لقد كان من بين أعظم جواسيس القرن، ومع ذلك فإن أسياده لم يستخدموا أو يصدقوا مادته الاستثنائية لأنهم كانوا مشغولين للغاية في فوضى جنون العظمة الستالينية والبقاء على قيد الحياة أو شجب بعضهم البعض.
أوين ماثيوز، مؤلف كتاب «جاسوس لا تشوبه شائبة: ريتشارد سورج، وكيل ستالين الرئيسي».

في أكتوبر/تشرين الأول 1941، اعتقلت الشرطة اليابانية الرسّام مياجي يوتوكو Miyagi Yotoku، أحد الشخصيات الرئيسية في شبكة تجسس تعمل لصالح الاستخبارات السوفيتية. وفي أحد مراكز الشرطة حاول يوتوكو الانتحار بالقفز من نافذة في الطابق العلوي، لكن الشجيرات كسرت سقوطه.

تحت التعذيب خر كل شيء، وأعطى اسم القائد أو مُشغِل الشبكة؛ ريتشارد سورج Richard Sorge، الصحافي الألماني، زير النِساء، الأعرج بسبب إصابة في الحرب العالمية الأولى، طويل القامة، ذو العينين الزرقاوين والمَظهر الحسن، وكما وصفه أوين ماثيوز؛ أجواؤه الطبيعية هي الكازينوهات، وبيوت العبادة، وقاعات الرقص في شنغهاي وطوكيو.

اصنعوا له فخًا

تم وضع سورج داخل نظام مراقبة صارم، وتم استدراجه إلى علاقة غرامية مع كيومي Kiyomi؛ وهي عميلة للاستخبارات اليابانية. في إحدى الليالي كانا في مطاعم معًا، لاحظت النادل يسقط قطعة صغيرة من ورق الأرز على الطاولة التي يتقاسمونها. التقط سورج الورقة؛ كانت الرسالة تحوي تحذيرًا بأنه يتعرض لخطر الاعتقال وحثته على الفرار في أسرع وقت.

عندما كانا في السيّارة، حاول سورج إشعال النار في الورقة، وعندما أخفق سأل كيومي عن قداحة، لكنها تظاهرت بأنها لا تستطيع أن تعطيه واحدة. غاضبًا، ألقى ورقة الأرز من نافذة السيّارة وانطلق، وتلك كانت خطيئة كُبرى. في الطريق، طلبت كيومي من سورج إيقاف السيارة حتى تتمكن من إخبار والديها بأنها ستظل في الخارج طوال الليل، وافق، وبدلًا من الاتصال بوالديها اتصلت بالشرطة السرية وأخبرتهم بالضبط أين أسقط سورج الورقة؟ تم استردادها، واعتقل سورج قبل أن يفرّ.

نجح سورج في إخفاء عمله السرّي عن الجميع، حتّى حينما تم إعلان الخبر؛ أحدًا لم يُصدق أنّه جاسوس.

الجاسوس الأعظم في قبضة اليابانيين

حينما تم إلقاء القبض على سورج لم تكن اليابان والاتحاد السوفيتي في حالة حرب. اقترحت اليابان على السفارة السوفيتية في طوكيو أن يتم استبدال سورج بسجين ياباني، ردت موسكو: الرجل الّذي يُدعى ريتشارد سورج غير معروف لنا.

ثلاث مرّات تقدمت اليابان باقتراحها، وفي كلّ مرّة تتبرأ موسكو من الجاسوس، يبدو أن الزعيم السوفييتي؛ جوزيف ستالين لم يكن ليتنازل عن نجمة واحدة لسورج، يجب أنّ يظل ستالين الأعظم في تاريخ الأمة، لا يُشاركه أحد مانشتات الصحافة وصدارة برامج التلفاز، للأسف؛ ما زالت بعض الدول تُدار بتلك العقلية حتّى اليوم. وربما أراد ستالين محو شاهد على خطئه الفادح في الحرب العالمية الثانية حينما تجاهل المعلومات الّتي بعثها سورج بشأن الغزو الألماني للاتحاد السوفيتي.

توفي الرسّام الياباني مياجي؛ الذي لم يُشف قط من مرض تعرض له في طفولته، في سجن سوغامو في طوكيو في منتصف محاكمته عام 1943، وكان عمره أربعين عامًا.

في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1944، تم تقييد يديّي وقدمّي سورج ووضع حبل الإعدام في رقبته، وكانت آخر كلماته:

الجيش الأحمر؛
الحزب الشيوعي الدولي؛
الحزب الشيوعي السوفياتي.

أعدم اليابانيون ريتشارد سورج؛ الذي قال عنه المؤرخ الرسمي لـلاستخبارات البريطانية MI5؛ كريستوفر أندرو: إنه من بين أعظم جواسيس القرن. وقال عنه إيان فليمنج: إنه الجاسوس الأعظم في التاريخ.

في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1964؛ أي بعد 20 عامًا من وفاته، منحت الحكومة السوفيتية سورج لقب «بطل الاتحاد السوفيتي». وحصلت إحدى عشيقاته التي كانت لا تزال على قيد الحياة على معاش من الحكومة السوفيتية، وظلت الأخيرة تدفع حتى وفاتها في يوليو/تموز 2000.

في هذا المَقال أتناول أبرز المَحطات في حياة أعظم جاسوس في التاريخ.

ألمانيا، روسيا، الصين واليابان

في نوفمبر/تشرين الثاني 1929، صدرت تعليمات من موسكو إلى ريتشارد سورج بالانضمام إلى الحزب النازي وقطع الاتصال بأصدقائه اليساريين. حصل سورج على وظيفة في جريدة Getreide Zeitung واستغل مهنة الصحافة كغطاء لأعمال التجسس الّتي يقوم بها.

في عام 1930 انتقل إلى شنغهاي في الصين، وكانت مدينة تسيطر عليها القوى الاستعمارية، مزدحمة بالأجانب المشكوك فيهم، وبالتالي مركز للتجسس. وكوّن شبكة تجسس، جمعت معلومات استخبارية قيّمة حول الحرب الأهلية الصينية وغيرها من الموضوعات.

في عام 1933 أستُدعي إلى موسكو وهناك تلقى تعليمات بالانتقال إلى اليابان. وصلها في سبتمبر/أيلول عام 1933، كانت طوكيو احتمالًا مختلفًا تمامًا بالنسبة لشنغهاي، حيث يوجد عدد قليل من الأجانب وحكومة مشبوهة، لذا فإن التجسس سيتطلب درجة عالية من التمكن، وقد حُذر من الاتصال بالحزب الشيوعي الياباني السرّي أو بالسفارة السوفيتية في طوكيو.

في اليابان؛ جمع سورج بين عضوية الحزب الشيوعي السوفياتي والحزب النازي في ألمانيا ومنصب مستشار خاص للسفير الألماني وعشيق زوجته.

كوّن سورج شبكة تجسس مؤلفة من:

  • أوزاكي هوتسومي Ozaki Hotsumi: صحافي ياباني كبير في الصين.
  • ماكس كلاوسن Max Clausen: عمل كرجل أعمال ثري في طوكيو في مجال التصدير والاستيراد لتغطية أنشطته كمشغل راديو رئيسي في حلقة الاتصال بروسيا.
  • برانكو فوكيليتش Branko Vukelic: صحافي بارز في وكالة أنباء هافاس الفرنسية ومصدر رئيسي للمعلومات للشبكة حول اتجاهات العلاقات الدولية.
  • مياجي يوتوكو Miyagi Yotoku: فنان ورسام من أوكيناوا كان يعيش في اليابان بشكل خطير ويساعد سورج من خلال ترجمة الوثائق اليابانية إلى الإنجليزية.

كانوا جميعًا شيوعيين، لكلّ منهم دوافع شخصية للمشاركة في أعمال التجسس، وهي دوافع غالبًا ما اشتبكت مع السياسات الرسمية للاتحاد السوفيتي.

الجاسوس الفنان

عمل مياجي يوتوكو كفنان ورسام قدّم لها غطاء مُريح على عمليات التجسس، وكوّن شبكة تجسس مُتفرعة من شبكة سورج، ضمت طبيباً كان يستخلص من مرضاه البارزين معلومات، وعضو سابق في الحزب الشيوعي وجنرال في الجيش الإمبراطوري الياباني وآخرين.

وكانت شبكة مياجي فعّالة لدرجة أنه تلقى إشعارًا بالأوامر الموضوعة لزي العسكريين اليابانيين، وهو مفيد في تحديد ما إذا كان سيتم إرسال القوات شمالًا إلى مناخ بارد أو جنوبًا.

في مايو/آيار ويونيو/حزيران 1939، بالقرب من بلدة نومونهان Nomonhan على الحدود المنشورية-المنغولية، شنت القوات اليابانية هجومًا على نطاق صغير. أخفق سورج وجواسيسه في إرسال تحذير مُسبق إلى موسكو، ولكن بمجرد بدء الأعمال العدائية، تحولوا إليه. كان هدفهم الرئيسي هو تحديد ما إذا كان الهجوم هو الجزء الأول من دفعة كبيرة، أو مجرد حَدث طارئ ومؤقت؟

من خلال العمل مع واحد من أحدث مجنديه، وهو عريف بالجيش الإمبراطوري يدعى كوشيرو يوشينوبو، علم مياجي أن اليابان لم ترسل عددًا كبيرًا من القوات إلى الحملة، والأهم من ذلك أنه لم يتم إرسال أي تعزيزات. وبالتالي، تم التوصل إلى استنتاج مفاده أن هذه لم تكن بداية لحملة منسقة.

أحذركم؛ النازيون على الحدود

في 18 ديسمبر/كانون الأول 1940 وقع أدولف هتلر التوجيه رقم 21، والمعروف باسم العملية بارباروسا Barbarossa، وهي خطة اجتياح الجيش الألماني للحدود السوفيتية. وفي أبريل/نيسان 1941 زوّد سورج موسكو بمعلومات قيّمة حول العملية بارباروسا، وأرسل تحديثات الاستعدادات الألمانية، وأرسل المخطط العام للعمليات العسكرية بما في ذلك أهداف القصف وعدد القوات المعنية. وفي 12 مايو/آيار 1941 حذر سورج موسكو من أن 150 فرقة عسكرية ألمانية حُشدت على طول الحدود.

بعد ثلاثة أيام أكد سورج أن تاريخ 21 يونيو/حزيران سيكون موعد غزو الاتحاد السوفيتي. لكن ستالين تجاهل رسائل سورج، إذ كانوا يعتقدون أنه عميل مزدوج يعمل لصالح بريطانيا، وأنها تسعى لإشعال حرب بين الاتحاد السوفيتي وألمانيا.

في أوائل يونيو/حزيران 1941، عقد السفير الألماني اجتماعًا في موسكو مع السفير السوفيتي في برلين، وحذره من أن هتلر يخطط لإصدار أوامر لغزو الاتحاد السوفيتي، على الفور اشتبه أنها خدعة. عندما أُخبر ستالين بذلك قال للجنة المركزية Politburo إن التضليل قد وصل إلى مستوى السفراء الآن.

لا نستمع إلى المُعارضين

من الواضح أن جوزيف ستالين لم يثق أبدًا في سورج واعتبره تروتسكيًا، أي من مُناصري المُعارض المنفي ليون تروتسكي، وضمن الجماعة المعروفة بـGreat Illegals والّتي تعني «كبار الشخصيات غير الشرعيين». كان ستالين مُقتنعًا أنّهم يتآمرون ضده، تم استدعاء البعض إلى الاتحاد السوفيتي وأُعدموا، وبعض الذين رفضوا العودة قُتلوا في الخارج.

وصفهم بيتر رايت Peter Wrigh، مؤلف كتاب Spycatcher:

كانوا شيوعيين تروتسكيين يؤمنون بالشيوعية الدولية والكومنترن Comintern (أي الأممية الشيوعية). عملوا بشكل سري، وعرّضوا أنفسهم لخطر شخصي كبير، وسافروا إلى جميع أنحاء العالم من أجل البحث عن مجندين محتملين، كانوا أفضل مُجندين ومراقبين في المخابرات الروسية على الإطلاق، كانوا يعرفون بعضهم بعضًا، وقاموا بتجنيد عُملاء جُدد وصنع شبكات تجسس عالية الجودة.

هنا يظهر تأثير الصراعات السياسية على عمليات التجسس ومصالح البلاد العُليا.

إلا أنّ أعضاء كباراً في الشرطة الشيوعية السرية (NKVD) كانوا قد أقنعوا ستالين بأن سورج عميل قيم للغاية ويجب السماح له بالبقاء في مكانه. أدركوا أنه لا يمكن استبدال سورج، وفي النهاية، تركوه في طوكيو. لكنّهم ظلوا يشتبهون بأنه عميل مزدوج، لذا تُركت رسائله لأسابيع دون فكّ شيفرتها.

كما أنّ إيان بيرزين Ian Berzin؛ رئيس الإدارة الرابعة للجيش الأحمر، أعدمه جوزيف ستالين في عمليات التطهير القاتلة عام 1938. لذلك وقع الشك علي جميع عملاء بيرزين، ومن بينهم سورج.

كما قال سورج

في 21 يونيو/حزيران 1941، هرب رقيب ألماني إلى القوات السوفيتية، وأبلغهم أن الجيش الألماني سيهاجم فجر اليوم التالي؛ أيّ بعد يوم واحد فقط من التاريخ الّذي حددته رسائل سورج المُشفرة (وفي بعض المصادر أنه أرسل اليوم بالضبط).

في 22 يونيو/حزيران 1941، اجتاحت 150 فرقة عسكرية ألمانية الحدود السوفيتية، وارتكب السوفييت واحدة من أسوأ الأخطاء العسكرية في كل العصور حينما لم يستمعوا إلى معلومات جواسيسهم ويحللوها.

كان الحصول على كل هذا الكم من المعلومات الاستخباراتية حول العملية Barbarossa أحد أعظم إنجازات سورج، كونه صحافياً ألمانياً موجودًا في طوكيو؛ بعيدًا عن ألمانيا، وقد اقتنصها من خلال عشيقاته واتصالاته في السفارة الألمانية.

 أصيب جوزيف ستالين بالصدمة والإحراج الشديد لإخبار الشعب بأن ألمانيا قد غزت البلاد. لذلك طُلب من فياتشيسلاف مولوتوف أن يظهر في الإذاعة ويقول:

في الساعة الرابعة من صباح اليوم، هاجمت القوات الألمانية بلادنا دون تقديم أي مطالب للاتحاد السوفيتي ودون أيّ إعلان حرب… قضيتنا عادلة. سيتم هزيمة العدو. سننتصر.

أعظم معلومة استخباراتية في التاريخ

كان هناك قلق في موسكو من أن اليابان ستنضم إلى ألمانيا النازية في الهجوم على الاتحاد السوفيتي، وبرغم هزائم الجيش الأحمر (السوفيتي) المُتكررة أمام الألمان أبقى ستالين جزءًا من قواته على الحدود مع اليابان خوفًا من هجوم ياباني مُحتمل.

توقع كل من مياجي والصحافي أوزاكي -الذي عمل في ذلك الوقت بشكل غير عادي لمدة عامين كمستشار لرئيس الوزراء كونوي فوميمارو (الذي استقال مؤخرًا)- أن النتيجة المؤسفة لما يسمى بحادث نومونان من شأنها أن تردع اليابان من العبث مع السوفييت مرة أخرى.

في خريف عام 1941 زوّد سورج ورفاقه موسكو بمعلومة:

اليابانيون يستعدون لشن حرب في المحيط الهادئ ويركزون قواتهم الرئيسية في تلك المنطقة اعتقادًا منهم بأن الألمان سيهزمون الجيش الأحمر (السوفيتي).

وقبل شهرين من الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر الأمريكي أبلغ سورج موسكو: «اليابانيين يستعدون لحرب في المحيط الهادئ ولن يهاجموا الشرق الأقصى السوفيتي»، كما كان يخشى الروس.

كل هذا الكم من المعلومات الموثوقة الّتي أغرقت بها شبكات سورج موسكو أدت إلى تأكيد أن اليابان لن تغزو الاتحاد السوفيتي.

اقترح بعض المؤرخين أن هذه واحدة من أهم المعلومات الاستخباراتية في الحرب العالمية الثانية (وربما في التاريخ)، لأنها سمحت للسوفييت بتحويل قواتهم من الحدود الشرقية (مع اليابان) إلى الغرب، حيث كان الجيش الألماني على مرمى البصر من موسكو، تحول القوات هذا بالإضافة إلى برد الشتاء القارس أديا في النهاية إلى دحر القوات الألمانية وظل الجيش الروسي يُطارد الجيش الألماني حتّى عاصمة الرايخ الثالث؛ برلين.

وقد حافظت اليابان على حيادها تجاه الاتحاد السوفيتي حتى الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.

يقول أوين ماثيوز:

اليوم، تذكر دولتان فقط سورج. روسيا؛ حيث سُميت الشوارع والمتنزهات والسفن باسمه، واليابان؛ وتحمل مدرسة السفارة الروسية في طوكيو اسمه. وهناك مئات الكتب العلمية تشهد على قصته… لم يكن ستالين يستحق سورج، وهؤلاء النساء الفقيرات يستحقن أفضل بكثير من سورج.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.