محتوى مترجم
المصدر
Psychology Today
التاريخ
2020/3/7
الكاتب
يواكيم أي كروجر

ترجمة: مصطفى نصارروان رفاعي

الحقيقة شيء نبيل جداً، فإذا تنصَّر عنها الإله، فسأتبع الحقيقة وسأتجاهل الإله.
مايستر إكهارت

البروفيسور «كين ميلر» صديق وزميل في جامعة براون، وهو دارويني وكاثوليكي. في أحد التجمعات منذ فترة قصيرة، حيث يجتمع أشخاص يعتنقون أدياناً مختلفة لتناول الطعام معاً، شارك كين أفكاره حول العلم والدين.

أنصتُّ إليه بانتباه، لكن لم أرد في حينه؛ كان عليّ أن أبلور أفكاري أولاً. لذا، ها هي إجابتي الآن، أقدمها بكل احترام ومحبة، ولكن في صورتها الأبسط والأوضح نظراً لقلة المساحة المخصصة للمقال.

السؤال هو: كيف يمكن للشخص أن يكون عالماً ومؤمناً بالله في آن واحد؟ بالطبع، هناك عديد من الأشخاص الذين يجمعون بين الاثنين، وكثير منهم من التآلف بمكان حيث لا يرون أي مشكلة في اعتناقهم مبادئ الدين والعلم معاً، وقد يكون من غير اللائق محاولة إقناعهم بالاعتراف بأن في ذلك تناقض. فالإيمان، في النهاية، تحكمه العاطفة والخصوصية والجوانب الميتافيزيقية غير المُجربة بالعلم، ومن الأدب والاحترام عدم التدخل في معتقدات المؤمنين، أياً كانت ديانتهم، ما لم يؤذوا الآخرين.

أعتقد أن كين سيسمح لنا بطرح بعض الأسئلة رغم هذا التسامح في مقدمة المقال. كين واضح في تأييده لعلم الداروينية كأفضل نموذج متاح لدراسة الطبيعة، والطبيعة هي مجموع كل شيء في الشكل المادي. وبهذا التعريف فإن الميتافيزيقية (أو ما وراء الطبيعة) ليس لها وجود في العالم المادي، أي الطبيعة في عمومها.

ما يمكن قوله عن الميتافيزيقية؟ حسناً، يمكنني القول إن التحدث عنها مضيعةً للوقت؛ إذا كانت الطبيعة هي كل ما هو مادي، فإن الميتافيزيقية هي كل ما ليس مادياً ملموساً، فلماذا إذاً نتحدث عمّا ليس موجوداً؟ أي، لماذا علينا أن نتحدث عن العدم (أير، 1936)؟

الثُنائية (Dualism)

الثنائية هي التمييز بين العالمين: المادي والميتافيزيقي، على أنهما عالمان مختلفان، وإن كنت تؤمن بهذا المبدأ فقد ينتابك رغبة في معرفة العلاقة بينهما. قد تكون ممّن يعتقدون عدم وجود علاقة بينها مطلقاً، لكن هذا سيثير سؤال: لمَّ الحاجة إذًا إلى العالم الميتافيزيقي؟ لم لا نتجاهله بالكلية؟

إن كنت ممن يعتقدون بارتباط هذين العالمين، فأنت بذلك تشبه الكثير ممّن يعتنقون الأديان المتنوعة، والتي من بينها الكاثوليكية. فالكاثوليك يدّعون أن الإله ميتافيزيقي ويمكنه التدخل في العالم المادي. بعبارة أخرى، الإله خارق للطبيعة، فهو قد خلق العالم الطبيعي ويمكنه أن يتدخل فيه حسب رغبته. إنه واضع القوانين الطبيعية، ويمكنه تجاوزها إذا شاء.

معضلة كين هي: إن كان داروينياً، فلا يمكنه أن يعتقد بوجود قوة خارقة تتحكم في التطور الدارويني؛ إذ إن أي تغيير في الطبيعة يجب أن يكون متوقعًا حدوثه من الطبيعة نفسها. وإن كان كاثوليكياً، فلا يمكنه أن يعتقد أن الإله الميتافيزيقي عاجز عن تغيير الطبيعة.

كيف يمكن لكين أن يعتنق الدارونية والكاثوليكية معاً؟ يبدو أن تأييده للداروينية مستمد من إمكانية تفسير العالم الطبيعي على أساسها تفسيراً مُحكماً. وعليه، فلا يمكن أن يعتنق الكاثوليكية للسبب نفسه، فقد كان شاهداً خبيراً في المحكمة لتأييد فكرة أن الذكاء الإلهي ليس تفسيراً مُقنعاً لسبب وجود العالم الطبيعي كما هو عليه. فلماذا يكون كاثوليكياً؟

إجابة كين اجتماعية ونفسية، فهو قد تربَّى على قبول مجموعة من المعتقدات والممارسات في طفولته، ثم ثار عليها ورفضها شبابه، ثم عاد للإيمان بها مرة أخرى لأنها تُوفِّر له الراحة. وترجع مشاركته في القداس إلى حصوله على «مكافآت» نفسية قوية تلمس وجدانه لواقعيتها. ويتضح من ذلك السبب البراغماتي للاستمرار في اعتناق الدين. والسؤال المطروح للمناقشة هو: لماذا الركون إلى الإيمان طالما لا يمكن تبريره بالعقل؟

إله الفجوات

علّق كين في أثناء حديثه عن الثنائية في معتقداته بين الدين والعلم، فقال إنه مع اكتشاف المزيد عن الطبيعة، يجب أن يصدّق الدين على تلك الاكتشافات ويتأقلم معها.

حتى الفاتيكان قد تقبل نظرية التطور (Chaberek, 2015). بمجرد قبول الإنسان تلك النظرية، عليه أن يتخلّى عن كثير من المعتقدات الدينية. وسيصبح من السهل التسليم بأن الإله لم يخلق الإنسان في يوم واحد.

فمن الادعاءات الحاسمة في الداروينية هي عشوائية التطور الجيني. وعليه، فإن إلهاً يلعب النرد ويتبع العشوائية في صنعه ليس عليماً ولا عالماً للغيب. وهذا، بدوره، يعني أن الإله ليست له يد فاعلة في الطبيعة. وبالتالي كل ما يمكنك ادعاؤه هو أن الإله قد بدأ الكون وتركه لشأنه، أي توجد ربوبية من دون وحدانية. (ملحوظة: تعني الربوبية هنا أنه بالاستناد إلى العقل والطبيعة يمكن القول إن إله قد خلق الكون إلا أنه لم يعد يهتم به؛ والوحدانية تعني الإيمان بوجود إله قادر يتدخل في أقدار الكون والبشر).

على أي حال، مع التقدم العلمي بدأت فكرة «الإله العظيم» تتحول إلى «إله الفجوات» وهو الإله الذي ننسب إليه الأمور التي لم نفهمها بعد. وحتى هذا الإله لم نعد بحاجة إليه كلما تقدمنا في العلم، لكننا لا نتوقع أن يختفي تماماً (Larmer، 2002). ومن المثير للاهتمام أن كين لم يقل العكس: لم يقل إنه كلما زادت معرفتنا بالأديان، وجبت مراجعة الآراء العلمية.

بتراجع أهمية الإله في تفسير الطبيعة، فالسؤال هنا: هل من الضروري وجود تصور عن الإله؟ حتى وإن كانت هناك أمور، أو فجوات، لم نفهمها في الطبيعة بعد. عندما شرح «بيير لابلاس» نظريته عن النظام الشمسي للإمبراطور نابليون، سأله الإمبراطور -وفقاً للأسطورة- أين الإله في هذه النظرية؟ رد لابلاس: «لم أكن بحاجة إليه في النظرية».

العدالة الإلهية: ملهاة للصابرين (مثل أيوب في الإنجيل)

تطرّق كين أيضاً إلى مسألة العدالة الإلهية (Tooley, 2019)، أي مسألة إن كان الإله عادلاً، لكنه، شأنه شأن الآخرين، لم يستطع تفسير معاناة الإنسان من وجهة نظر إلهية. كما أضاف أن بعض أصدقائه من اليهود أخبروه بأن المحرقة نسفت إيمانهم بالله.

إذا كان هناك إله ميتافيزيقي يستطيع التدخل في حياة البشر والطبيعة، فلا بد أن هناك فئة من الناس الذين يعانون أشد المعاناة أو بعض الأحداث الشنيعة بدرجة تكفي ليتدخل الإله. وإذا لم يفعل، فقد يكون بسبب عجزه، أو عدم اكتراثه ولا مبالاته، أو قسوته، أو ربما لأنه غير موجود. فالقول بوجود إله محب وعالم بكل شيء لا تتوافق مع حدوث المحرقة، ولا حتى مع ولادة طفل مشوه.

وذكر كين أنه حتى في أثناء المحرقة، كانت هناك آلاف الحالات من التعاطف وتقديم المساعدة والبطولة والمقاومة. ولكن تلك النظرة تهوّن من مقتل 6 ملايين شخص في مقابل تسليط الضوء على عدة آلاف فقط من الأفعال الإنسانية الخيّرة. ومن هذا المنطلق، علينا أن نسأل ما إذا كان من المقبول (وأعني مقبولاً، ليس فقط مبرراً) قتل 100 مليون إنسان لمجرد أن هناك فعلاً إنسانياً واحداً يدل على التعاطف مع المقتولين؟ القضية هنا تتمثل في فشل الدين في تقديم تبريراً لهذه المأساة (Krueger, 2020).

في الصفحات الأخيرة من «سفر أيوب»، نجد إجابة واحدة عن تساؤلنا حول العدالة الإلهية؛ فأيوب مثله مثل باقي البشر قد ذاق خسائر جسيمة وعانى أشد المعاناة. فأخبره الإله أن يتوقف عن الشكوى لأنه لا يحق له ذلك. وفي النهاية، سخر الإله من أيوب أن ردّ إليه كل ما فَقَدْ، بل وأكثر منه، لكن حدث ذلك فقط حين تنازل أيوب عن حقه بالشكوى.

فها هو الإله يذّل عبده، الذي يدّعي أنه يحبه، ومن ثم يغدق عليه من الثروات والنعم. هذا فعل قاس بجلاء من جميع النواحي؛ كما أنه سادي من وجهة النظر النفسية بلا شك. تخيّل أنك مُجزَى بنعم بعدما تُذّل وتنكسر، سيغريك هذا الأمر بالإسراع في التذلل والانكسار تجنباً للمعاناة. بيد أن هذا الخيار غير متاح لإن الإله يرى ذلك تحايلاً؛ إذ عليك أن تعيش تلك التجربة بكاملها قبل أن يستجيب إليك. هذا ليس بحب قاسٍ وإنما سادية.

الخطيئة: اللعبة المخادعة

يسرد سفر التكوين المثال الأول على سادية الإله. الجنة، حيث البراءة والطهر، بها بذور الذنب والمعاصي. لم قد يختار الإله زراعة شجرة للمعرفة ويمنع الإنسان من تناول ثمرها؟ لن «يميل» إلى فعل ذلك إلا إله غير قدير وغير واثق من نفسه. والأمر هنا هو أن الإنسان لم يختر أن يأكل من الشجرة بمحض إرادته الحرة، فالإله، وهو القدير على كل شيء، هو من أرسل الشيطان ليغوي الإنسان على فعلته تلك. وإن لم يكن الإله من حرّض الشيطان على غواية الإنسان، إذاً فالشيطان يملك الإرادة الحرة والمعرفة المسبقة بالدمار الذي سيحل.

وبالنسبة للإنسان، كانت اللعبة محسومة، فقد أكل من ثمار الشجرة التي أعطت له المعرفة، ولكنه بذلك قد ارتكب خطيئة كبرى عُوقب عليها بالنزول إلى الأرض، هو والأجيال من بعده إلى يومنا هذا. هذه مفارقة متداخلة؛ عندما قرّر البشر تناول ثمار تلك الشجرة، لم يكن لديهم بعد المعرفة للتميز بين الخير والشر، وبعد أن أكلوا من تلك الشجرة علموا أن التمييز بينهما هو الشر ذاته. لكن كان الأوان قد فات.

لم يتناول الإنسان إلا قضمة واحدة من تلك الثمرة، وكانت تفاحاً. لو أكل التفاحة بأكملها، لكان قد علم أن إغواءه بفعل شيء من الخطايا هو الشر المحض، وليس استسلامه لفعل أمر لم يكن يعلم من قبل أنه خطيئة. وقد يدافع شخص عن الإله ويقول إن الإنسان كان على علم بأن تناول ثمار تلك الشجرة ذنب لأن الله قد أخبره بذلك من قبل. لكن، لو كان الإنسان يعلم أن معصية أوامر الله من المعاصي، لكان على علم بالفعل أن بكيفية التمييز بين الخير والشر، ولم يكن من الضروري تناول ثمار تلك الشجرة. فالإله الذي يتعامل مع مخلوقاته بالألاعيب والألغاز المُعضلة ليس بإله محب.

البديل الصوفي

إن لم يحل الدين مشكلتي الثنائية والعدالة الإلهية، فكيف يمكن إشباع الغريزة الدينية؟ لن يساعد العلم في تحقيق ذلك؛ فالعلم إلى الآن قد طرح أسئلة كثيرة جداً ولم يعط سوى القليل من الإجابات.

فبناءً على عدم قدرة العلم على إشباع الغريزة الدينية وأطروحة جودل «نظرية عدم الاكتمال»، يمكننا أن نخلص إلى أننا لن نصل إلى العلم بكل شيء. ستظل الفجوة المعرفية قائمة، بل وربما سيتسع نطاقها إذ ما تأملنا عمق جهلنا. بم يمكننا سد هذه الفجوة إذن، إذا كان الإله الذي تشبه قدراته قدرات الإنسان، لا يقوى على سدها؟

في التصوف البديل الشافي. لا يحتاج الإنسان المعتنق للتصوف إلى تحديد أي خصائص أو سمات للإله. لا يحتاج المتصوف إلى الإيمان بإله يتسم بالطيبة (أو الشر)، أو بعلمه بكل شيء (أو بجهله بكل شيء)، أو أن يكون مُحباً (أو سادياً)، أو مُدبراً فاعلاً (أو خاملاً)، ولا أي سمات أخرى. لا يحتاج المتصوف إلى الإيمان بالإله المقدس. وعلاوة على ذلك، يمكن تأمل الإله لا وصفه، والشعور به لا معرفته، والنظر لتصرفاته وأفعاله لا التأثير عليه وإجباره. بعبارة أخرى، يمتزج الإله مع نفسية الإنسان، فهو كوعي الإنسان ليس له وجود مادي ملموس.

يمكن إشباع الغريزة الدينية من خلال التفاعل معها. هذا ما فعله صديقي «كين ميلر» في القداس والمعمل وفي تجمعنا سوياً لتناول الطعام. سأحاول تقليده غير أنني لن أحضر القداس. لا يُهدِّد الإدراك الصوفي للإله مكانة العلم، كما أن العلم لا يهدد هذا الإدراك المتصوف. وبهذا فإن التصوف يُلهي الغريزة الدينية التي لطالما كانت بداخل الإنسان.

 تمهيد حول التصوف

إن كان بإمكانك دراسة العلم في المدرسة ودراسة الدين الأزلي في الكنيسة، فأين ستعتنق التصوف؟ والجواب المبهم والمراوغ هو أنه يأتي إليك حينما تكون مستعداً أن تتلقاه. ودون تفكير، أرشح دراسات «مايستر إيكهارت» و«يعقوب بوهمه» و«مارتن بوبر». ولن أشدد على أن القبالاه «أي دراسة المعاني غير المباشرة» من الضرورات دائماً. ففي رأيي، يوجد لمحة من التصوف في سفر يوحنا، ففيه مفاجأة كبرى؛ فنقرأ في سفر يوحنا (1:1):

في البدء كان الكلمة، وكان عند الله، وكان الكلمة الله.

ساوى علماء الدين التقليديين بين «اللوجوس»، أي الكلمة، ويسوع، لكن هذا رأيهم هم فقط. فاللوجوس في اللغة اليونانية القديمة تعني أكثر من «الكلمة». فقد تعني «الحديث»، أو «التوجيه»، أو «المعنى» أو «النص» (وفقاً لأصدقائنا ما بعد البينونين). وقد يشير اللوجوس أيضاً إلى «مبدأ موضوعي يشبه القانون يحكم الكون» كما في اعتقاد الفيلسوف اليوناني هيراقليطس من أفسس (Curd, 2019). فإن كان اللوجوس هو بداية الكون، فالإله قد أتى بعده واندمج معه. فاللوجس من وجهة نظر هيراقليطس، ما هو إلى مبدأ لا يحكم الكون ولا يتعامل بالألغاز الألاعيب ولا حتى يمكن تحويله إلى صنم يُعبد. أما غريزة الإنسان الدينية لا يسعها إلا أن تفكر في إمكانية عبادة هذا المبدأ.

وعند قراءة دراسات مايستر إيكهارت، استبدل «الحقيقة» بـ «اللوجوس» وستفهم ما أقصد.