أعادت أحداث السودان والجزائر بدءًا من فبراير 2019 النقاش مجددًا حول مستقبل التغيير السياسي في مجتمعاتنا العربية، وأثار سؤالاتٍ كثيرة عن الحالة في هذين البلدين، وهل هما امتداد لموجة التغيير التي حصلت في 2011م أم لا؟ وإن كانت امتدادًا لها كما يرى كثيرون، فهل ستتمكن من تحقيق أهدافها المعلنة وتتغلب على أنظمة الاستبداد والفساد والفشل التي تحكمها منذ عقود أم سيصيبها ما أصاب سابقاتها؟ ولا أحد يستطيع القطع بشيء في هذا النقاش الممتد، وبخاصة مع تجذر الاختلاف في الرؤى والمرجعيات لدى النخب الثقافية والسياسية المعنية نظريًا (على الأقل) بالشأن العام في بلادنا.

هناك اختلاف أساسي وعميق بين النخب الفكرية في توصيف ما تشهده البلدان العربية منذ سنة 2011 إلى اليوم؛ هل هو ربيعٌ أم خريفٌ عربي؟ أعمال احتجاجية مشروعة أم إرهابية مُجرَّمة؟ ورغم هذا الاختلاف فإن ثمة حقيقتين واضحتين: الأولى، أن ما حصل ولا يزال يحصل هو بكل تأكيد وبمفاهيم العلوم السياسية أكثر من احتجاج وأقل من ثورة، والثانية، هي أن شعوبنا العربية بدأت تشعر بضرورة الاندماج في حركة التاريخ العالمي نحو التحرر والحرية، وأن بقاءها خارجه لم يعد مقبولًا. والاندماج في حركة التاريخ يعني حصريًا رفض الحكم الاستبدادي أيًا كان شكله، والانتقال إلى الحكم الديقراطي، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية.

إن أهم ما تقوله وقائع تجدد انتفاضة الجماهير في الجزائر والسودان هو أنَّ شعوب منطقتنا العربية بدأت تشعر بأن عليها أن تأخذ بيدها زمام المبادرة لكي تندمج في حركة التاريخ، وهي تُنْصِت للحْنِ الحرية الخالد الذي أنشدت عليه الإنسانية أعذب أغانيها.

ولكن إنجاز الاندماج في حركة التاريخ وبتلك المضامين، لم يكن، ولن يكون أمرًا سهلًا، بل هو عملية تاريخية معقدة، وسوف تستغرق بعض الوقت، وتتطلب الكثير من الجهود والتضحيات؛ ذلك لأن الأنظمة العربية القديمة، التي انتهت بمجتمعاتنا بعد أكثر من ستة عقود إلى وضعها خارج التاريخ باعتراف جميع الأطراف الداخلية والخارجية، وأركستها في غياهب البؤس والفساد والتخلف والقهر والفقر والهزائم، هذه الأنظمة يخطئ من يخطر على باله أنها ستستسلم لمصيرها المحتوم بيسر وليونة.

وقد تصور ذلك أغلبُ الاحتجاجيين العرب منذ 2011، ليس لسذاجتهم وقلة خبرتهم الثورية، وإنما لفرط الكوارث التي حلت بأوطاننا على يد تلك الأنظمة إلى الحد الذي يجعلها هي ذاتها تنتظر ساعة إزاحتها وترحب باقتلاع ذاتها. لكن وقائع عملية الاندماج التاريخي أعقد وأصعب من هذا التبسيط؛ وأول تعقيداته هو تشبث الأنظمة القديمة بالبقاء، ودفاعها عن مصالحها وامتيازاتها الأنانية مهما كان الثمن، ومهما كلف ذلك من تضحيات داخلية وتنازلات مهينة للقوى الأجنبية على حساب السيادة والكرامة الوطنية.

وقد بدأت هذه العملية التاريخية، واستمرارها وإن كان على فترات متباعدة يرجح أنها لا رجعة فيها إلى الوراء مرة أخرى. إن أهم ما تقوله وقائع تجدد انتفاضة الجماهير في الجزائر والسودان هو أنَّ شعوب منطقتنا العربية بدأت تشعر بأن عليها أن تأخذ بيدها زمام المبادرة لكي تندمج في حركة التاريخ، وهي تُنْصِت للحْنِ الحرية الخالد الذي أنشدت عليه الإنسانية أعذب أغانيها. وتقول هذه الوقائع أيضًا، إن هذه الجماهير قد استيقظت بعد طول سكون وإذعانٍ طالما استَمْرَأَتْه أنظمةُ الحكم المستبدة على مدى عقود طويلة من الزمن.

لقد ظَلَّت شعوب منطقتنا إلى نهاية العقد الأول من هذا القرن تُشَكِّل استثناءً من عملية التحول الديمقراطي، واستعصاءً على خوض التجارب التي خاضَتْها شعوب كثيرة في قارات العالم الخمس خلال القرنين الماضيين. وحتى عندما جاءت الموجة الثالثة للديمقراطية في تسعينيات القرن الماضي وقَفَت شعوبنا خارج تلك الموجة العاتية التي أزاحت أنظمةً استبداديةً عتيدة في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا؛ وخاصةً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة.

وقبل ذلك وقفت شعوبنا الموقفَ نفسه من الموجة الثانية للديمقراطية التي عَمَّت بلدانًا عِدَّة حول العالم منذ منتصف العشرينيات من القرن العشرين، وحتى منتصف السبعينيات منه. وكان الموقف هو هو من الموجة الديمقراطية الأولى التي بَزَغَت ابتداءً من سنة 1828م تقريبًا، واستمرَّت إلى منتصف العشرينيات من القرن العشرين الماضي. في تلك الفترة ظهرت مبادرات ديمقراطية في كتابات كثير من المفكرين والفلاسفة والأدباء، وشهدت أيضًا تحركات ديمقراطية شعبية. ولكن بلادنا بقيت – آنذاك- أيضًا بمنأى عن هذا كله؛ إلا في القليل النادر الذي لا حكم له.

المَغْزَى العميق لما حدث منذ 2011 ولا يزال يحدث في ميادين الجزائر والسودان هو: تحرير الإرادة من أَسْر الطاعة السلبية. إنَّه يقظةٌ ضد أنظمة الاستبداد السياسي ورموزها ومؤسساتها القمعية، وممارساتها الوحشية المنتهكة لأبسط حقوق الإنسان، والخائرة بخنوع ومذلة لقوى الهيمنة الأجنبية.

الاحتجاجات العربية الراهنة قالت، ولا تزال تقول: لقد آذَنَ ليلُ هذا الاستثناء، أو الاستعصاء العربي بالرحيل، بعد أن استشعرت شعوبُنا أنها أضحت بمستوى الولاية على نفسها ولم تَعُد قاصرة؛ وذلك بفضل أجيال جديدٍة تعبر عن طموحاتها من صميم جراحاتها في شعار اجترحته ببراعة واقتدار ينادي بالعيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية.

ما يدعو للتأمل طويلًا في المشهد العربي اليوم هو النطق المُدَوِّي لهذا الشعار. هذه هي السابقة الأولى في تاريخ شعوب المنطقة العربية. وأغلب الظنِّ أنها لن تهدأ حتى تَطْوِي به عذابات عهود الاستبداد الذي تطاولت أزمنتُه، وتفتح عهد الحرية الذي طال انتظاره.

ذلك أنها ضربت بعمقٍ منظومة الطاعة الخانعة التي رسخت على نحوٍ سلبي- وبالمخالفة لأصولها في القرآن وصحيح السنة- في الثقافة السياسية لشعوبنا عبر مئات السنين، وبفعل كثيرٍ من الحُجَج التي أسهم في صَوْغِها عشرات من فقهاء السلاطين، ومتفرنجة الثقافة، بدءًا من بعض علماء الكلام قديمًا، والفلسفة حديثًا، ومرورًا ببعض كُتَّاب الأدب السلطاني، والسياسة الشرعية، وصولًا إلى ترزية القوانين والدساتير، وكذابي الزفة في تاريخنا الحديث والمعاصر الذين التَقَوا في أغلبهم على قاعدةٍ وضعوها في غير موضعها تقول، وإن عبَّر كل منهم عنها بلغته الخاصة: «عليك بطاعة ولي الأمر وإن سرق مالَك، وهتك عرضك، وجَلَد ظهرك»! هؤلاء وأولئك جميعًا هم الذين صاغوا الجانب الأكبر من الوَعْي السياسي العربي، وسلموه لسِياط الطُّغاة والجلادين منذ مئات السنين وإلى اليوم. هؤلاء وأولئك هم أنفسهم أول الذين أسقطتهم هتافات الجماهير الثائرة في مختلف الميادين العربية.

المَغْزَى العميق لما حدث منذ 2011 ولا يزال يحدث في ميادين الجزائر والسودان هو: تحرير الإرادة من أَسْر الطاعة السلبية. إنَّه يقظةٌ ضد أنظمة الاستبداد السياسي ورموزها ومؤسساتها القمعية، وممارساتها الوحشية المنتهكة لأبسط حقوق الإنسان، والخائرة بخنوع ومذلة لقوى الهيمنة الأجنبية.

المغزى العميق لهذا كله هو دعوة لإعادة تأسيس العلاقة بين المواطن والسلطة على قاعدة الرِّضا. ولا يعني هذا أننا ندعو لنبذ الطاعة أو شطبها من قاموس الثقافة السياسية بحجة أنَّه قد أُسِيء توظيفها في غير ما وضعت له على يد فقهاء وترزية ومثقفي السلاطين ومزيفي الوعي قديمًا وحديثًا. بل ندعو إلى تخليصها من معانيها السلبية، وإعادتها إلى أصولها الإيجابية.

ذلك أنَّ وقائع الاجتماع السياسي في تاريخنا تُشِير إلى أنَّ الحرص على ممارسة الطاعة وفق معاييرها الإيجابية التي وَرَدت في القرآن وصحيح السنة، قد تغيَّر ابتداءً من الدولة الأموية عندما أخذت الطاعة مضمونًا تاريخيًا بعيدًا عن تلك المعايير. ومن ثَمَّ ظهرت تعبيرات من قبيل وجوب طاعة المتغلب، وجواز طاعة الفاسق، وأنَّ الانقياد لحاكم غشوم خير من فتنة تدوم. وبعضهم ذهب إلى البحث عن حاكم أقلّ فسوقًا بحجة عدم وجود أشخاص عدول يمكن اختيار أحدهم. وتعلَّل أصحاب هذا التوجيه السلبي لمفهوم الطاعة بعللٍ شتَّى، كان من أهمِّها سدّ الذرائع المؤدية إلى الفتن، وتجنُّب إراقة الدماء. ولكن الذي حدث هو أنَّ الفتن لم تتوقف، وأنَّ الدماء لم تُحْقَن، وأن الحرية وهي أعظم نعم الله على عباده قد أهدرت وصُودِرت بعد أن تضخّم سد الذرائع بمرور الزمن حتى غابت خَلْفَ جداره السميك الحريةُ مع أغلبية القِيَم النبيلة.

ليس غريبًا – والحال كما وصفنا- أنْ نرَى في أيامنا هذه على هوامش بعض الميادين المترعة بأشواق الجماهير في الحرية والعدالة والكرامة – كما في السودان والجزائر حاليًا- من يقف في صفِّ السلطة المستبدة والفاسدة؛ فهؤلاء لا تكاد تخلو منهم ثورة واحدة. وعُمْرُ أمثال هؤلاء قصير. ولكن الغريب حقًا هو أنْ نرَى من يُعِيد إنتاج تلك الثقافة السياسية السلبية الموروثة من ممارسات عصور الاستبداد السياسي، وهي الثقافة التي عَبّرت عن الانتقال من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه الواسع، إلى ثقافة الطاعة السياسية بعد أنْ جَرَى تأويلها لتصبح طاعة الفاسق والجائر والمتغلب جزءًا من الشريعة، وترسَّخت منذ ذلك الحين إلى اليوم قاعدة حُرْمة الخروج على الحاكم الجائر.

وليس غريبًا أنه قد ظهرت في غمار الاحتجاجات في البلدان العربية وطفت على السطح بعضُ الاتجاهات السلفية التي تعِيد تذكيرنا بذلك المَعْنَى السلبي المدمر لمفهوم الطاعة، بل سمعنا بعض الشخصيات التي تشغل مناصب دينية رفيعة من يقول هذا القول.

ولكن على الضفة الأخرى، تجلى بوضوح أن جيل الشباب هم القادة الحقيقيون للاحتجاجات أو الحراكات التي شهدتها ولا تزال تشهدها البلدان العربية. فهؤلاء يشكلون فئة اجتماعية واسعة، وقد تشكَّل وعيها جزئيًا في فضاءات العالم الافتراضي، وجزئيًا خارج الأُطُر والقيود الرسمية، وجزئيًا خارج التشكيلات الحزبية والنقابية القديمة. بل يُمْكِننا القول: إنَّ وَعْيَهم تشكل في أغلبه أيضًا خارج مؤسسات التعليم الرسمي التي مرَّ بها أغلبهم، أو ما زالوا فيها؛ فأغلبها مؤسسات فاشلة في أداء مهماتها التربوية والتعليمية، وهي أعجز عن أن تشكل الوعي وتثقف الوجدان، ومن أدلة فشلها أنها تأتي دائمًا في ذيل قائمة المنافسة على الجودة في الأداء والكفاءة والفعالية على مستوى العالم.

هذه الطبقة الواسعة من الشباب – الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و30 سنة في الأغلب الأعم – هم الذين ضحَّى عشرات الآلاف منهم بأرواحهم في ميادين التحرير والتغيير والاحتجاج والحراك والاعتصام الممتدة عبر عديد من البلدان العربية.

هؤلاء الشباب كان من حُسْن حَظِّهم أنهم لم يشربوا من مياه البئر الآسنة للطاعة السياسية بمفهومها التسلطي السلبي الموروث، ولا خَدَعَتْهم شعارات الأنظمة الشمولية والاستبدادية. كما لم تَخْدَعْهم شعارات الحداثة السياسية التي رفعتها أنظمة الاستبداد والفساد تلك لأكثرَ من نصف قرن. وإلى هؤلاء الشباب يرجع الفضل في تعريفنا بأنَّ الإنجاز الأبرز لهذه الحداثة السياسية المزيفة هو «عصابة» كما صرح بذلك أحد المسؤولين الكبار في الجزائر إبان تصاعد الاحتجاجات في ميدان البريد المركزي بالعاصمة، أو «بلطجية» أو «شَبِّيحة» أو «بلاطجة»، أو «قناصة ومرتزقة» في عديد من بلدان الاحتجاجات الأخرى. بينما الفقر والجوع والمرض والأمية والبطالة تضرب أغلب المواطنين في كل هذه البلدان، حتى تكاد تعجزهم عن الحركة.

ما يُنْبِئ به الاحتجاج المتجدد والممتد في الجزائر والسودان هو أنَّ شعوب منطقتنا العربية غَدَت على وشك إنهاء حالة الاستثناء من موجات التحوُّل الديمقراطي التي اندمجت في حركة التاريخ العالمي الماضية دومًا نحو مستقبلها في الحرية والعدالة والكرامة. وينبئ أيضًا بأن شعوبنا مغادرة لا محالة موقف الاستعصاء ومتجهة نحو الاندماج بنجاح في حركة التاريخ على يد جيل جديد من الشباب الذي يُؤمِن بأنه سيأتي يوم لن تشرق فيه الشمس إلا على شعوبٍ حُرَّة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.