يا أمريكا لمي فلوسك عبد الناصر جاي يدوسك
ارفض ارفض يا زكريا عبد الناصر مية المية

بهذه الشعارات وغيرها خرجت الجموع الغفيرة رافضة خطاب التنحي الذي ألقاه جمال عبد الناصر في التاسع من يونيو 1967، عقب الهزيمة التي مُني بها الجيش المصري، ومؤيدة للقائد المهزوم.

فعلى الرغم من عمق المأساة وفداحة الحدث، شكّلت تلك التظاهرات حدثاً استثنائياً، عصياً على الفهم، فكيف يمكن لهزيمة عسكرية ثقيلة أن تتحول لشرعية جديدة للنظام، ورافضةً لتحمله المسئولية.

الأمر الذي يُوجب علينا طرح عديد من التساؤلات؛ هل كانت تلك التظاهرات ضمن حالات التعبئة التي يقوم بها الاتحاد الاشتراكي، أم كانت عفوية مُطلقة؟ هل تشكّل لدى تلك الجموع واعياً كافياً بحجم الكارثة أم حرّكتها العاطفة الجارفة وأعمتها عن النتائج؟

يطرح الدكتور «شريف يونس» في كتابه «الزحف المقدس: مظاهرات التنحي وتشكل عبادة ناصر»، رؤية جديدة لا تنفي عن تلك التظاهرات العفوية أو تحصرها في المحرك الخارجي وحده، ولكن تؤكد أنها عفوية ابنة التعبئة التي لعبت على التراكم. وقد شكّلت الأيديولوجية المُحرِّك الرئيسي لعقول الجماهير وعواطفهم، بما يُفسِّر تفاعلهم على هذا النحو الغريب في تاريخ الهزائم الكبرى، التي جعلت من المصريين فاعلاً ومفعولاً به في نفس الوقت. وكمحصلة نهائية لعمل أجهزة الدولة السياسية والأيديولوجية، لا كمحصلة مؤامرة دبّرها الاتحاد الاشتراكي في بضع ساعات كما يعتقد البعض. فقد لعب خطاب التنحي على هذا الكم المتراكم وأجاد توظيفه في اللحظة المناسبة.

الفراغ السياسي وتأميم الرأي

قدّم الضباط الأحرار أنفسهم كسلطة للشعب، ومع حل الأحزاب السياسية تولّدت حالة من الفراغ السياسي، فكان لا بد للنظام الجديد أن يبدأ في خلق أدواته واحدة تلو الأخرى، لملء تلك الحالة، فتشكلت «هيئة التحرير» و«الاتحاد القومي» و«الاتحاد الاشتراكي»، كمنافذ لتوجيه الأفراد لكي يعملوا تحت سيطرة الدولة من جهة، وكمسألة جوهرية تقضي على عزلة النظام من جهة أخرى.

ففي المجال الصحفي، اتخذت وسائل الإنتاج الأيديولوجي أشكالاً متعددة، منها الرقابة المُركّبة؛ فإضافة لنشر ما تريده السلطة، تُرَسل نسخة من المواد المحذوفة لوزارة الداخلية، الأمر الذي كان مصدر إرهاب للصحفيين في ظل تعطيل العمل بالقانون وتفعيل الأحكام العرفية.

وكان عام 1954 عاماً حاسماً، حيث تقرر إغلاق عديد من الصحف، ولم يبق إلا جريدة الاخبار الموالية، والأهرام المحافظة، والجمهورية الممولة من الضباط الأحرار.

ولقد لعب الصحفي المصري الأستاذ محمد حسنين هيكل دور مخلب القط في تقليم أظافر الصحافة، حيث اتهم الصحفيين المُطالبين بحرية الصحافة بأنهم يحصلون على مصروفات سرّية من الحكومات المهتمة بنشر الأكاذيب، وإن كل تلك الدعوى المُطالِبة بحربة الصحافة ما هي إلا مجرد أكاذيب مُصطنعة ورخيصة، وتحت طائلة تلك الاتهامات، تقرّر وضع رقابة مالية على الصحف، وأُخضعت الصحافة للوصاية، باسم الوطنية أيضاً.

وفي هذا الشأن لم يختلف الفن أو الجامعات كثيراً عن تلك الوسائل التي اتبعت مع الصحافة، ففي الجامعة تم طرد 60 أستاذاً، من المشكوك في ولائهم. وفي الفن، كان يتم تمويل الأعمال الفنية بقدر رضاء السلطة عنها، لا بقدر اهتمام الجمهور، وذلك في إطار محددات أيديولوجية معينة. وبهذه الطريقة توصّدت الأبواب أمام العاملين في الحقل الفني، إلا من خلال العمل طبقاً لتلك المعايير المفروضة على الفن، ولم يجد الجمهور إلا تلك الوجبة الإجبارية من الفن كما في السجون، وسوف يُقنِع المسجون نفسه تدريجياً أنها وجبة لذيذة.

هكذا عملت وسائل الإنتاج الأيديولوجي على إعادة تشكيل الوعي في «زحفٍ مقدس» نحو هدف واحد.

مكاسب الشعب في ظل السياسة الاجتماعية

تمحورت السياسية الاجتماعية في عهد عبد الناصر حول فكرة واحدة، مفادها خدمة الجماهير أو ما يُعرَف بمكاسب الشعب، مع استقلال كامل عن أي دور سياسي تشارك فيه تلك الجماهير، وعلى سبيل المنحة لم يكن أمام الممنوحين إلا الشكر والمطالبة بالمزيد.

وقد أعلن عبد الناصر مراراً، إن السياسة ليست هي الكلمة البرّاقة أو الوعود الجميلة، بل العمل والإنتاج وإقامة الخدمات لهذا الشعب. فشرّع النظام قانون الإصلاح الزراعي والخطة الخمسية، وافتتح عديداً من المصانع التي استوعبت مزيداً من العمال، حتى وإن كانت فوق طاقتها الاستيعابية. وعلى الرغم من الفساد الإداري والعشوائية في إدارة المشروع الاقتصادي، فإنه دعّم شعبية النظام عند قطاعات لا بأس بها، ومثّل تعبئةً من نوع جديد.

وطنية العزة والكرامة ومحاربة الاستعمار

أمّا على المستوى المعنوي، فلقد ارتبطت البطولة والوطنية بالعزة والكرامة ومجابهة قوى الشر والنظام الاستعماري، ساعد على ذلك تنامي الشعور الوطني بالفخر، بخاصة بعد 72 عاماً من الاستعمار.

ولقد كانت حرب السويس أو ما اصطلح عليه بـ«العدوان الثلاثي»، ركيزة أساسية، لتأسيس شرعية جديدة للنظام، قائمة على العزة والكرامة، أو كما وصفها «مصطفى أمين»:

لم يعد أحد يتكلم عن سياسة الحكمة والروية ونصف الرغيف خير من لا شيء. إن الشرف لا يحتمل أنصاف الحلول.

وبهذا اختصرت أيديولوجية الزحف المقدس الشعب بمجمله في سلطة الحاكم، وطرحت الاشتراكية هذه السلطة، على أنها سلطة الشعب الفقير ضد حكم الطبقة. وقدّمت الأيديولوجية الوطنية البطولة والتحرر الوطني تحت شعار شعبوي، جوهره الغزة والكرامة. وتم اختزال المنظومة ككل في شخص القائد المُعلم بطل الفقراء والتحرر الوطني، الذي وحّد الثورة والشعب المصري والعربي في شخص واحد كمنحة قادمة من السماء، أو كما قال «حسين الشافعي»:

أيها السادة… الله يعلم حيث يجعل رسالته.

ولقد أعطتنا بداية أزمة 1967 عديداً من المؤشرات لحصاد تلك الأيديولوجية المتراكمة، حيث سارعت الفئات المختلفة للاشتراك والإعراب عن حماس مُنقطع النظير لتأييد النظام ومؤازرته في مواجهة قوى الشر الخارجي، فأعلن الأزهر الجهاد المقدس، واشترك الطلبة والفنانين في المجهود الحربي، ولم تشهد البلاد حالة من الحشد كتلك الحالة السابقة على النكسة، إلى أن بدأت أنباء الهزيمة في التداول وحطمت وعود النصر المؤزّر على صخرة الحقيقة.

ثم جاءت لحظة إلقاء خطاب التنحي كلحظة استثمار لهذا الميراث الأيديولوجي المتراكم عبر عقد ونصف من الزمان، لزعيم مثّل في نظر شعبه آمال المستبد العادل، الذي يدور في فلك أسلافه من المستبدين. فالتاريخ كما يقول «كارل ماركس» يُخيِّم فوق رؤوس الأحياء كالكابوس لا فكاك منه.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.