لا يزال الفكر اليهودي كتابًا غامضًا، لم تُفتح كثير من صفحاته بعد، ولا زال التاريخ أسير أكاذيب وأساطير ينسجها هذا الشعب ليوهم العالم أجمع بقضيته المزعومة.وقد جاء كتاب «أبحاث في الفكر اليهودي»، للدكتور «حسن ظاظا»، ليُجلي بعضًا من هذا الغموض. فبين دفتي هذا الكتاب هناك ثلاث مقالات، تسعى لإيضاح بعض الحقائق التاريخية، قبل أن يغرق العالم في أوهام ادعاءاتهم الكاذبة، وأولى هذه المقالات بعنوان «القدس مدينة الله أم مدينة داود»، وفيها يرسم الخطوط العريضة للمدينة الفلسطينية العريقة قبل دخول اليهود فيها، ويحاول أن يجيب على السؤال الذي يحمله العنوان، وهو هل القدس مدينة الله كما يتضح من سيرة سيدنا إبراهيم، أم مدينة داود كما يدعي اليهود.


من الحاضر إلى الماضي

بدأ الكاتب بعرض واعٍ لأسلوب إسرائيل وسياستها التي وصفها بالدهاء، والتي تحاول من خلالها ترسيخ وجودها في فلسطين، ويؤكد أن أسلوبها هذا مبني على «التعقيد»، والانحراف بالمسائل عن الطريق الواضح المستقيم، بإثارة مشاكل جانبية مُفاجِئة، ومن خلال تزييف الحقائق التاريخية، لخداع العالم وإيهامه بأنها صاحبة قضية، فإسرائيل تستخدم كل الوسائل للدفاع عن نفسها، والويل كل الويل لمن أراد أن يُشكّك فيما تدّعيه إسرائيل، حيث لا تجد ما يمنع من قتل كل شخص يجرؤ على تلك الفعلة، والدليل على ذلك موقف اليهود القديم من نبيهم «أرمياء»، ومن «يوحنا المعمدان»، إلى أن نصل حديثًا إلى اغتيال اللورد «مورين» وزير المستعمرات البريطاني، أثناء الحرب العالمية الثانية، والكونت «برنادوت» السكرتير العام لهيئة الأمم المتحدة، وما لا يُحصى غيرهم من ضحايا.

قيل أن تيودور هرتسل، كان قد وافق على اقتراح بإعطاء اليهود وطنًا قوميًا في أوغندا، ولكن غلاة الصهيونية، ثاروا على هرتسل، ووصفوه بالخيانة.

وهناك «عقدة» أو أكذوبة ظل الإسرائيليون يدخرونها للوقت الذي يصل بهم الحرج في ميدان السياسة الدولية إلى ذروته، وهي «عقدة» القدس، فهناك رؤيتان أو وجهان في هذا الأمر لدى المجتمع اليهودي؛الوجهالأول: هو الوجه الذي لا يترك مناسبة إلا وتحدث فيها عن ضرورة تطهير القدس من المسيحية والإسلام، وأصحاب هذه الرؤية لا يطلقون على القدس إلا اسم «أورشليم»، ولا يقبلون بغير «أورشليم» وطنًا لهم، حتى أنه قيل أن تيودور هرتسل زعيم الصهيونية الحديثة، كان قد وافق على اقتراح لسياسي بريطاني كبير يدعى «تشمبرلين»، في إعطاء اليهود وطنًا قوميًا في أوغندا، ولكن غلاة الصهيونية، قاموا بإطلاق الرصاص على مساعد «تشمبرلين»، وثاروا على هرتسل، ووصفوه بالخيانة، إلى أن عدل هرتسل عن هذه الفكرة، فاستتبّ له الأمر.أما الوجه الثاني: فمن الواضح أن دعاته يتصفون بالمرونة والدبلوماسية، لاستقطاب الأمم الأخرى، فهم يقولون كلامًا معسولاً عن القدس، وبأنها لكل الأديان أي أنها «مدينة الله»، وهم بذلك يستَجدُون رضا الرأي العام المسيحي، في أوروبا وأمريكا، ويُخدِّرون الرأي العام الإسلامي في أفريقيا، وآسيا.لذلك جعلوا عاصمتهم في البداية «تل أبيب» لا «القدس»، وقاموا ببناء «أورشليم جديدة» على أطراف المدينة التاريخية، ورضوا بأن تبقى المدينة القديمة أي «القدس الشريف»، والمسجد الأقصى، وكنيسة القيامة وغيرها من المعالم المسيحية والإسلامية المقدسة جزءًا من المملكة الأردنية.ثم سقط القناع عن الوجه الذي كان مستترًا وراء اللاعنصرية الدينية، وجاءت حرب 1967، فخطت الصهيونية خطوتها الجريئة باحتلال القدس التاريخية ضمن ما احتلت، وأعلنت توحيد القدس، وضم القدس الشرقية (وهي المدينة العربية التاريخية) إلى «أورشليم الجديدة» وإدخال الأولى في مخطط «التهويد».ويرى الكاتب أنه كي يبتلع العالم هذه الأفعال المشينة، قسَّم قادة الصهيونية أنفسهم إلى فريقين؛ فريق يُلقي ببيانات وتصريحات مفادها، أنه لا إسرائيل بدون القدس التاريخية، أي «مدينة داود»، وأن الحائط الدولي بين القدس شرقًا وغربًا كان وصمة عار على جبين الشعب اليهودي، وأن المدينة كلها يهودية مئة بالمئة. أما الفريق الآخر، فيؤكد أن القدس «مدينة الله»، وأن المعالم المقدسة فيها لها حصانة سماوية، لا يمكن المساس بها، وأن المدينة المقدسة مفتوحة على مصراعيها للناس جميعًا من كل الملل والنحل.وهنا يكمن السؤال الذي أفرد له الكاتب هذا البحث ليجيب عنه، والسؤال هو: هل القدس «مدينة الله» أم مدينة داود؟.


أورشليم (القدس) قبل العبريين

اسم «أورشليم» الذي يستخدمه غلاة الصهيونية، كان يُطلق على القدس قبل دخول العبريين إليها عنوة.

وفي هذا المبحث يستعرض الكاتب أهم الحقائق التاريخية التي تؤكد أن اسم «أورشليم» الذي يستخدمه غلاة الصهيونية، كان يُطلق على القدس قبل دخول العبريين إليها عنوة، والدليل على ذلك أن أقدم النقوش المكتوب عليها اسم «أورشليم» موجودة الآن في المتحف المصري، في مجموعة اللوحات المكتوبة بالخط المسماري واللغة البابلية أي«لغة العراق القديم»، وتتخلل هذه اللوحات شروح باللغة الكنعانية «لغة فلسطين القديمة»، وهذه اللوحات تُعرف بـ «لوحات تل العمارنة»، وهي وثائق دبلوماسية ترجع إلى عهد الفرعون أمنوفيس الثالث (من 1411- 1375 ق.م)، وما يؤكد أيضًا أن اسم «أورشليم» ليس عبريًا أصيلاً، هو أن اليهود وجدوا صعوبة في كتابة اسمها باللغة العبرية «يروشالايم»، فهذه الياء الواقعة قبل الميم الأخيرة لم تكن تثبت في الكتابة العبرية، وقد كُتبت بدونها في أسفار العهد القديم 656 مرة، وكُتبت بها 6 مرات فقط، ولذلك نصَّ علماء التلمود على وجوب كتابتها بلا ياء.


دخول العبريين «أورشليم» عنوة

وما يؤكد أن العبريين دخلوا المدينة بالقوة، هي رسالة كتبها «عبد يحيبا» وهو حاكم القدس من قِبل فرعون مصر، وقد أرسلها إلى فرعون مصر «أمينوفيس الثالث»، يستنجده بمدد عسكري لصد غارات شراذم من الرُحَّل اسمهم «حبيرو»، وقد اتفق الباحثون أن هؤلاء هم العبريون، وفي عهد «يوشع بن نون» خليفة موسى (حوالي1450 ق.م)، كان العبريون قد أصبحوا بعشائرهم التي تهدد أمن المدن الفلسطينية، خطرًا يُحسب حسابه.وقد كانت «أورشليم» من المدن الفلسطينية التي قاومت الغزو قرونًا طويلة، فمثلًا نجد أن يوشع بن نون نفسه قد جعلها من نصيب قبيلتي بنيامين ويهوذا، وهم من أسباط بني إسرائيل، ولم تستطع القبيلتان طرد سكانهما الأصليين «اليبوسيين» وهي إحدى القبائل الفلسطينية القديمة، لذلك بقيت أورشليم تسمى «يبوس» أو «مدينة اليبوسيين»، كما جاء في (سفر القضاة 19)، وفي هذا نجد نصًا يستحق الانتباه:

..، وفيما هم عند يبوس، وقد انحدر النهار جدًا، قال الغلام لسيده: تعال نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه ونبيت فيها، فقال له سيده: لا نميل إلى مدينة غريبة حيث لا أحد من بني إسرائيل هنا.

وسنرى أن القدس ظلت إلى عهد داود لليبوسيين، سكانها الأصليين من شعب فلسطين، وظلت هذه المدينة من أول ما لقيناها في التوراة، من أيام إبراهيم إلى نحو ألف سنة تقاوم التسلل العبري، والمطامع اليهودية، فلا ينال منها الإسرائيليون إلا بالتخريب حينًا، أو بالمساكنة والتعايش السلمي أحيانًا أخرى.


داود ومدينته

القدس هي هضبة غير مستوية تمامًا، يتراوح ارتفاعها بين 2130 و2469 قدمًا، وجوها قاري صحراوي إلى حد كبير، واعتبرت منذ القدم موقعًا إستراتيجيًا هامًا، واشتهرت بأنها لا تظهر عند الزحف عليها من بُعد، بينما تستطيع حاميتها أن تكشف تحركات المهاجمين لها وهم ما يزالون على مسافة بعيدة.وهنا نأتي للسؤال الأهم: كيف تمكّن داود من تثبيت دعائم حكمه في «أورشليم»؟.ظلت القدس فلسطينية في أيدي اليبوسيين إلى السنة الثامنة من حكم داود، فقد كان داود في الجنوب من صحراء النقب، حيث اختارت قبيلته «سبط يهوذا»، هذه المنطقة لتلائم حياتها البدوية الرعوية، ثم انتقل داود إلى الشمال حيث كان نبي بني إسرائيل «صموئيل» قد تَوجَ «شاؤول أول» ملكًا على كل الشعب، وكان داود قد اُلحق ببلاط شاؤول، وفي هذا الوقت كان سكان البلاد الأصليين أي «الفلسطينيين» يريدون التخلص من الوجود العبري، وقد برز من الفلسطينيين بطل عملاق مخيف يدعى «جالوت»، واستطاع داود أن يقتله بحجر، ثم قطع رأسه وأخذها ليفخر بانتصاره في الجنوب، ومر بها على أورشليم، فبدأت شعبيته في الاتساع، حتى حقد عليه الملك شاؤول، ودبر لاغتياله، وفي نهاية الأمر تعرض شاؤول لهزائم متعددة، انتهت بانتحاره، وأصبح داود بعده ملكًا، فأراد داود أن يصل إلى نقطة حصينة، فوجد ضالته في «مدينة اليبوسيين» أي أورشليم، فاستولى داود على جبل صهيون، ولما كانت أسرته هي سبط يهوذا، فمنذ هذا الوقت بدأ العبريون أو الإسرائيليون يسمون باليهود أيضًا.


إيليا كابتيولينا، لا أورشليم

في القرن الثاني الميلادي، عام 136، قام شخص يدعى «بركوكبا» بثورة مسلحة ضد الرومان، لكن الإمبراطور الروماني إيليوس هادريان، قام بحصار القدس، وهدم كل شيء في المدينة، ولم يترك فيها يهوديًا واحدًا، وجاء إلى مكان الهيكل وأقام عليه معبدًا لـ «جوبيتير»، كبير آلهة الرومان، ووضع تمثالاً لهذا الإله كالتمثال القائم في معبد الكابيتول، وقرر تغيير كل شيء في هذه المدينة، حتى اسمها الذي أصبح مكونًا من اسم الإمبراطور، واسم «الكابيتول»، معبد جوبيتير الكبير، فسماها«إيليا كابيتولينا»، ومنع اليهود من دخولها، وقد جعل القتل عقوبتهم لمن يُقدم منهم على ذلك، وقد ذكر اليهود في تفاسيرهم القديمة أنه ظل محظورًا عليهم السكنى في القدس لقرون طويلة من الزمن.


القدس الشريف

ظلت القدس أو «إيليا كابيتولينا» محرمة على اليهود، حتى فتح الخليفة عمر بن الخطاب القدس، عام 637م، بقيادة خالد بن الوليد، وأبي عبيدة عامر بن الجراح، وقد انتظر المسيحيون قدوم الخليفة الإسلامي لاستلام المدينة، ومعهم مشروع معاهدة تقضي بكل ما يريده العرب، بشرط الإبقاء على الحرية الدينية لهم، واستمرار القرار الروماني القديم بمنع اليهود من النزول للمدينة، وقد قبل عمر كل الشروط باستثناء الشرط الأخير، وقد أوضح أن القرآن قد حدد ما لأهل الكتاب وما عليهم، وتعهد لمسيحيي القدس بألا يدخل أحد من اليهود إلى مقدساتهم.

عندما دخل العرب القدس الشريف بعد الإسلام كانت المدينة خالية من اليهود منذ خمسمئة سنة أو أكثر.

ولم يجرؤ اليهود طوال فترة الخلفاء الراشدين، وأوائل خلفاء الدولة الأموية، على الاستيطان بالقدس، وسُمح لهم بذلك في أيام الخليفة عبد الملك بن مروان، الذي بنى المسجد الجامع، وبنى قبة الصخرة، عام 688. وفي عام 969، أصبحت فلسطين تحت الحكم الفاطمي، فازدهرت الطائفة اليهودية في عهد المعز لدين الله الذي اشتهر بعطفه الشديد على الأقليات من أهل الكتاب.وفي أواخر عام 1099، دخل الصليبيون القدس لأول مرة، وأبادوا جميع المسلمين واليهود في القدس، وأحرقوا ديارهم ومقدساتهم، وحرّموا عليهم دخولها، وظل الأمر هكذا متأرجحًا بين العنف والتسامح مع اليهود، بين الصليبيين والمسلمين، إلى أن ذهبت فلسطين للمماليك، وكان اليهود وقتها قد كثروا في القدس، وقد بدأت بينهم تنظيمات سرية تفرض عليهم الإتاوات لصالح الطائفة، وتوقع عقوبة على من يرفض دفعها، إلى أن جاء العام 1516، وانتهى حكم المماليك، وسقطت القدس في يد السلطان العثماني سليم الأول، الذي أمر بإعادة بناء أسوار القدس الشريف، على النحو الذي نعرفه الآن.


الخلاصة

بعد هذه الجولة التاريخية السريعة لمدينة القدس، خلص الكاتب إلى أن المدينة كانت مقدسة قبل داود بألف سنة، ونجد أن فترة أواخر حكم داود وحكم سليمان، وهي لا تعدو كلها ثلاثًا وسبعين عامًا، 33 لداود، و40 لسليمان، هي الفترة الوحيدة التي كانت المدينة والهيكل فيها مركزًا، وعاصمة لليهود بقوة السلاح أولاً، وبالمسالمة والدبلوماسية ثانيًا.ووجدنا أن العرب عندما دخلوا القدس الشريف بعد الإسلام كانت المدينة خالية من اليهود منذ خمسمائة سنة أو أكثر، ومن كل أثر سياسي وديني لهم. وعلى مدى أكثر من ثلاثة عشر قرنًا كانت فيها القدس تحت الإدارة الإسلامية، كانت «مدينة الله» بحق، يجد فيها المسلم والمسيحي واليهودي صفاء النفس والسكينة الروحانية. ألف سنة قبل داود، وألف وخمسمئة سنة بعد داود، والقدس «مدينة الله»، بل داود نفسه لم يكن يسميها إلا مدينة الله، واليهود يعرفون ذلك جيدًا، ويعرفون أن التلمود كان يعتبرها «مدينة مملوكة لله»، ولذلك حرمت شريعته أن يمتلك فيها الإنسان بيتًا أو أرضًا أو بستانًا، أو أن يسكن أحد في بيته بأجر، ولكن اليهود كثيرًا ما يُسكِتون جميع الأصوات، حتى صوت داود وسليمان وأصوات الأنبياء، وحتى صوت التلمود.وبعد، فما زال للحديث بقية نستكملها في الجزء الثاني من عرض هذا الكتاب، حيث سنتناول رؤية اليهود للنبوة، وعنصرية الدولة الصهيونية.