في غرفة لا تتجاوز المترين طولًا وعرضًا، مُغلفة بسواد العتمة، باردة، خالية من أي صوت سوى صراخ المُحقق وأنات الخاضع للتحقيق، التقيت بـ «محمد دحلان» ذلك الشاب الخائف الواهن، ضعيف البُنية والشخصية، أتى مُعتقلًا في أواخر العام 1984.

كانت تلك تفاصيل لقاء السجن بين الأسير المحرر «محمد الشراتحة» ومحمد دحلان الذي بات قياديًا بارزًا في حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح، ويقود صراعًا حامي الوطيس مع الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس على السلطة والحكم، فكيف أصبح هكذا، وأيُّ تاريخ سطّر منذ ثمانينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا.

يُجيب الأسير المُحرَر «محمد الشراتحة» في حديث خاص له مع «إضاءات» عن جزء من هذا السؤال.


شاب الثمانينيات الأسير الضعيف

في ثمانينيات القرن الماضي وتحديدًا في العام 1981 اُعتقل محمد دحلان من قبل الاحتلال الإسرائيلي من مدينة خان يونس، على إثر حيازته لمنشورات سياسية قيل إنها تُحرض على الكفاح المُسلح ضد الاحتلال، وحوكم بالسجن خمس سنوات كان خلالها «الشراتحة» أسيرًا لدى الاحتلال بتهمة تهريب سلاح للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.

وعلى الرغم من معرفة الرجلين كلاهما ببعض قبل الأسر من خلال الجامعة الإسلامية التي احتضنتهما طالبين، إلا أن اللقاء داخل الأسر كان فارقًا فقد فطن الشراتحة لمستقبل دحلان وعلم أنّه من السهل توجيهه وقيادته لخدمة المصالح المشبوهة الضارة بالوطن والقضية، كيف لا وهو من أول اعتقال قرر أن يُدلي باعترافات عن رفاق الثورة والسلاح ليُنجي نفسه من عقاب المحتل.

يقول الشراتحة:

في لقائي به داخل غرفة التحقيق وجدته خائفًا مرتعدًا من قسوة تعذيب المُحققين الإسرائيليين، فسألته عن التهمة الموجهة له وسبب الاعتقال وإذا ما كان عليه اعتراف أم لا… فأجابه دحلان، أجابه بالتفصيل، فنصحه ألّا يعترف وأن يُصر على الإنكار وأن يطمئن لأن الاحتلال لن يملك له ضرًا ولا نفعًا، خاصة وأن بحوزته معلومات، وبالتالي فإن أساليب التعذيب فقط لتوهن إرادته ويُفصح عن زملائه، ليقعوا في قبضة المحتل ويتم تقويض عملهم ومقاومتهم ضده.

ويضيف الشراحتة: «وعدني بالصمود وعدم الاعتراف» لكنه لم يُنفذ الوعد.

وفي التفاصيل يروي الشراتحة لـ «إضاءات» كيف تفاجأ في اليوم الثاني باعتقال قيادات المناطق في الشبيبة الفتحاوية جميعهم، منهم: زكريا التلمس، هشام الدسوقي، توفيق أبو خوصة، نادر القيشاوي، وسامي أبو سمهدانة.

يقول: «كنت لا أزال في غرف التحقيق وكان في الغرفة التي أقبع بها ثقب صغير كنت أسمع وأرى منه الشخص الذي يخضع للتحقيق في الزنازين المجاورة».

سّلم محمد دحلان رفاق الثورة والبندقية لقيادة الاحتلال، بينما تم إبعاده إلى الخارج ولم يعد إلى قطاع غزة إلا بعودة السلطة الفلسطينية عام 1994 وكان شخصية مُختلفة تمامًا.

بدا قائدًا مُنافسًا على السلطة والحكم، وزعيمًا لجهاز الأمن الوقائي الذي شُكل من أجل منع عمليات المقاومة ضد إسرائيل في ضوء اتفاق أوسلو والعودة بالحكم الذاتي إلى القطاع، لكنه برغم ذلك بقيَّ محتفظًا بتاريخه الأسود في التحريض على التصفية والإقصاء، وبالقتل للقيادات الفلسطينية من كافة الفصائل التي تتعارض مع توجهاته وتُعرقل مسيرة وصوله إلى السلطة.


أول عملية اغتيال

«إسماعيل الخطيب» رئيس الجامعة الإسلامية بقطاع غزة في فترة الثمانينيات كان أول القيادات الفلسطينية التي اُتهم محمد دحلان صراحة بالترتيب لتصفيته لتحقيق مكاسب شخصية له، ومن ثم توالت سلسلة طويلة من عمليات التصفية المُبطنة لقيادات من شتى الفصائل الفلسطينية رأي فيهم خطرًا على مستقبله السياسي والسيادي في السلطة الفلسطينية.

ولعل آخر ما أُفصح عنه في سلسلة الإجرام الخاصة بدحلان التحريض على اغتيال القيادي محمود المبحوح من كتائب الشهيد عز الدين القسام بفندق في مدينة دبي يوم 19 يناير/كانون الثاني 2010.

كان «إسماعيل الخطيب» رئيس الجامعة الإسلامية بقطاع غزة، أول القيادات الفلسطينية التي اُتهم دحلان بالترتيب لتصفيته لتحقيق مكاسب شخصية.

وفي تفاصيل اغتيال «الخطيب» يُحدثنا الأسير المُحرر الشراتحة أنه وقت اغتياله كان هو ودحلان في زنازين التحقيق الإسرائيلي، وقتها سأله لمَّ قتلتموه؟، وكان معروفًا أن الشبيبة الفتحاوية من نفذت عملية الاغتيال، فرد أنه كان عميل لدى الاحتلال وكان يتردد كثيرًا على عمارة «أبو خضرة» (تلك العمارة كانت للإدارة المدنية للجيش الإسرائيلي وقتها ويتم من خلالها استصدار كافة الأوراق الرسمية الخاصة بالشعب الفلسطيني).

يروي الشراتحة تفاصيل التصفية، جازمًا أن الأسباب لا تعدو الخلافات على هوية الجامعة الإسلامية التي بدأت تطفو بين جماعة المجمع الإسلامي وجماعة الشبيبة الفتحاوية؛ فالأخيرة أرادت أن تكون الغلبة لها وعمدت إلى أسلوب الإقصاء والإزاحة بالتصفية والإبعاد، وكان الخطيب الضحية الأولى.

فقد وشى دحلان عن الخطيب لقائد الثورة في فتح والذراع التنفيذي لعمليات الثورة والمقاومة الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) الذي ما كان منه إلا أن يُعطي الأمر بالتصفية خاصة وأن ما اُتهم به الخطيب من العمالة والتعاون مع المحتل يُعد «خيانة عظمى» وكان التنفيذ فورًا على يد محمد أبو شاب وآخرون من بلدة بني سهيلا في خان يونس.

يقول الشراتحة إن فتح لم تملك أي دليل إدانة على الرجل سوى الوشاية بدخوله وخروجه إلى عمارة أبو خضرة بحقيبة سوداء، تلك الحقيبة التي كان يحمل بها وثائقه الرسمية لتجديدها، إذ كان من السودان ولم يكن أمامه وسيلة إلا التواصل مع الإدارة المدنية للجيش الإسرائيلي، التي تتولى إصدار كافة الأوراق الرسمية الخاصة بالشعب الفلسطيني كله.


علاقة وطيدة بالولايات المتحدة

بعد خروجه من قطاع غزة، تنقّل دحلان بين ليبيا والجزائر، إلى أن استقر به المقام في تونس حيث قيادة الثورة الفلسطينية. ولكن، كان ولائه الأكبر كان للولايات المتحدة التي اعتنت به بعد أن لمع نجمه نتيجة قربه من قائد الثورة ومُفجرها الرئيس الراحل ياسر عرفات.

وما يدل على ذلك، تصريح أحد مسئولي جهاز الاستخبارات الأمريكية CIA «ويتلي برونر» عن تجنيد دحلان قائلًا:

فقد تقاسم دحلان والرجوب إدارة جهاز الأمن الوقائي في غزة والضفة المُحتلة بعد عودة السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994، فكانا القوة الضاربة التي بطشت بها الولايات المتحدة وإسرائيل ضد قيادات فصائل المقاومة وألقت بهم في الأسر.

ويرى مراقبون أن دحلان تمكن خلال العام الأول لعودة السلطة الفلسطينية من تنفيذ خطة «روما» التي أعدتها إسرائيل لاحتواء حركة حماس وتقويض وجودها في الساحة الفلسطينية كقوة مقاومة. حيث أسقط العديد من ضحايا الحركة في قبضة جهازه، أعمل فيهم التعذيب والتنكيل.

وهو ما أكد عليه ضيفنا الشراتحة فأشار إلى أن التدريب الذي تلقاه دحلان على يد الأمريكان بعد خروجه من القطاع مرورًا بإبعاده إلى الأردن وصولًا إلى تواجده في تونس، كان له الأثر الأكبر في تغيير شخصية الرجل الخائرة الضعيفة الواهنة إلى أخرى تستثمر قوتها في تحقيق مصالحها أولًا وأخيرًا بعيدًا عن أي انتماء وطني أو حزبي.

وهو ما عبّر عنه الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون خلال المفاوضات المكثفة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في منتجع واي بلانتيش 1998، إذ أبدى إعجابه بشخصية دحلان وتوقع له أن يكون زعيمًا للشعب الفلسطيني مستقبلًا؛ كيف لا وقد تولى المحافظة على سياسة التنسيق الأمني مع الاحتلال عبر اعتقال وقتل أذرع المقاومة من كافة الفصائل الفلسطينية الرافضة لأوسلو سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.


صعود على حساب الدم

لقد تم تجنيد دحلان في تونس في الثمانينيات، وتمّت تزكيته وتسميته مع الرجوب ليكوّنا سويًا القوة الضاربة المستقبلية بعد اتفاقات أوسلو.

لم يمضِ وقت طويل حتى تسلم دحلان حقيبة الداخلية، فمارس ضغوطًا كبيرة على الرئيس ياسر عرفات بعد أن رفض التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد، ومن ثمَّ بدأ بالانقلاب عليه عام 2001.

تشير إحدى الوثائق المسربة حول مقتل عرفات إلى أن دحلان هو من أوصل الدواء المُسمم إلى عرفات داخل المستشفى في باريس عبر وفد أجنبي.

حيث أزعجه تدخل عرفات في بعض القضايا الأمنية واعتبره تدخلًا في صلاحياته، ولم يملك عرفات إلا أن يسترضيه وعينّه مستشارًا للأمن القومي، إلا أن وطيس الخلافات لم يخمد واستقال دحلان من منصبه بعد أشهر، مما أنتج انقسام داخلي في حركة فتح بين تيار عرفات وتيار دحلان، وكانت الغلبة لعرفات.

توفي عرفات في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2004، وبدأ دحلان في تنفيذ خطته للحصول على السلطة، غير أنه اصطدم بمحمود عباس، الذي تسلم رئاسة السلطة، فيما بقيّ هو مستشارًا للأمن القومي عام 2007.

وبدأ باستخدام الأجهزة الأمنية للقضاء على المقاومة، خاصة بعد فوز حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006. واُتهم وقتها بتنفيذ الكثير من عمليات الاغتيال لعدد من الشخصيات الهامة في الساحة الفصائلية الفلسطينية منهم: موسى عرفات، وأبو سمهدانة، والقوقا، وجاد التايه وغيرهم.

وفي يوليو/تموز 2009 كشف فاروق القدومي أمين سر اللجنة المركزية العليا لحركة فتح أن محمود عبّاس ومحمد دحلان تواطئا مع إسرائيل لاغتيال عرفات، وأشار إلى أن الراحل عرفات أودع لديه محضر لاجتماع سري بين عباس ودحلان وآرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها، تم التخطيط فيه لاغتيال عرفات وعدد من قيادات الفصائل الفلسطينية.

وهو ما أكدته للمرة الأولى إسرائيل التي أشارت عبر وسائل الإعلام العبرية إلى أن دحلان هو المسئول عن وفاة عرفات، حيث أشارت القناة العبرية العاشرة إلى إحدى الوثائق المسربة حول مقتل عرفات تُشير إلى أن دحلان هو من أوصل الدواء المُسمم إلى عرفات داخل المستشفى في باريس عبر وفد أجنبي.

كما تمت الإشارة إلى أن دحلان جنّد أحد الضباط في الضفة المحتلة للانقلاب على محمود عباس لتولى رئاسة السلطة بدلًا عنه، ما أنتج خلافات جسيمة تُوجت بإعلان عباس فصل دحلان من عضوية اللجنة المركزية وإحالته للقضاء للتحقيق معه في قضايا فساد مالي وإداري وسياسي.

وتلى ذلك في 2012 قرار برفع الحصانة البرلمانية عنه وإحالته إلى القضاء، ومن ثمّ كانت المُعاقبة العلنية من قبل عباس بقطع رواتب عناصر من الأجهزة الأمنية في مارس/أذار عام 2014، والتي عُرفت بمناصرتها لدحلان. ويرى مراقبون أن تلك الخطوة جاءت بعد تشكيل دحلان قوة مسلحة بمخيمات الضفة المحتلة للاشتباك مع أجهزة الأمن الفلسطينية التابعة لعباس هناك لإثبات قدرته على العبث بأمن الضفة.

المراجع
  1. "القناة العاشرة تكشف التفاصيل: دحلان قتل عرفات"، نبأ برس، 4 ديسمبر 2016.
  2. "محمد دحلان"، موقع الجزيرة نت، 15 ديسمبر 2010.
  3. سعيد قدري، "انقلاب ناعم أم نقاشات حرة داخل حركة فتح: هل يُقدم مؤتمر العين السخنة وريثًا لأبومازن"، صحيفة الأهرام، 19 أكتوبر 2016.