما نقرأ في نتائج استطلاعاتهم الميدانية مثلًا أن غالبية المصريين بنسبة تصل إلى أكثر من 90% يرون أن الدين يمثل جزءًا مهمًا في حياتهم اليومية. وهذه ليست مفاجئة لنا، بل هي بحد ذاتها قديمة، ولا جديد فيها. فقط تصبح ذات قيمة في إطار مقارن مع حالات شعوب أخرى لديها اهتمام مساو، أو أقل أو أكثر بالدين، ومن ثم يمكن إدراك السبب أو الأسباب التي تجعل هذا الشعب أو ذاك يرى أن الدين لا يمثل، أو يمثل جزءًا مهمًا من حياته اليومية.

وإذا كنا نعتبر أن أحد الأسئلة الكبيرة التي ترتبط بقضية التدين هو: ما صلة التدين بالتقدم؟ فإن هذا السؤال يستدعي بحكم المنطق سؤالًا آخر عن صلة التدين بالتأخر. وقد وجد بعض الخبراء في الدراسات المقارنة أن تشابه نسبة التدين المرتفعة في مصر مثلًا، مع بعض الولايات الجنوبية في الولايات المتحدة تعني أن من الخطأ الاعتقاد بأن المجتمع الذي يقوم على الدين لا يستطيع أن يحقق مظاهر التقدم التي نعرفها في الدول الحديثة. ولكن يظل الغموض محيطًا بأحوال المصريين المعاصرين من جهة ارتفاع نسبة الذين يعتبرون أنفسهم متدينين من جهة، وتفاقم مشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية والحضارية بوجه عام من جهة أخرى.

وثمة أدلة مشاهدة في المحيط الإقليمي للمنطقة العربية تشير إلى صحة ما يستنتجه البعض بشأن ارتفاع نسبة التدين في بعض الولايات الجنوبية الأمريكية، وتقدم تلك الولايات اقتصاديًا وتكنولوجيًا بوجه عام. ومن هذه الأدلة: أن أنظمة الحكم في كلٍ من تركيا وإيران وماليزيا متأثرة بدرجة أو بأخرى بالدين، وهذه البلدان تحقق إنجازات معتبرة وعالية نسبيًا في التقدم الاقتصادي والتكنولوجي. وهنا يثور سؤال آخر يتعلق بمكمن العبرة في التدين: هل هو مطلق التدين من حيث هو سلوك غالب على أغلبية هذا الشعب أو ذاك، أم بمضمون هذا التدين ومفرداته التي تنتقل من الحيز النظري أو الأصولي المجرد، إلى الحيز الاجتماعي وتطبيقاته المختلفة، وتحدياته المتجددة؟

هناك تفسير أمريكاني لما تشهده تركيا وإيران من تقدم مستند إلى خلفية عامة من التدين، ويؤكد هذا التفسير على أن فعالية «التدين التركي» ترجع إلى استمداده من قيم الصوفية من ناحية، وإلى التأثر بالخبرات البروتستانتية التي عاش في ظلها ملايين من الأتراك من ناحية أخرى. أما فعالية التدين الإيراني طبقًا للتفسير الأمريكاني ذاته فمردها إلى امتزاج قويٍ بين «التقاليد القومية والتراث العلمي والمعرفي والإبداعي الفريد في التراث الفارسي من جهة، والطريقة التي يمارس بها الناس واجباتهم الدينية من جهة أخرى».

صحيح أن التصوف له حضور قوي في المجتمع التركي، ولكن الصحيح، والأكثر أهمية في تفسير الحالة التركية أيضًا في نظرنا، أن التدين التركي ليس نتيجة حصرية لمدرسة التصوف بقدر ما هو نتيجة «مدرسة الرأي» التي أسسها الإمام الأعظم أبو حنيفة في القرن الثاني الهجري. وقد اختار الأتراك العثمانيون الانتماء لهذه المدرسة من بين جميع المذاهب الأخرى وعاشوا في ظلها إلى اليوم. ولا تزال عبقرية الفقه الحنفي تطبعُ جميع التنظيمات والحركات والجماعات الإسلامية التركية بما فيها الصوفية. والمذهب الحنفي في جوهره هو نظرية متكاملة في الحرية المستندة إلى المرجعية الإسلامية، (وهذا موضوع آخر يستحق جدالات مطولة).

ولا يجادل أحد في أن التصوف له دور في التدين التركي، ولكن مفتاح تفسير فعالية هذا التدين في طبعته المعاصرة، ليس في يد مشايخ التصوف، وإنما في يد شبكة هائلة من مؤسسات المجتمع المدني والوقفيات واسعة الانتشار على كامل النسيج الاجتماعي التركي. أما الإشارة إلى تأثير الخبرات البروتستانتية التي عاشها ملايين الأتراك، فغاية القول هو أن لها دلالتها بالنسبة للأتراك الذين عاشوا في البلاد الأوروبية خاصة في ألمانيا، والحديث عن مدى تأثيرها ونوعيته يحتاج إلى كثير من التدقيق والتخصيص، قبل الذهاب إلى التصديق والتعميم.

أما ما يشاع عن نجاح التدين في إيران في تعزيز قوتها العلمية والمعرفية، فيصعب جدًا ربطه بالطريقة التي يمارس بها الإيرانيون واجباتهم الدينية، فأغلب التفاصيل المتعلقة بأدائهم للواجبات الدينية هي معاكسة على طول الخط للنزعة العلمية/ الإبداعية. إن أساسها تقليد «المرجعية» بالنسبة لعموم المواطنين. والتقليد مفهوم مركزي في التدين الشيعي، وهو مفهوم متأصل وراسخ الأركان ومتشعب الفروع. والتقليد في أفضل الحالات بالنسبة لجمهور المواطنين لا يحض على المبادرة، أو الابتكار.. إلخ.

ولم تنجح التجربة الإيرانية نجاحًا مبهرًا حتى الآن، وشهدت انتكاسات مروعة، وبخاصة في موقفها من ثورات الربيع العربي. ولكن لا تزال بعض الأطروحات والتفسيرات التي ترى أنها أفضل من غيرها مقارنة بحالات راكدة من التدين، أو بحالات أخرى سلكت مسالك العنف وابتعدت عن الخط النهضوي الحضاري. وقد يصح القول: إن مفتاح تفسير فعالية التدين في المجتمع الإيراني ليس في الطريقة التي يمارس بها الناس واجباتهم الدينية، بل في نزعة التحرر التي فجرتها الثورة الإيرانية منذ سبعينيات القرن الماضي، بما في ذلك التحرر من بعض عقائد المذهب التي ظلت مستقرة لأكثر من عشرة قرون، وأهمها عقيدة «الانتظار»، و«التقية» المرتبطة بها، وهي التي أحل الخميني محلها نظرية «ولاية الفقيه».

وفي أغلب الأحوال، تظل أطروحة الحرية هي مفتاح تفسير حيوية التدين وفعاليته في جدلية التقدم والتأخر. ويقع على الجماعة العلمائية عبء كبير في غرس بذور هذه الأطروحة التي ظلت غائبة لقرون عن الثقافات السائدة في مجتمعات الأمة الإسلامية. وكان من شأن الانتباه إلى قسوة التقاليد والمفاهيم السكونية التي هيمنت على الأطروحات التقليدية الموروثة؛ أنها حركت المياه الراكدة في بحر التدين الذي ظل في خدمة استبداد السلطة وهيمنة أصحاب النفوذ والثروة. وسيكون الفكاك من أسر الاستبداد السياسي أيسر منالًا إذا أمكن الخروجُ من أسر موروثات التدين الشكلي أو السكوني، وهو أشد وطأة وأكثر استعصاءً على الفكاك منه أسره.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.