في هذه الصورة مات شخصان، شخص تلقى الرصاصة في رأسه، ومن ألقى بها في رأس الرجل. أما أنا فقد قتلت الجنرال الذي ألقى بها في رأس الرجل بعدستي.

كانت هذه كلمات مصور الأسوشيتد برس إدي آدامز، حين اقتنص الصورة التاريخية القاسية، في حرب فيتنام لجنرال أمريكي.

كانت هذه الصورة في أول فبراير/ شباط عام 1968 ذات صدى هائل في الرأي العام الأمريكي المعارض أصلًا للحرب وفي توقيت قاتل بعد أيام من أخبار هجوم التيت الذي قامت به قوات الفيتكونج. وعلى الرغم من فشل الهجوم بالأساس عسكريًا لكن كان له أثر معنوي هائل.

بخاصة أنه كان بعد أيام من تصريحات الرئيس الأمريكي، آنذاك، ليندل جونسون التي أعلن فيها السيطرة على الأوضاع في فيتنام.

وجاءت صورة إدي أدمز التي حصلت على جائزة بوليتزر واعتبرت من أكثر الصور تأثيرًا في التاريخ. لتوجه ضربة قاصمة لاستراتيجية الحرب الأمريكية في فيتنام. بعد أن طرحت الصورة تساؤلات عن مشروعية الحرب وأخلاقياتها.

ففي الحروب غير المتماثلة عمومًا، وهو النمط الاستراتيجي العسكري الذي اتخذته المقاومة، بأنواعها المختلفة ويقصد به الحرب بين جيش نظامي ضد قوات غير نظامية كحركات تمرد أو حركات مقاومة شعبية أو ميليشيات مسلحة أو جماعات وأحزاب تمارس الإرهاب «كوصف عسكري وليس قانوني».

خصوصًا في العصر الحديث عصر الميديا والسوشيال ميديا. هناك دائمًا قوة كبيرة للصورة، Power of Image، كسلاح له أهمية استراتيجية كبيرة في هذا النمط من الحروب حيث استهداف مركز ثقل العدو الأساسي يكون من خلال استهداف الرأي العام الداخلي أو العالمي وليست القوة العسكرية للعدو/ الجيش النظامي فقط الذي لا يؤثر فيه عادة حجم الخسائر البشرية والمادية، لكن عادة هناك تأثيرًا هائلًا نفسيًا وإعلاميًا للصورة عمومًا في هذا النوع من الحروب.

ويكون ذلك التأثير لتحقيق هدفين أساسيين:

الهدف الأول نشر صور الضحايا المدنيين للضغط على العدو من خلال حشد الرأي العام لإدانة استخدام القوة المفرطة تجاه المدنيين. مثلما فعلت المقاومة العراقية في الفلوجة في حربها الأولى، والدور الخطير الذي قامت به قناة الجزيرة في نقل أثر الحرب على المدنيين ونقل صور القتلى من الضحايا والمصابين مما أثار الرأي العام العراقي بشكل عارم حتى من التيارات المؤيدة للاحتلال وقتها إضافة إلى الرأي العام العالمي كما ذكر جون سبنسر في مقال في معهد دراسات الحرب الحديثة عن حرب الفلوجة. وكذلك الحرب الفيتنامية كما ذكرنا عن تأثير صورة إدي آدمز.

في حرب غزة عانت المقاومة كثيرًا في بداية الحرب من استخدام الصورة بشكل سلبي حيث نُشرت صور لاستهداف مدنيين في معركة يوم السابع من أكتوبر، ومن ادعاء وسائل إعلام عالمية أن المقاومة قتلت مدنيين بشكل متعمد منهم أطفال ونساء، ونُشرت مشاهد لجثث محروقة، وجثث تم التمثيل بها إضافة إلى أسرى الرهائن من المدنيين.

ثم انقلب الحال بعد ذلك من خلال تراجع المسؤولين الأمريكيين عن مسألة قتل الأطفال. وسيتبين لاحقًا من تقرير نشرته صحف إسرائيلية نفسها أن معظم الضحايا المدنيين قُتلوا عن طريق الخطأ من نيران المروحيات الإسرائيلية. إضافة إلى شهادات ناجين أكدت أن كتائب القسام لم تتعمد قتل المدنيين وأحسنت لكثير من الأهالي الذين كانوا تحت سيطرتها أثناء اقتحام المستوطنات.

وكان الدعم الكبير من آلة السوشيال ميديا للشباب العربي والإسلامي، وحركات اليسار في أوروبا وأمريكا عاملًا حاسمًا في تغيير صورة المقاومة لدى الرأي العام العالمي بشكل أثار غضب وإحباط الساسة الإسرائيليين، ووضعت الإدارة الأمريكية في حرج كبير.

أما الهدف الثاني من أهداف استخدام سلاح الصورة، هو إظهار الجيش النظامي أنه يخسر الحرب أو غير قادر على تحقيق أهدافه العسكرية من خلال تضخيم الصورة الإعلامية لإنجازات أي حركة مقاومة بشكل يوحي للرأي العام العالمي عدم جدوى العمل العسكري. وهو أمر خطير للغاية فقد كان للصورة الشهيرة مثلًا في نهاية حرب فيتنام لأعضاء السفارة الأمريكية وهم يلحقون بالهليكوبتر على سطح مبنى السفارة أثر يعادل تأثير قنبلنة، وقد جسد الفيلم الوثائقي (Last Days in Vietnam) الأيام الأخيرة في فيتنام للمخرج الأمريكي روري كنيد أثر هذه الصورة الهائل في توثيق الهزيمة الأمريكية في حرب فيتنام.

كذلك صورة الجنود الأمريكيين المسحولين في الصومال كان لها الأثر الأكبر في هزيمة القوات الأمريكية في القرن الأفريقي. 

وفي حرب غزة استطاعت المقاومة ببراعة غير عادية توظيف قوة الصورة لاستعراض القوة وتضخيم الإنجاز العسكري وتوثيقه على الأرض من خلال فيديوهات الكمائن العسكرية ضد القوات الإسرائيلية، وتدمير وإصابة الآليات المتوغلة لضرب سردية العدو بالنجاح في توغله البري.

لكن كان لمشاهد تسليم الأسرى في قلب مدينة غزة في شمال القطاع، وبعد استعراض عسكري مهيب للقسام في شمال غزة حيث الجهد العسكري الإسرائيلي الأساسي ضد المقاومة، وبعد ادعاء قيادات الجيش الإسرائيلي بالنجاح في السيطرة على الشمال تمامًا ونزع سيطرة المقاومة منه عسكريًا وسياسيًا أثر كبير للغاية على الرأي العام الإسرائيلي.

وكان أثر هذه المشاهد يعادل تقريبًا أطنانًا من المتفجرات ألقيت على رأس نتنياهو وحكومته وقيادات جيشه، فانهال سيل من المقالات الغاضبة والمحبطة اليوم في الصحف الإسرائيلية تفاعلًا مع هذه الصور والمشاهد لاستعراض القسام، فذكر موقع والا العبري: أن استعراض حماس يوم أمس في شمال غزة وضع إصبعًا في عين إسرائيل.

وذكرت صحيفة هآرتس أن حماس نجحت في إظهار أنها لم تهزم في شمال قطاع غزة، حتى لو كانت سيطرتها هناك قد تضررت.

أما يديعوت أحرونوت فقالت في ما يتعلق بهدف الإطاحة بحكم حماس: الجيش الإسرائيلي لا يزال يواجه تحديات صعبة، ولم تطأ أقدام المقاتلين فعليًا 80% من أراضي القطاع بأكمله.

وقالت أيضًا: الواقع يقول، إن حماس لا تزال تتمتع بوجود عسكري في المنطقة الشمالية على عكس تصريحات الجيش، فبعد الإفراج عن الدفعة الثالثة من الأسرى الإسرائيليين، كان مقاتلو حماس يتجولون في شوارع غزة بشكل علني، لقد فعلوا ذلك في مناطق وصل لها الجيش الإسرائيلي خلال المعارك البرية.

الخلاصة أن المقاومة حتى الآن نجحت نجاحًا عسكريًا مهمًا بلا شك في سياق النمط الاستراتيجي الذي اتخذته في الصراع وهو الحرب غير المتماثلة، ونجحت نجاحًا مبهرًا في إدارة كافة عناصر هذه الاستراتيجية بشكل يُدرس، من استنزاف العدو من خلال كمائن واستدراجه لأرض قتال في شوارع غزة، ومن توظيف الصورة كسلاح قوي وفعال للتأثير على الرأي العام العالمي والجبهة الداخلية في إسرائيل.

ولو كانت المقاومة تمتلك أفقًا سياسيًا أوسع، ودعمًا سياسيًا أعمق من دول الجوار أو إيران، لكانت هذه الحرب أول هزيمة تاريخية لإسرائيل مكتملة الأركان.