الزمان؛ مطلع فبراير الحالي. المكان؛ ساحة «ميدان» وسط العاصمة الأوكرانية كييف، والتي كانت مسرحًا لأحداث الثورة الأوكرانية في العام 2014. سبع جثث – لجنود لقوا حتفهم في الاشتباكات المتجددة شرقي البلاد في خرق للهدنة السارية من فبراير/ شباط 2015 – أُتي بها للميدان، وتجمعت الحشود، وغطت الصور المليئة بالحماسة وسائل الإعلام المرئي والمكتوب ووسائل التواصل الاجتماعي، في ظل دعوات حارة لدعم الجنود على خط النار، وتقديم كافة وسائل المساعدة لهم.

وكانت أصداء نيران المدفعية الثقيلة قد سُمعت قبل ذلك بثلاثة أيام، تحديدًا في الـ29 من يناير/ كانون الثاني، في بلدة أدفييدفكا الصناعية، أُخليت على إثرها المدينة، التي يسكنها قرابة 16.000 مواطن، التي تسيطر عليها القوات الحكومية، والتي لطالما كانت نقطة اقتتال عظيمة الأثر، وقطعت عنها الكهرباء والماء، في درجة حرارة 20 تحت الصفر، مما ينذر بكارثة إنسانية.

زحفت القوات الأوكرانية شرقًا باتجاه المنطقة الرمادية، واستولت في طريقها على بلدات صغيرة كان المتمردون يسيطرون عليها، لكن انسحاب المتمردين المتهمين ببدء الخرق من قبل حكومة كييف، لا يمكن تفسيره إلا في سياق انتظارهم للحظة الأنسب للرد، في ظل اشتباكات طفيفة تزيد على إثرها فاتورة الدم يوميًا.


تخوفات مشروعة

http://gty.im/633671040

جاء الاشتباكات بعد يوم واحد من مهاتفة تمت بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأمريكي دونالد ترامب، مهاتفةٌ هي الأولى منذ تولي الأخير مقاليد الحكم. بدت المكالمة ودية بين الطرفين، كما تم الإعلان من جانب الحكومة الروسية.

بالعودة إلى الوراء قليلًا، وتحديدًا في فبراير/ شباط 2015، وقع الطرفان الروسي والأوكراني معاهدة السلام المعروفة بـ«معاهدة مينسك» برعاية ألمانية فرنسية، والتي نصت بضرورة نزع الأسلحة الثقيلة شرقي أوكرانيا، والوقف الفوري لإطلاق النار متى تم توقيع الاتفاق، لكن تقع إشكالية تأويلية يتجاذبها الطرفان، فالجانب الأوكراني يرى في الاتفاقية طريقًا لاستعادة السيطرة على مناطق المتمردين الشرقية، وغلق الحدود إيذانًا بالعودة إلى مركزية السلطة، التي نصت الاتفاقية على «لا مركزيتها». في حين يقرأها الجانب الروسي على أنها الطريق للحفاظ على السيطرة شرقي أوكرانيا، والحدود المفتوحة. ومطالبة كييف لاحقًا بالاعتراف باعتبار دونابس مقاطعة ذاتية الحكم داخل أوكرانيا، مما يضمن لروسيا تواجدًا في مستقبل أوكرانيا. الخرق هذه المرة، تخللته نيران المدفعية الثقيلة، ما يتنافى شكلًا وموضوعًا مع معاهدة مينسك، وهو ما ينذر بالخطر إذا لم يتم احتواؤه.

خُرقت الهدنة عدة مرات، وفي كل مرة يتبادل الطرفان الاتهامات، هذه المرة الأمر مغاير لما كان في السابق، فالمعسكر الغربي الداعم الأول لكييف يتشكك في أمر الولايات المتحدة في ظل حكم الشعبوي دونالد ترامب، الذي لم يصدر عنه إلى الآن رأي أو توجيه لأي من الأطراف الفاعلة. وبحسب ما نشرته مجلة ذي إيكونوميست، فإن الموقف الأوكراني يبدو متشككًا حيال الحلفاء الأمريكيين والأوروبيين، لاسيما وأن بعضهم يردد أحاديث عن رفع العقوبات عن روسيا.

من ذا الذي يجرؤ على الحديث عن رفع العقوبات عن روسيا في ظل هذه الظروف؟!
يتساءل الرئيس الأوكراني، بيترو بورشينكو

وقال بورشينكو، في رد على سؤال وُجه له، خلال حديثه لصحيفة «برلينر مورجنبوست» الألمانية، بشأن ماهية موقفه من عزم الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلغاء العقوبات المتخذة من الجانب الأمريكي ضد روسيا «أتعرفون من أكثر من يرغب بإلغاء العقوبات؟ إنه الرئيس بوروشينكو. ولكن قبل ذلك على روسيا أن تسحب جميع قواتها من أراضينا، لكي يتسنى لأوكرانيا استرجاع سيادتها ووحدتها».

قطع بورشينكو زيارته إلى ألمانيا عائدًا إلى كييف لمتابعة الأوضاع الآخذة في التفاقم، ليؤكد مطلع فبراير/ شباط الحالي اعتزامه إجراء استفتاء شعبي لانضمام بلاده إلى حلف الناتو، وهو الأمر الذي تعتبره روسيا خطًا أحمر، ولا ترغب به كذلك دول الناتو. ويُذكر أن بلاده قد نزعت عن نفسها صفة عدم الانحياز في ديسمبر/ كانون الأول 2014، بتعديلات قانونية أقرها البرلمان، مما يسمح لها بالانضمام إلى أحلاف أجنبية.

جينس ستولتنبيرغ، الأمين العام لحلف شمال الأطسي، يقول: «ندعو للعودة الفورية لوقف إطلاق النار، وسحب كل الأسلحة الثقيلة الممنوعة وفق اتفاق مينسك. مراقبو منظمة الأمن والتعاون في أوروبا يجب أن يُوفر لهم ضمان الوصول الحر والآمن إلى جميع أنحاء المنطقة. ويجب أن تشمل الحدود الأوكرانية مع روسيا»


الاختبار الأول لترامب

هكذا كتبت مبتهجةً الصحيفة الروسية الرسمية، روسيسكايا غازيتا، تعليقًا على التعقيب الأمريكي على الأحداث شرقي أوكرانيا، والذي حتى أتى متأخرًا بعد بداية التوتر بيومين.

فيما تتصاعد الأحداث في أوكرانيا، تحيد أنظار المراقبين الروس صوب الولايات المتحدة وكأنه اختبار للإدارة الجديدة، لاسيما وأن اتصالًا تليفونيًا سبق تجدد المعارك بيوم واحد، وكانت الحكومة الروسية قد صرحت عقب الاتصال بأن رئيس بلادها تناول مع الرئيس الأمريكي الأزمة الأوكرانية. ويعتبر مراقبون تجدد المعارك اختبارًا يسعى بوتين من خلاله لإدراك حقيقة ردود الأفعال الأمريكية في ظل التصريحات المتناثرة من ترامب تعبّر عن رغبته في تهدئة العلاقات المتوترة مع روسيا.

في الماضي، كانت الاشتباكات حين تتجدد لا تتأخر ردود الفعل الأمريكية، سواءٌ من البيت الأبيض أو وزارة الخارجية، في لهجة تصعيدية تدين الاعتداء الروسي على يد المتمردين، وتدعم وحدة الإقليم الأوكراني. أما هذه المرة، فاستغرقت الولايات المتحدة يومين لتعرب فقط عن بالغ قلقها إزاء الأوضاع الإنسانية في شرق أوكرانيا! كانت بالونة اختبار إذن لها ما بعدها، وربما ما بعدها ابتلاع معاهدة مينسك!

على الصعيد الأمريكي الداخلي،أرسل السيناتور جون ماكين رسالة إلى الرئيس الأمريكي، يذكر فيها أن روسيا بإذكائها تجدد الاشتباكات شرقي أوكرانيا تريد اختبار الرد الأمريكي، وأن على الولايات المتحدة إمداد أوكرانيا بالأسلحة التي تحتاجها لصد العدوان، وحث ترامب على توسيع العقوبات الاقتصادية على روسيا، وهو الأمر الذي جعل كبير النواب الديمقراطيين في لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشيوخ، بن كاردن، يعلن عن رغبته في العمل مع ماكين على ذات المطلب، للضغط على ترامب.


لماذا يعاودون القتال: بوتين يجيب!

ألقت واشنطن باللائمة على الانفصاليين، ولم تعبر عن دعمها لكييف بينما تجاهلت ولم تذكر الدور الروسي

ثلاثة أسباب أوردتها وكالة سبوتنيك الإخبارية، التابعة للحكومة الروسية، توضح الدوافع الأوكرانية وراء تصاعد الأزمة في هذا التوقيت، من وجهة نظر الرئيس بوتين، أولها أن حكومة كييف تسعى للحصول على دعم مالي من المعسكر الغربي في ظل تراجع الأوضاع المعيشية هناك، ولهذا فأيسر الطرق لها أن تعيش دور الضحية في حرب غير متكافئة مع الجار الروسي، المهدد للغرب.

ثانيها؛ أن الإدارة الأوكرانية من جانبها دعمت المرشحة الخاسرة هيلاري كلينتون، ولذا فهي تسعى، من خلال تصاعد أعمال العنف مجددًا، لجر الإدارة الأمريكية الجديدة لحل الأزمة، وفتح قناة دبلوماسية معها.

ثالثها كما يري الرئيس الروسي؛ هو فشل الحكومة الأوكرانية في إدارة البلاد داخليًا، وتزايد نشاط المعارضة الداخلية، ولهذا تلجأ الحكومة الأوكرانية لتذكير الجمهور بدور القيادة، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولا دور للخلافات الداخلية بينما يحاربنا العد الروسي على الحدود الشرقية.

خلال النقاط الثلاثة، ركز بوتين كثيرًا على الداخل الأوكراني، ولديه سابقة في جورجيا وأخرى في الشيشان، مع اختلاف المضمون، إذ ربما يكون ثمة سعي روسي لاستبدال حكومة كييف بحكومة أقل عداءً لروسيا، استغلالًا للظرف الدولي سابق الذكر، والظرف الداخلي الأوكراني المتذبذب.

تمثل التصعيدات الأخيرة اختبارًا لتماسك المعسكر الغربي المتأزم مع صعود اليمين الشعبوي في الولايات المتحدة، ومع قرب موعد الانتخابات الفرنسية التي تبدو إلى الآن يمينية الهوى، كما تمثل طوق نجاة للحكومة الأوكرانية المأزومة داخليًا، في انتظار ما ستئول إليه الأمور في قادم الأيام، هل يتماسك المعسكر العجوز أم يلتهمه الدب الروسي، المبعوث من جديد!