يستحق قرار الحكومة المصرية بتقليص مساحة الأراضي المخصصة لزراعة الأرز ومنعها في بعض المناطق كل هذه الضجة والصخب والاستنفار وأكثر. في البداية لا يجب أن ننظر لهذا القرار من زاوية نقص المياه الوشيك الناتج عن تخزين مياه النيل وراء السد الإثيوبي الجديد، ولا يجب النظر إلى الأرز على أنه منتج/ محصول يمكن تنحيته أو الجور عليه لأغراض اقتصادية أو إستراتيجية، ومرد ذلك أن الفجوة التي سيخلفها قرار الحكومة بحظر زراعة الأرز أو تقليل مساحته فجوة خطيرة للغاية، تتعلق بالأمن الغذائي من ناحية، وباقتصاديات الدولة وأوجاعها الاجتماعية من ناحية أخرى التي تخص شريحة هي الأكبر في مصر، شريحة الفلاحين.

تحول الأرز لزراعة ومحصول إستراتيجي بعد انكماش زراعة القطن وربما انعدامها؛ والبديل الذي تنادي به الحكومة وتطالب بزراعته هو القطن، والأخير لم يعد له جدوى وأهمية عند الفلاح وعند الدولة بعدما قررت أن ترفع يدها عن القطن ودعمه وصناعاته، ولن أسهب هنا حول التدهور الذي صحب زراعة القطن، وكيف اندثرت زراعته وصناعته في مصر، وقد تصدى الخبراء والمنخرطون في مجال القطن لهذا كثيرًا، وبالتالي فكان الأرز هو البديل المتاح أمام الفلاح.

أصبح الأرز السلعة الحيوية الأولى كونه الغذاء الأهم للأسر في مصر – ربما تسبق أهميته الغذائية القمح – وزيادة مساحته المنزرعة جاءت للطلب الشديد عليه مع الزيادة السكانية، فتحقيق الاكتفاء الذاتي من الأرز هو من بديهيات الأمن الغذائي.

رغم أن زراعة الأرز تكلف الفلاح الكثير لكنه في النهاية يكون مجزيًا له مقارنة بغيره من المحاصيل الصيفية مثل الذرة الشامية مثلًا، ويغطي بقية تكاليف السنة الزراعية، ويحقق للفلاح بعضًا من الفائض والربح المادي.

أصبح للأرز سلالات متنوعة ذات عمر قصير في الأرض واستهلاكها للمياه أقل، رغم كل الدعاوى التي تقول إن الأرز يستهلك مياهًا كثيرة وهي صحيحة في أغلبها، فإن زراعة الأرز التقليدية تحتاج للمياه فترة ثلاثة أشهر فقط، ولحسن الحظ تكون متزامنة مع فيضان النيل.

الشريط الساحلي الشمالي الممتد من دمياط والمنزلة شرقًا حتى الإسكندرية غربًا، مرورًا بالدقهلية وكفر الشيخ والبحيرة، شريط زراعي كبير جدًا لكن ذات أرض مالحة إلى حد كبير، ودون زراعة الأرز تفقد هذه الأرض جزءًا كبيرًا من خصوبتها، بالإضافة إلى طفح الملح على سطحها، وأن إنتاج المحاصيل الصيفية الأخرى ضعيف فيها. وتفيد الأرقام بأن هذا الشريط ذات إنتاجية مثالية لمحصول الأرز خاصة أن الجو هناك رطبًا طوال أيام الصيف مما يناسب زراعته.

بقية أراضي الدلتا حتى شمال الصعيد دومًا بحاجة لزراعة الأرز كي يخلصها من الملوحة الزائدة، بالإضافة إلى أن الفلاحين يفضلون زراعة البرسيم بعد الأرز لأن إنتاج الأول في أرض الأرز وفير.

الحكومات حتى الآن غير قادرة على إيجاد بديل للأرز والقطن بنفس الأهمية للفلاح والاقتصاد، حتى محصول الذرة غير اقتصادي للمزارعين، والفلاحين يزرعونه لأجل مواشيهم واستخدامهم الشخصي وليس لغرض تجاري واقتصادي.

تظهر صعوبة القرار الحكومي على الفلاحين المتضررين من حظر الأرز من خلال قبولهم المبدئي بشح المياه وموافقتهم على تقليص أيام مناوبات المياه في الترع والقنوات واستكمال ري الأرز بالمياه الجوفية، وللعلم فإن العديد من الأحواض الزراعية في محافظات الدلتا والوادي لا تصلها الترع والقنوات وتعتمد على المياه الجوفية اعتمادًا كليًا، وبالتالي فالفلاح مستغنٍ عن خدمات الدولة فيما يخص الأرز، خاصة وأنها لا تدعم زراعته بالأسمدة أو شراء المحصول مثل القمح مثلًا، وبالتالى فالأرز خارج عن أعباء الدولة كلية.

الفكرة الشائعة التى تقول إن الأساليب الحديثة للري والزراعة مثل الصوب والأنفاق والري بالتنقيط ضرورية لمواجهة أزمة المياه، هي تعميم فضفاض يتجاهل الظروف الخاصة بمعطيات الزراعة، مثل نوعية التربة والملكيات الصغيرة للأراضي والتكاليف المرتفعة للنظم الحديثة ونوعية المحاصيل التى تُزرع.. فمثلًا العديد من الأراضي الزراعية التي اُستخدمت فيها الزراعة بالصوب والأنفاق (وهي زراعة تنتج خضراوات وفواكه ولا تنتج محاصيل) والري بالتنقيط ارتفعت ملوحتها وتأثرت خصوبتها لأنها بحاجة مستمرة للغمر بالمياه، وإن كان البعض يرى أن الأرض الطينية السوداء كنز حقيقي على أرض مصر، وكلما غُمرت بالماء واكتست بالشمس والهواء تدوم وتنتج، فيجب حمايتها من أي محاولات تخل بقدرتها وكفاءتها الخصبة، لأنه لا يمكن تعويضها بعكس الأراضي الرملية الجديدة.

فكرة أن الحكومة تكمل احتياجها من الأرز بعد تقليص مساحته بالاستيراد مثل القمح فكرة قائمة على مغالطات كبيرة؛ لأن الأرز المستورد ليس بنفس نوعية المصري، وبالتالي سيبقى العجز قائمًا لأن الطلب على الأخير سيزيد، مما يؤدي لرفع سعره بطريقة جنونية – بمجرد صدور القرار الحكومي ارتفع سعر الأرز بالأسواق بنسبة تقرب من الـ50% – فالأرز ليس كالقمح تستطيع إدخاله بالمطاحن مع القمح المحلي، وبالأخير تنتج الدقيق المطلوب، فالأرز سلعة مستهلكة في شكلها الخام.

بقي أن نؤكد على أن القرار الحكومي سيؤثر على نصف مليون فلاح سلبًا بأسرهم ودخلهم ومعيشتهم، بالإضافة إلى تأثر العمالة اليدوية المشتغلة بالأرز، وهذا القرار من شأنه أن يجعل العديد من الأراضي الزراعية خالية من الزرع (بور) طوال أشهر الصيف خاصة الأراضي المستأجرة، والتي لا يقدر مُلّاكها على الزرع في ظل عدم قدرة المحاصيل الأخرى على تسديد نفقات الإيجار.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.