عقب كل حادثة عنف تخرج دائمًا أصوات البعض متحدثين عن مسئولية النصوص والتراث عن الأمر، منادين – بلا ملل – بضرورة الإصلاح الديني وتنقية التراث ونقده، وربما نقضه.

تبدو الصورة الذهنية جلية، فهناك فرد – أو مجموعة أفراد – قرأوا مجموعة نصوص، اقتنعوا بها، فعملوا على تنفيذها، ومن ثمَّ فأفعالهم هي نتيجة مباشرة لتلك النصوص، لذا فمن أجل القضاء على تلك الظاهرة الإجرامية علينا أن نمسك المعاول لنسف هذا التراث المليء بالنصوص المحرِّضة على العنف، ونحن إذا فعلنا ذلك، فسنجد أنفسنا في عالم بلا عنف وبلا ضحايا.

بالرغم من البساطة الظاهرة في هذه الصورة الذهنية؛ إلا أن مردديها لا يبدو أنهم مدركون لعجزها عن تقديم أي تفسير لظاهرة العنف أو حلول لمواجهته، فضلا عن أن تتماسك هذه الصورة الذهنية منطقيًا وتاريخيًا.


الإصلاح الديني: دال يبحث عن مدلول

الخوض في نقاش هل التراث بالفعل بحاجة لنقد أو تنقية، أمر هام، لكنه خارج عن إطار هذه السطور. ما نود نقاشه على الحقيقة هو: هب أن التراث بحاجة لنقد بالفعل، وأن هناك نصوصًا تحرض على العنف، فما طبيعة هذا الإصلاح وماذا يعني في ظل بحثنا عن «النصوص المحرِّضة على العنف» حتى ننقي منها التراث؟

لدينا هنا تصوران أساسيان: إما أن يتم إعلان عدم شرعية هذه النصوص (المحرِّضة على العنف)، ومن ثم تفقد قيمتها؛ أو أن يتم تقديم نصوص أخرى تقدم تصورًا مختلفًا (خالٍ من العنف) ومن ثمَّ يتحقق الإصلاح الديني الذي يتم الدعوة إليه.

لا ندري على وجه التحديد من ذاك الذي لديه «صلاحية» إعلان شرعية أو عدم شرعية نص من النصوص، بل إن وجود مثل ذاك الكيان هو مُنافٍ لتصورات الإسلام الأساسية، فضلا عن تصورات دعاة الإصلاح الديني الذين لا ينفكون عن الحديث باسم حرية التفكير في الدين. لا يبدو إذن مثل ذلك الطريق مجديًا.

أما عن تقديم تصورات بديلة، فأي متابع بسيط للقرن الماضي يدرك بالبداهة أن مثل تلك التصورات قد تم تقديمها بالفعل، سواء كانت تصورات من صلب التراث نفسه، فيما قدمه الأزهر كمؤسسة تراثية لنقد خطابات العنف اعتمادًا على نفس نصوص التراث، أو وصولا لأكثر التصورات بعدًا عن التراث تلك التي قدمها دعاة نقض التراث، مرورًا بتصورات من حاول التجديد دون إهالة التراب على التراث ككل، مثل المدرسة الوسطية وغيرها، فضلا عن تصورات التنظيمات الإسلامية بكافة تنوعاتها.

مع وجود كل تلك التصورات البديلة وغيرها، يبدو أننا أمام ثلاثة احتمالات رئيسية: الأول أن تلك التصورات – كلها – غير كافية، أو أنها كافية لكنها لم تنتشر بالقدر الكافي، والثالث أنها ما زالت بحاجة لتطوير.


تصورات الإصلاح الديني: البحث في العتمة عما سقط في وضح النهار

نظرًا للتنوع الشديد في التصورات التي تم تقديمها، وبعضها يلبي كل «شروط» الاصلاح الديني. لا يبدو الاحتمال الأول قائمًا، وإن كان قائمًا فعلى دعاة الاصلاح الديني أن يقوموا هم بتقديم تصوراتهم البديلة، بدلا من ادعاء عدم صلاحية أي من الموجود دون تقديم تصورات بديلة تناسب دعواهم.

يتبقى إذًا لدينا احتمالان، وهما عدم الانتشار أو عدم الاكتمال. وبتتبع تاريخ الأفكار خلال القرن الماضي، نجد أن كافة دعاة التغيير لم يستطيعوا وضع أي من تصوراتهم موضع التنفيذ، بل بقيت مثل تلك التصورات مجرد أفكار نظرية، إسلامية كانت أم علمانية، ولم تنتشر لا لضعف في ذاتها (وإن وُجد في بعضها) بل لأنها لم تجد بيئة مناسبة للانتشار، تلك البيئة التي قتلها استبداد حَارَب كل أنواع ودعوات التغيير.

فمن سيطر على مجالات التعليم والإعلام والفن وغيرها، وهما أهم وسائل نشر الأفكار، لم يكن التيار الإسلامي أو حتى التراثيين من الأزاهرة وغيرهم، كما أن آلة الدولة الصلبة لم تمتلئ سوى بمنفذي سياساتها، وإن ظهر لبعضهم توجه فقد كان علمانيًا، وهو ما تشهد عليه وزارة الثقافة على سبيل المثال.

لذا، فسواء كانت تلك التصورات البديلة مكتملة أم غير مكتملة، فإنها في النهاية لم تجد بيئة أساسية للانتشار والتطور، ومن ثَمَّ يصبح الحديث عن ضرورة الاصلاح الديني هو محض دعوة لإعادة اختراع عجلة تم وضع عشرات التصميمات المختلفة لها، بعضها ظهر منه نماذج أولية بالفعل.


النصوص والتطرف: لماذا يلجأ الإنسان للعنف كوسيلة للتغيير؟

يمكننا الآن أن نعيد مساءلة الصورة الذهنية التي بدأنا بها، هل يقوم الانسان بممارسة العنف فقط لأنه قرأ نصًا فهِم منه أنه يحضه على ذلك؟

أولا: بعض تلك النصوص، التي يرشدنا إليها دعاة الاصلاح الديني، هي نصوص أساسية (قرآن وسنة)، وهي من ثَمَّ متاحة لكل مسلم، فإن كان الأمر سببًا ونتيجةً، لماذا لم يتحول المليار مسلم إلى العنف؟ (هذا عملا بافتراض أنها تحض على العنف بشكل مطلق).

ثانيًا: إن كانت تلك النصوص تحض على العنف بشكل مطلق، فلِمَ اختلف في فهمها المسلمون، عامة ومفكرون وفقهاء وغيرهم؟ بعض تلك النصوص يتم فهمها بأشكال جد مختلفة، لذا فإن هناك عوامل إذًا تؤدي بالشخص لفهم نفس النصوص بطريقة تختلف عن فهم الآخرين، ألا يجعلنا ذلك نتساءل عن هذه العوامل بدلا من مطاردتنا للنصوص؟

ثالثًا: المتابع للتيارات الجهادية بوجه عام، وداعش بوجه خاص، يدرك أنه بالرغم من الهالة الإعلامية والخطابات الصادرة عنها، فإن هناك نماذج وسياقات تظهر بشكل جلي في مثل تلك التنظيمات؛ نموذج المجرم التائب على سبيل المثال لا الحصر في المنضمين لداعش من الأوروبيين، حيث تبرز نسب من لهم سوابق إجرامية بين المنفذين لهجمات عنف وقتل في أوروبا، آخرهم ذلك الذي هاجم المارَّة قرب البرلمان البريطاني، حيث وجدوا المخدرات في شقته بينما سجله الإجرامي حافل بعشرات السوابق. تُرى، ألا تدفعنا تلك النماذج والسياقات وغيرها للبحث عن أسباب للعنف مباشرة تمامًا ومرتبطة بواقع العنف وممارسيه، بدلا من الاختباء خلف دعوات نقض التراث وتنقية النصوص؟

رابعًا: إن إرجاع ظاهرة إنسانية شديدة التعقيد إلى مجرد نص مكتوب، هو تسطيح بالغ للإنسان وكيفية تعامله مع الأمور وكيفية اتخاذه للقرارات فضلا عن طبيعة عملية اقتناعه بالأفكار. فتجاهل كافة العوامل النفسية والسياسية والاقتصادية والتاريخية والاجتماعية وغيرها، وإلقاء المسئولية على نص، هو حالة نموذجية من احتقار الانسان ونفي تركيبيته.


الهرب من التراث عبر اللجوء إليه

في حقيقة الأمر لا يمكن إغفال ذلك التشابه الغريب بين دعاة الإصلاح وبين دعاة العنف من التنظيمات الإسلامية.

فدعاة الإصلاح بالرغم من دعوتهم المناهضة للتراث إلا أنهم لا ينفكون عن الدوران في فلكه؛ هو صنمهم لكنه صنم مدنس.

أما منظرو العنف فهم يدورون في نفس الفلك لكن مع تقديس التراث. كلاهما قد وقع في عدم إدراك لطبيعة التراث، وربما طبيعة الواقع؛ لكنهم رغم اختلاف دعواهم لم يبتعدوا عن التراث، حتى ولو دعوا لنقضه.

التجديد الفكري والاجتهاد أمران لا يمكن الحياة بدونهما، وقد مرّ التيار الإسلامي والتفكير الديني بشكل عام بالعديد من محاولات التجديد والاجتهاد، وهو أمر محمود حتى ولو اختلفنا مع نتائج هذا الاجتهاد ومنهجيته، ولكن المفزع بحق هو ذاك التسطيح المتعمد أو الجاهل بظاهرة العنف، والارتكان لمقولات الإصلاح الديني، التي إما كانت وسيلة للإلهاء من قبل السلطة، أو دعوة أيديولوجية لا تدرك من الواقع سوى قناعتها المترسخة بعيدة عنه.