حين يتحول المتهم الأول في قضية دولية خطيرة إلى شاهد، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو عقده صفقة مع المحكمة أو جهاز استخبارات الدولة التي تحاكمه، وهذا على ما يبدو ما حصل مع رجل الأعمال التركي من أصل إيراني – أو الإيراني الحامل للجنسية التركية- «رضا ضرّاب».

وإذا كان الرجل مطلوبًا للولايات المتحدة وثمة إشارات على ملاحقتها لنشاطه التجاري منذ سنوات، ثم يذهب لها برجليه مختارًا، في نزهة إلى «ديزني لاند» فإن ذلك يرفع من سويّة الشكوك ويغذّي نظرية المؤامرة، ويدفع للبحث في القضية من بداياتها.


من هو رضا ضراب؟

رضا ضَرَّاب (وتلفظ زَرَّاب) هو مواطن إيراني من أصول آذرية. ولد في إيران في 13 تموز/يوليو 1983 وعاش فيها سنة ونصف السنة. سافر مع عائلته إلى أذربيجان حيث تلقى تعليمه الأساسي بها، وقد عاش مع عائلته فترة من حياته في الإمارات العربية المتحدة قبل أن ينتقل إلى إسطنبول عام 2006 ويستقر بها.

يحمل رضا جنسية كل من إيران وتركيا ومقدونيا وتعتبر التركية لغته الأم. وقد انخرط باكرًا في النشاط التجاري الذي تعمل به عائلته الميسورة، ونشط في مجالات الذهب والنفط والنقل البحري والصرافة وضخّم من ثروته بشكل ملحوظ.

الجانب غير المعروف من رجل الأعمال فاحش الثراء هو اهتمامه بالغناء والموسيقى من باب التأليف والتلحين، حيث تعاون مع مطربين أتراك مشهورين مثل «إبراهيم تاتليسيس» و«سيبال جان»، ثم «إيبرو غونداش» التي تزوجها عام 2010 وأنجب منها ابنتهما ألارا. وقد تعرف الجمهور التركي على الرجل من هذه الزاوية وبات موضوعًا متكررًا في صحافة الفن التي طالما تناولت الهدايا باذخة الثمن التي يقدمها لزوجته في المناسبات المختلفة.

حصل رضا على الجنسية التركية وحول اسمه إلى رضا صَرَّاف، ثم بات في بؤرة الاهتمام حين أوقف مع آخرين على ذمة قضايا فساد مالي في كانون الأول/ديسمبر 2013، وهي الحادثة التي سميت لاحقاً بـ«الانقلاب القضائي» باعتبارها من تخطيط وتنفيذ جماعة فتح الله كولن المتغلغلة في مؤسسات الدولة بهدف إسقاط الحكومة عبر اتهام عدد من الوزراء، وهي الاتهامات التي كان يفترض وفق المخطط أن تطال في الأسبوع التالي «ابن أردوغان» شخصيًا. خرج ضراب بعد 70 يومًا وتمت تبرئة ساحته لاحقًا وعاد إلى نشاطه التجاري بشكل شبه معتاد، حتى آذار/مارس 2016.


الصفقة

تشير التسريبات المتعلقة بقضية ضراب إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تتعقب نشاطه المتعلق بكسر الحظر الأمريكي الاقتصادي على إيران، وأنها أوقفت له سابقًا عددًا من التحويلات المصرفية، وأنها تواصلت مع بعض المسؤولين الأتراك بخصوصه، ورغم كل ذلك فقد توجه رفقة عائلته إلى الولايات المتحدة في آذار/مارس من العام المنصرم لزيارة «ديزني لاند» كما قال.

حظي توقيف ضراب باهتمام بالغ في تركيا والولايات المتحدة على حد سواء، لدرجة أن المدعي العام الذي أُعد لقضيته وهو «بهارارا» قد غرّد بذلك على حسابه في موقع تويتر. لكن التطور الأهم في القضية كان إيقاف نائب رئيس مصرف «خلق» الحكومي التركي «محمد حاقان أتيللا» في الولايات المتحدة الأمريكية في آذار/مارس 2017 وهو ما نقل القضية لآفاق جديدة، وفتح الباب على مصراعيه على تقبل نظرية المؤامرة وتوريط تركيا.

كان «أتيللا» في زيارة اعتيادية للولايات المتحدة قام بمثلها عشرات المرات خلال السنوات الأربعة الأخيرة للمشاركة في أحد المؤتمرات، وأوقفته السلطات الأمريكية في المطار خلال عودته بعد المشاركة في المؤتمر في 27 من آذار/مارس. ويبدو أن هذا الحادث كان ذا أثر كبير على القضية، حيث أخبر محامو ضراب السلطات الأمريكية نية موكلهم التعاون معها (السلطات)، ثم وقّع في الـ20 من تشرين الأول/أكتوبر الفائت مذكرة التعاون معترفًا بـ«كذبه» سابقًا، وهكذا انتقل الرجل سريعًا في القضية – التي كان فيها المتهم رقم واحد – إلى صفة «شاهد» وخرج من السجن بحماية مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) بينما أصبح «أتيللا» المتهم الأول في القضية.


المحكمة

تتكون عريضة الاتهام الرئيسة التي قدمها المدعي العام للمنطقة الجنوبية في نيويورك من 52 صفحة و104 مواد، وطالت في البداية تسعة متهمين هم بالترتيب: رضا ضراب، ونائب رئيس مصرف خلق محمد حاقان أتيللا، ووزير الاقتصاد التركي السابق ظافر تشاغليان، والرئيس السابق لمصرف خلق سليمان أصلان، وأحد مسؤولي المصرف السابقين لفنت بالكان، وأحد كبار مساعدي ضراب عبدالله حباني، وشقيقه محمد ضراب، ومساعدته كاميليا جمشيدي، وأحد العاملين معه حسين نجفزادة.

تشمل القضية تحقيقات تمت بين عامي 2010 و2015 حول انتهاكات الحظر الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة على إيران، وخُصَّتْ تركيا بالاتهام بالمشاركة في هذا الانتهاك أو الخرق بشراء النفط والغاز من إيران ثم إعادة الأموال لإيران بطرق التفافية. وقد وجهت للمتهمين التسعة (الثمانية بعد تحول ضراب إلى شاهد) ستة تهم رئيسة هي:

الأولى، الاحتيال على الولايات المتحدة وخصوصًا وزارة الخزانة الأمريكية.

الثانية، التآمر/التعاون لانتهاك «قانون القوة الاقتصادية الدولي الطارئ».

الثالثة، الاحتيال المصرفي.

الرابعة، التآمر للاحتيال على النظام المصرفي.

الخامسة، غسل الأموال.

السادسة، التآمر/التعاون لغسل الأموال.

تحول ضراب أو صراف إلى شاهد في الـ 27 من تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، وقدم في الجلسات اللاحقة للمحكمة رواية متكاملة -من وجهة نظره- لعمله في خرق الحظر على إيران، وفق ما سمي لاحقًا بعملية «النفط مقابل الذهب». بحيث تشتري تركيا – وفق روايته – النفط والغاز من طهران، وتضع ثمنهما في حسابات شركة البترول الوطنية الإيرانية (NIOC) في مصرف خلق التركي، ثم ينقل المال إلى مصرف تركي آخر ويودع في حساب مجموعة رويال (ROYAL GROUP) التي يملكها ضراب، ثم يشري بها ذهباً ويُرسله إلى شركته في دبي، حيث يمر المال بعشر خطوات/وسطاء في رحلته إلى إيران أو استعماله في سداد بعض ديونها أو تغطية صفقات لها.

في إفادته التي قدمها للمحكمة، يقول ضراب إنه قدم رشاوى لكل من وزير الاقتصاد السابق «تشاغليان» ورئيس المصرف السابق «أصلان»، وأن الأول وافق على العمل معه بشرط مناصفة الربح بينهما وأنه حصل منه بالنتيجة على ما قيمته 45 مليون يورو و7 ملايين دولار وحوالي 2.7 مليون ليرة تركية.

ورغم أن ضراب أفاد بأن «أتيللا» -المتهم رقم واحد الآن- هو أكثر الأسخاص إلمامًا بموضوع الحظر الأمريكي على إيران وأنه كان -مع رئيسه أصلان- يوجهه لكيفية العمل بشكل سليم لخرق الحظر، إلا أنه أكد أن الرجل لم يحصل منه على رشوة ولم يطلبها أبدًا. بل أقر أن العلاقة بينهما لم تكن يومًا ودية. كما اعترف الرجل بأن عمله تخطى السوقيْن التركية والإيرانية ليشمل الإمارات والصين وهونغ كونغ ودولًا أوروبية مثل بلجيكا وليتوانيا وغيرها، وهو ما يبدو أن حسابات الرجل المصرفية تؤكده.


الأبعاد السياسية

تقوم المقاربة التركية إزاء هذه القضية على مسارين رئيسين، هما:

الأول، أنه لا توجد قضية بالأصل باعتبار أن العقوبات الأمريكية على إيران ليست دولية ولا ملزمة لتركيا، وبالتالي فلم يقترف أي شخص أو مؤسسة تركية جرمًا.

الثاني، أن القضية سياسية أكثر منها قضائية بل مؤامرة تستهدفها هي، بناء على عدة أدلة وقرائن أهمها:

أولًا، غياب إيران أو أي جهة إيرانية (أو من أي دولة أخرى) عن القضية واقتصارها على أشخاص وجهات تركية.

ثانيًا، مشاركة القاضي الذي يدير القضية، «ريتشارد بيرمان» في مؤتمر دولي نظمته جماعة كولن في إسطنبول في آيار/مايو 2014 (بعد شهور قليلة على الانقلاب القضائي) تحت عنوان «دولة العدالة والقانون»، وهو ما يشير إلى علاقة سابقة له معها.

ثالثًا، عرض مكتب التحقيقات الفيدرالي التعاون على «محمد حاقان أتيللا» منذ اللحظة الأولى وتشجيعه على اتهام مسؤولين أتراكًا عبر الإشارة إلى «آخرين لعبوا دورًا أكبر من دورك، وأنت تعرف عنهم معلومات»، وهو ما رفضه الرجل.

رابعًا، انتقال ضراب بسهولة ويسر من موقع المتهم رقم واحد إلى صفة الشاهد.

خامسًا، توجيهه الاتهام لوزير تركي سابق.

سادسًا، عدم طلب المؤسسات الأمريكية تعاون نظيراتها التركية للحصول على الأدلة.

سابعًا، جزء مهم من أدلة القضية عبارة عن تسجيلات صوتية لمكالمات أو رسائل هاتفية أو رسائل بريد إلكتروني لم تشر جهة الادعاء حتى الآن إلى مصدرها وكيفية التأكد من صحتها، سيما وأن قسمًا لا بأس به منها كان متضمنًا في صحيفة إدعاء قضايا الفساد التي رتبت لها جماعة كولن في نهايات 2013.

ثامنًا، فقرة المقدمة في صحيفة إدعاء القضية اعتمدت على “قضايا الفساد” في 2013، والتي اعتبرت أن الحكومة واجهتها بإجراءات سريعة وحازمة أبعدت المدعين العامين والقضاة القائمين عليها، ما اعتبرته أنقرة تحيزاً ضدها وتربصاً بها.

تاسعًا، تضمُّن هيئة الدفاع عن ضراب اسمين بارزين، هما عمدة نيويورك السابق «رودولف جولياني» ووزير العدل الأمريكي السابق «مايكل موكاسي»، واللذان أشارا في إفادتيهما للمحكمة إلى سعيهما للتوصل إلى «اتفاق مع تركيا يحمي المصالح الأمريكية». وقد ذكرت عدة وسائل أمريكية أن الرجلين التقيا مع عدة مسؤولين أتراك في مقدمتهم أردوغان.

عاشرًا، تزامن القضية مع تغيير مستشار الأمن القومي السابق في إدارة ترمب «مايكل فلين» لإفادته واعترافه بالكذب على مكتب التحقيق الفيدرالي فيما يتعلق بالعلاقة مع روسيا، وهو ما قد يفتح الباب على إقحام تركيا في قضيته إذ كانت قد تعاونت مع مكتبه سابقًا في مجال جماعات الضغط أو اللوبيات.

أحد عشر، مشاركة بعض رجال الشرطة المحسوبين على جماعة كولن (التنظيم الموازي) والفارين من القضاء التركي مؤخرًا في القضية كشهود.

وبناءً على هذه الرؤية فقد كانت معظم التصريحات الرسمية التركية تصب في هذا الاتجاه، ومنها تصريح الرئيس التركي عن أن قضية الـ 17 من ديسمبر/كانون الأول 2013 كانت «إحدى أكبر مؤامرات التاريخ» وأنها «تتكرر الآن في الولايات المتحدة»، بينما اعتبر رئيس الوزراء «بن علي يلدرم» أن القضية «محاولة منظمة فتح الله كولن الإرهابية تحقيق ما فشلت به في 15 تموز/يوليو 2016 (الانقلاب) عبر القضاء الأمريكي هذه المرة».

وعليه، فقد فتحت أنقرة تحقيقًا بخصوص ضراب، حيث قرر القاضي وضع اليد على أمواله وممتلكاته وتوقيف عدد من مساعديه للتحقيق معهم، سيما بعد قرائن حول مستوى تعاون ضراب مع السلطات الأمريكية ومنها رسائل ضبطتها السلطات التركية مرسلة منه إلى مساعدته «سينام أرسلان» يطلب فيها منها سؤال محاميه في دبي عن إمكانية انتقاله للعيش فيها بعد انتهاء القضية.


التداعيات السياسية والاقتصادية

ثمة فارق أساسي وجوهري بين تداول القضية في كل من الولايات المتحدة وتركيا. فالقضية في الأولى تتعلق بخرق الحظر الأمريكي، وهي في الثانية قضية رشاوى وفساد مالي ومحاولة لإقحام الحكومة أردوغان بها، كما يتضح من تعامل المعارضة وبعض وسائل الإعلام معها.

وبسبب الأبعاد السياسية الواضحة في القضية، وتحول ضراب إلى شاهد، وارتباطها بالنشاط الاقتصادي، ثمة خشية يبديها الكثيرون من أبعاد القضية على أنقرة اقتصاديًا. بيد أن هذا التقدير يبدو مبالغًا فيه نوعًا ما. ليس فقط لأن المؤشرات الاقتصادية التركية مؤخرًا تبدي تحسنًا ملحوظًا، ولا لأن ضراب لم يتهم حتى الآن أكثر من وزير سابق، ولكن لأن الأضرار الاقتصادية المفترضة من الصعب أن تأتي إلا عبر عقوبات أمريكية مباشرة على أنقرة، وهو أمر مستبعد حاليًا.

لا يعني ذلك أن الأمر مستحيل، بل هو ممكن في ظل تراكم الأزمات وتزامنها بين أنقرة وواشنطن مؤخرًا، بدءًا من الدعم الأمريكي للفصائل الكردية المسلحة في سوريا والمماطلة في ملف كولن، وصولًا لقضية ضراب واحتمالاتها، وبينهما قرار ترمب الأخير بخصوص القدس والسقف التركي المرتفع بوضوح إزاءه. وإذا كانت مكانة القدس بالنسبة لتركيا هي أهم أسباب هذا الموقف التركي المتقدم، فإن أزمة العلاقات التركية الأمريكية تلقي بظلالها بالتأكيد عليه وترفع من سقفه.

التأثيرات المستقبلية للقضية تبدو سياسية بالمقام الأول، فالمحاكمة زاخرة فعلًا بالإشارات السياسية في مجمل مراحلها وشخوصها وتفاصيلها كما سبق شرحه. ولعل التأثير الأكبر والأبرز لها هو الضغط على تركيا وإقحام اسمها في قضية كتلك تحمل إشارات التحايل المالي والفساد وما إلى ذلك. ولعل تغيير كل من فلين وضراب لأقوالهما يعد مؤشرًا مقلقًا لأنقرة على المدى البعيد، بحيث يمكن أن تُقحم أسماء مسؤولين أتراك آخرين في هذه القضية أو غيرها مستقبلًا.

ولعل ذلك مرتبط أيضًا بخطاب المعارضة داخل تركيا التي تحاول استثمار القضية بالحد الأقصى الممكن، فتطالب بإعادة التحقيق مع متهمي قضايا 2013 وعلى رأسهم ضراب (غيابيًا) والوزراء السابقين، بينما يحاول بعض قياداتها ربط القضية بأردوغان نفسه باعتباره كان رئيسًا للوزراء في تلك السنوات.

يغذي ما سبق نظرية المؤامرة التي تعتقد بها تركيا، أي أنها أمام مرحلة جديدة من استهدافها، بعد أحداث «جزي بارك» في أيار/مايو 2013، وقضايا الفساد أو الانقلاب القضائي في كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه، والتحالف ضد العدالة والتنمية في انتخابات حزيران/يونيو 2015، واستئناف حزب العمال الكردستاني لعملياته الإرهابية في تموز/يوليو 2015، ومحاولة الانقلاب الفاشلة في تموز/يوليو 2016.

وفق هذه الرؤية، لم تنجح المحاولات الخشنة والمباشرة في إسقاط أردوغان والعدالة والتنمية، فاعتـُمِدت استراتيجية أخرى عمادها العمل على ضرب سمعتهما وخفض شعبيتهما بشكل تدريجي ومؤثر حتى انتخابات 2019 البرلمانية والرئاسية الحاسمة، أملًا في تقليل فرص أردوغان كشخص والعدالة والتنمية كحزب في الفوز في هذه الانتخابات المصيرية بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات وارتدادات على مستقبل تركيا ومجمل التجربة التركية الحديثة ومسار الحزب وزعيمه أردوغان، الأمر الذي يعني أن القضية قد تكون مفتوحة على مفاجآت غير متوقعة.