في الجنوب الشرقي للقارة الأفريقية، تقع إريتريا. بلد مغلق صغير الحجم حصل على استقلاله عن إثيوبيا عام 1991 بعد خوضه حربًا دامية استمرت ثلاثين عامًا. سرعان ما وجد البلد الصغير نفسه واقعًا في شِباك نظام ديكتاتوري بقيادة أسياس أفورقي منذ عام 1993. أدار هذا النظام البلاد بقضبة من حديد، وقام بالتضييق على الحريات لدرجة أنه طيلة الأعوام الستة والعشرين التي حكم فيها هذا النظام، لم تتحرّك مظاهرة واحدة ضده.

لكنّ الأحداث الأخيرة التي شهدتها مدينة أسمرا عاصمة إريتريا تستدعي البحث في مدى شرعية هذا النظام. ففي يوم الثلاثاء الموافق 31 أكتوبر/تشرين الأول 2017، نظّم طلاب وأولياء أمور مدرسة «الضياء الإسلامية» احتجاجات ضد الحكومة الإريترية على خلفية اعتقالها أربعين شخصًا من أعضاء مجلس إدارة المدرسة، وعلى رأسهم رئيس مجلس إدارتها الشيخ موسي محمد نور البالغ من العمر 90 عامًا، بسبب رفضهم الاستجابة إلى مطالب الحكومة الإريترية بشأن إسقاط التعاليم الدينية في المدرسة وحظر الحجاب ووقف الفصل بين الجنسين.


جرائم بحق الإنسانية

إريتريا دولة مستبدة ليست لديها سلطة قضائية مستقلة ولا برلمان ولا مؤسسات ديمقراطية، وهناك حالة إفلات من العقاب للجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب منذ ربع قرن.
مايك سميث، رئيس لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في إريتريا

تعد إريتريا من أسوأ الدول انتهاكًا لحقوق الإنسان، فوفق ما أشار إليه تقرير صادر عن لجنة الأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان في إريتريا لعام 2016، فإن هناك جرائم ترتكب بحق الإنسانية منذ الاستقلال الإريتري عام 1991. ومنها جرائم الاسترقاق إذ استعبد النظام، وفق تقدير التقرير، نحو 400 ألف مواطن إريتري، إلى جانب الاعتقالات التعسفية والاختفاءات القسرية وأعمال التعذيب والاضطهاد والقتل والاغتصاب التي ارتكبت بدافع ردع المعارضة وإثارة الخوف في نفوس السكان المدنيين، وبالتالي ضمان السيطرة عليهم. الأمر الذي يمثل السبب الكامن وراء ندرة المظاهرات التي تُقام ضد النظام الإريتري بالشكل الذي يجعل مظاهرة مدرسة «الضياء الإسلامية» الأولى من نوعها منذ 26 عامًا ضد النظام الحاكم.

وقد أوصت اللجنة مجلس الأمن الدولي بإحالة ملف حقوق الإنسان في إريتريا إلى المدعي العام في محكمة العدل الدولية ورغم ذلك لم تكن تلك الانتهاكات السبب في فرض مجلس الأمن للعقوبات على إريتريا منذ عام 2009، بل اتهامها بمساندة «حركة الشباب الصومالية» هو السبب الرئيسي في ذلك.

وفي 14 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، قرر مجلس الأمن الدولي تمديد العقوبات الدولية المفروضة على إريتريا منذ عام 2009 لمدة عام. وجاء هذا القرار خلال جلسة عامة لمناقشة تقرير فريق الرصد التابع للجنة مجلس الأمن المتعلقة بالصومال وإريتريا. وتتمثل تلك العقوبات في حظر توريد الأسلحة، وتجميد الأصول ووضع قيود على سفر قادة البلد من دون تسميتهم.


مظاهرة انقلبت إلى تمرد

جاءت مظاهرة مدرسة «الضياء» كوسيلة للتعبير عن استياء الطلاب وأولياء أمورهم من تدخل الحكومة في شئون المدرسة، ولكن قوات الأمن كانت الأقدر في تلك المعادلة، إذ قامت بإطلاق النار على المتظاهرين لتفريقهم حتى سقط 28 قتيلاً، يوم الأربعاء الأول من نوفمبر/تشرين الأول، وأصيب أكثر من مائة شخص بجروح جراء تلك الاحتجاجات التي بدأت يوم الإثنين وتصاعدت يوم الثلاثاء وفق ما نقلته وكالة أنباء «أسوشييتد برس».

وبحسب وكالة أنباء إريترية، فإن هذه المظاهرة تلاها تمرد من قبل جيش قوامه 300 جندي مسلح،إذ اختلف هؤلاء الجنود مع قائدهم فطلبوا مقابلة رئيس الدولة «أسياس أفورقي»، فاستجاب لهم وأتاهم إلى معسكرهم إلا أنه فوجئ بالهتافات المضادة ضده من قبل الجنود لذا أمر بمحاصرتهم بقوات من الجيش مزودة بمختلف الأسلحة. ويذكر أن هذا التمرد كان معظمه من قبل خريجي معسكر «ساوا» الذين يعانون من قلة المرتبات وسوء مستوى المعيشة وقسوة الضباط المديرين.

والجدير بالذكر أن هذا لم يكن التمرد الأول على النظام الحاكم في إريتريا، فقد سبق هذا ثلاثة تمردات من قبل عناصر من الجيش الإريتري. كانت العملية الأولى في عام 1994، عندما قام عسكريون، تم تسريحهم من الجيش، بحصار قصر الرئاسة واقتادوا الرئيس حينها إلى ساحة القصر الخارجية وتلو عليه بيانًا مطالبين فيه بتحسين أوضاعهم وبعد تسويات وتفاهمات تدخل فيها كبار قادات الجيش تم إنهاء التمرد مع الوعد بتحقيق مطالبهم، لكن «أفورقي» خان العهد حينها واعتقل قيادات التمرد وزج بهم في السجون ولم يُعرف مصيرهم منذ ذلك الوقت. أما التحرك الثاني فكان في عام 2001، قاده 15 شخصًا من القيادات العليا من ضمنهم نائب الرئيس وأربعة وزراء طالبوا «أفورقي» بإجراء انتخابات حرة نزيهة وتطبيق الدستور ومحاسبة المتسببين في الحرب مع إثيوبيا، الأمر الذي اعتبره مراقبون التحدي الأخطر على الإطلاق الذي واجهه «أفورقي» لأن في هذه المرة كان الانقلاب من زملائه. ولكن بعد شهرين من هذا الحراك تمكن أفورقي من حسم الصراع لصالحه، بشنه حملة اعتقالات واسعة بتهمة التآمر مع قوى أجنبية على قلب نظام الحكم.

وفي عام 2013، حدث «انقلاب التلفزيون» إذ سيطر عسكريون متمردون على مبنى الإذاعة والتلفزيون، وحاصروه بالدبابات بعد أن اقتحمه في وقت سابق مائتا عسكري متمرد، واحتجزوا الموظفين رهائن. وأجبروا مدير التلفزيون على قراءة بيان يطالب بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين وتفعيل الدستور الإريتري إلا أنهم ما غادروا المبنى بعد تفاهمات دارت بينهم وبين النظام.


وأد الحراك الشعبي

ردًا على مظاهرة الطلاب في «أسمرا» ومظاهرات الإريتريين الموجودين في دول مختلفة وخوفًا من تكرر تجربة المظاهرات في مدن أخرى داخل الدولة، قام النظام بحملة تجنيد شاملة لم تستهدف الشباب فقط، وإنما شملت فئات أخرى تجارًا وكبار سن، فضلاً عن مصادرة أموال بعض التجار وإغلاق محلاتهم التجارية بعد تجريد ومصادرة سلعهم دون توجيه أي تهمة لمُلاكها.

أما على مستوى الخارج، توجه النظام إلى إرسال وفود تطوف على عدد من الدول في مهرجانات راقصة لجمع الأموال لصالح النظام، ومنها ذلك المهرجان الراقص الذي شهدته جدة في الفترة من الأول إلى الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري الذي شارك فيه وفد عالي المستوى ضم محمد سعيد، سكرتير الجبهة الشعبية للديموقراطية والعدالة، ومثل ذلك في حفل مشابه بالعاصمة السعودية الرياض في الفترة من 8 -11 نوفمبر الجاري حسب الدعوة المقدمة إلى الجالية الإريترية بالمملكة العربية السعودية، والذي بنحوه تقرر فيه أن تكون رسوم المشاركة في الحفل ما بين 25 – 50 ريالا سعوديا للشخص الواحد، وذلك في محاولة من النظام الإريتري في التغطية على ما يحدث داخل البلاد.


الحرب على جبهات

رغم ما أشعلته المظاهرة في نفوس العسكريين من التمرد على نظام «أفورقي» إلا أن النظام نجح في إخماد كل منهما.

لا يحارب النظام الإريتري شعبه في الداخل فحسب لمواجهة أي محاولات لإسقاط هذا النظام، بل إنه أيضًا يتورط في حربي اليمن مقابل المال الإماراتي. تستخدم الإمارات والسعودية ميناء «عصب» الإريتري في حربهما ضد الحوثيين في اليمن، كما يقاتل في تلك الحرب نحو 400 جندي إريتري. فالإمارات قد وقعت اتفاقًا مع إريتريا يسمح لها باستخدام ميناء ومطار عصب على البحر الأحمر لمدة 30 عامًا، وينص الاتفاق على أن تدفع مؤسسة الموانئ والجمارك الحرة في دبي للسلطات الإريترية مقابلاً سنويًا، علاوة على 30% من دخل الموانئ بعد تشغيلها.

النظام الإريتري واقع بين تورطه في الحرب ضد الحوثيين في اليمن، وتزعزع علاقاته مع جيبوتي وتجدد العقوبات من قبل مجلس الأمن.

وإلى جانب الميناء،حصلت الإمارات على مطار يمكن لطائرات النقل الكبيرة استخدامه في الإقلاع والهبوط. وقد نجحت الإمارات والسعودية في استغلال ميناء وقاعدة عصب في عميلة «السهم الذهبي» عام 2015 بشكل فعال للغاية.

وربما هذا هو ما يبرر تورط الإمارات في خرق حظر نقل معدات عسكرية وتبادل المساعدات العسكرية مع إريتريا على الرغم من قرار الأمم المتحدة بشأن تجديد العقوبات على إريتريا.

ولعل تلك العلاقة القوية والمصالح المشتركة التي تربط كلاً من الإمارات والسعودية بإريتريا، السبب وراء انحياز إريتريا في الأزمة القطرية-الخليجية إلى دول الحصار، إذ قامت بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر إرضاءً لهما على الرغم من الدور الذي لعبته قطر كوسيط في النزاع الحدودي مع جيبوتي، الذي اندلع في نيسان / أبريل 2008، إذ نشرت قطر حينها قوات حفظ سلام بنحو 200 من قواتها على طول الحدود بين إريتريا وجيبوتي.

ولكن مع قطع إريتريا علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، قامت قطر بسحب قواتها في 12 و13 يونيو/حزيران لهذا العام، وعلى إثر ذلك اتهمت جيبوتي الإريتريين بنقل قواتهم إلى الأراضي المتنازع عليها. الأمر الذي دفع سفير إريتريا لدى الاتحاد الأفريقي في الرابع من يوليو 2017، إلى دعوة قطر إلى التوسط مع جيبوتي مرة أخرى حول الخلاف الحدودي بين البلدين.

الخلاصة، رغم الجبهات التي يحارب فيها النظام الإريتري إلا أنه ما زال مُمسكًا بزمام الأمور على المستوى الدخلي، أما على المستوى الخارجي فما دامت المصالح المشتركة مستمرة وتجري على النحو المخطط له سيكون النظام الإريتري في مأمن بصرف النظر عن رضاء الشعب الإريتري عن ذلك من عدمه.