تحتل أفلام الويسترن أو الغرب الأمريكي مكانة خاصة بين فئات وأنواع الأفلام، لاتصالها بواقع مثير في أحداثه، ولم يشهده أحد على أرض الواقع، خاصةً أن تلك الأفلام قدمت أبطالًا على الشاشة قبل عصر الأبطال الخارقين والقصص المصورة، يظهر فيها رجال شجعان يواجهون المخاطر والخارجين عن القانون. كما أنها تُصوِّر أحد أهم الصراعات في العالم مع السكان الأصليين.

البداية كانت مع فيلم The Great Train Robbery، عام 1903، مرورًا بالعصر الذهبي للسينما منذ العشرينيات وحتى بداية الستينيات، وهو العصر الذي شهد ازدهار أفلام الويسترن واعتلاء «جون واين» عرش الـ Cowboy خلال تلك الفترة، ثم بعد ذلك ظهور «كلينت إيستوود» في الستينيات، حتى حلت نهاية أفلام الويسترن الحقيقية مع إيستوود في فيلم Unforgiven، عام 1992.

ظهر بعد ذلك بعض الأفلام دون المستوى، التي حاولت على استحياء محاكاة هذا الفن الضائع، حتى ندرت لعدة أسباب، منها رفض السوق الصيني لتلك الأفلام، وهو أكبر سوق سينمائي في العالم حاليًّا، وندرة الممثلين القادرين على القيام بتلك الأدوار، وبُعد تلك الثقافة عن الأجيال الحالية، واهتمام جمهور الشباب بأفلام الأبطال الخارقين الذين عوَّضوا أبطال الويسترن، وكذلك الخيال العلمي الذي لم يتوافق مع ثقافة الويسترن، وإن ظهرت بعض محاولات دمج الخيال العلمي مع الويسترن، مثل فيلم Cowboys and Aliens، عام 2011، لكنه واجه فشلًا ذريعًا.

كيف جاء الفيلم إلى الحياة؟

يعتبر المخرج الكبير «هاورد هوكس» من أهم روَّاد أفلام الويسترن. فبعد الفشل المفاجئ لفيلمه Land of the Pharaohs، عام 1955، قضى هوكس 4 أعوام في أوروبا بمعزل عن السينما، خوفًا من تكرار التجربة الفاشلة، حيث رفض خلال تلك الفترة إخراج الفيلم الأسطوري The Bridge on the River Kwai، عام 1957، وفضَّل البقاء في عزلته.

حتى لاحظ النجاح الكبير لمسلسلات الغرب الأمريكي في تلك الفترة في أوروبا، وكيف أن الجمهور يهتم أكثر بالشخصيات مع إهمال القصة في أغلب الوقت، وكذلك غضبه من ظهور ونجاح أفلام مثل: High Noon، و3:10 to Yuma، والتي أهانت الويسترن في رأيه.

فبدأت الفكرة في التحور والتكون في رأسه، حتى قرَّر عودته بفيلم ويسترن يقوم بشكل رئيسي على مجموعة من الشخصيات، تتقاطع معًا في ظروف واحدة، ولكل منهم قصة مختلفة، بغض النظر عن القصة الأساسية، بحيث يكون الفيلم عن شخصيات مميزة يقوم بها ممثلون كبار في إطار قصة معتادة، وخرج بفيلم Rio Bravo، عام 1959، والذي حقَّق نجاحًا هائلًا، حتى إن كوينتن تارانتينو وصفه بفيلمه المفضل على الإطلاق، وكذلك مهَّد نجاحه الكبير في إيطاليا لخروج ما عُرف لاحقًا بـ Spaghetti Western boom، وأهمها The Good, the Bad and the Ugly.

«جون واين» في دوره المفضل

عندما عرض «هاورد هوكس» فيلمه هذا على كبار المنتجين في هوليود رفضوا جميعًا حتى ذكر لهم أن «جون واين» سيقوم بدور البطولة، فتغير موقفهم.

فقد كان «جون واين» هو الوجه الأشهر – ويعتبره البعض الأفضل – الذي جسَّد دور الرجل القوي في السينما، وفي أفلام الويسترن بشكل عام. وهي سمعة وشخصية بناها على مدى أعوام طويلة، قدَّم فيها مجموعة من أفضل أفلام تلك الفترة على الإطلاق، بداية بـ The Big Trail عام 1930، ثم شهرته بعد نجاح Stagecoach عام 1939، مرورًا بـ Red River عام 1948، و The Searchers عام 1956، و The Man Who Shot Liberty Valence عام 1962، و True Grit عام 1969، و The Cowboys عام 1972. ليُخلِّد اسمه كواحد من أعظم أعمدة هوليود على مر العصور، ووجه الويسترن الأشهر، وأحد أنجح نجومه، حيث جاء اسمه في قائمة أكثر الممثلين تحقيقًا للأرباح تقريبًا في كل عام، من 1949 حتى 1973.

كذلك يعد «جون واين» وجه أمريكا أمام العالم، ويمثل قوة الشعب الأمريكي وفخره، لذلك لا يخفى كره الصينيين له، ودائمًا ما يتم انتقاد صورته من الجانب الآخر. وقد نالته حملات تشويه عديدة، حتى إن بعض الليبراليين قاموا بنبش لقاء قديم له، ينتقد خلاله السكان الأصليين والسود ويرفض المثلية الجنسية، لكنه رغم ذلك ما يزال – في نظر الكثيرين – رجل السينما القوي.

وقد مثَّل فيلم Rio Bravo عودة واين إلى دور الجمهور المفضل، بعد أن كان قد قرَّر الابتعاد عن أفلام الويسترن بعد النجاح الأسطوري لفيلم The Searchers، فعاد مرة أخرى ليُجسِّد الدور الذي أحبه الجمهور من خلاله، فقام بدور الرجل القوي، فارس السينما من جديد، حيث يحاول تقديم أحد المجرمين إلى المحاكمة بمشاركة شرطي سكير وآخر عجوز، في مواجهة شقيق المجرم الغني الفاسد، الذي يحاول تهريب شقيقه بأي طريقة ممكنة، ولو بقتل رجال الشرطة.

الرجل القوى في مواجهة العالم

أحد الأسباب الرئيسية في ظهور Rio Bravo إلى الحياة هو غضب المخرج هوكس وجون واين من نجاح فيلم High Noon، واعتبراه فضيحة وتدنيسًا للثقافة الأمريكية، وصورة غير صحيحة للغرب الأمريكي، وسوء عرض لرجال القانون، حيث وصفه واين بأنه «فيلم مضاد لأمريكا»، وقال هوكس: «خرجت بهذا الفيلم لأنني لم أحب فيلمًا يُسمى High Noon». وقررا عمل فيلم يرد على ما كرهاه في الفيلم الآخر، وأهمه أن الرجل القوي لا يحتاج إلى المساعدة.

على الجانب الآخر يعد High Noon من أشهر وأنجح أفلام الويسترن على الإطلاق، فقد ترشَّح لـ 7 جوائز أوسكار، وحقَّق شعبية كبيرة، ويدور حول مارشال أو قائد الشرطة في مدينة، يقوم بدوره «جاري كوبر»، والذي كرَّس آخر 5 أعوام من حياته في خدمة المدينة وتطهيرها من المجرمين والفوضى، والآن بعد أن عمَّ السلام الأرجاء، سيتزوج المارشال من إحدى جميلات السينما «جرايس كيلي»، لكن في نفس الوقت يتلقى خبرًا صادمًا، قاتل مشهور كان المارشال قد أرسله إلى السجن منذ 5 أعوام خرج وهو قادم مع عصابته للانتقام من المارشال وقتله.

حينها يطلب منه الجميع الهرب ومغادرة المدينة وفيهم زوجته الجديدة، لكنه يرفض ويصر على مقابلة المجرم والقيام بواجبه، لكنه يحتاج إلى المساعدة، لذلك يقضي أغلب الفيلم في البحث عمَّن يساعده في المدينة، فيمر على الأصدقاء والمعاونين طلبًا للمدد، لكنهم يستسلمون للخوف، فيجد نفسه وحيدًا بعد أن تخلَّى عنه الجميع، حتى زوجته رفضت قراره وقرَّرت هجره. ويرى بعض من أغنياء المدينة مصلحتهم في هلاكه، ويدفعونه للرحيل، إلا عجوزًا سِكِّيرًا ومراهقًا شابًّا، لكنهما لا يملكان مساعدته في الحقيقة، فيضطر في نهاية الفيلم لمواجهة العصابة وحده، وبالطبع ينتصر عليهم. لكنه يقوم بإلقاء نجمة الشرطة خاصته على الأرض في وجه أهل المدينة الذين رفضوا مساعدته، ويغادر مع زوجته بعد أن عادت وساهمت في نجدته.

خطاب سياسي موجه

صدر High Noon – في الأساس – كخطاب سياسي موجه في تلك الفترة (الخمسينيات)، في مواجهة حملات السياسيين للتضييق على الفن بحجة مواجهة الشيوعية، وظهور القوائم السوداء لهؤلاء المتهمين بالشيوعية أو التعاطف معها أو فقط أي اختلاف مع الحكومة، فنال المنع ممثلين وكُتَّابًا ومخرجين، من بينهم مؤلف الفيلم «كارل فورمان»، لذلك مثَّل الفيلم نداءً للناس أن يستيقظوا ويُقدِّموا يد المساعدة والدعم لمن تهدف الحكومة التنكيل بهم، مما جعله يهتم أكثر بالحوار والتمثيل والموسيقى، لتقديم لوحة واقعية عن الحياة والظلم في تلك الفترة، وأن العدو الحقيقي هو نفوس البشر الضعيفة الصامتة في وجه الشر.

لذلك لا يكاد يظهر الشرير طوال الفيلم إلا قرب النهاية، بينما يجلس معاونوه قرب القطار لترويع أهل المدينة، كما تفعل الحكومات مع شعوبها باستعراض القوة ونشر الشرطة، ولم يكن أمام البطل أي حل إلا المواجهة والدفاع عن نفسه بسبب العداوة الشخصية مع المجرم، واستهدافه لذاته وليس فقط لأنه شرطي. وفي النهاية ضرب المارشال بقيم المجتمع وخوفه عرض الحائط، عندما ألقى شارته على الأرض.

أمَّا Rio Bravo فهو العكس تمامًا، أو كما وصفه البعض، فإنه يحافظ على القيم الأمريكية وترابط المجتمع، ويُعيد إحياء الحلم الأمريكي وقيم مثل الولاء وسيادة القانون، وصورة الرجل القوي الذي يمثل أمريكا وهو يواجه كل الصعوبات بمفرده، وبالقوة إذا لزم الأمر، وكذلك يُبجِّل رجال القانون ويرفض تدنيس شارة الشرطة.

ويعرض الفيلم نظرة أكثر شمولية للشر؛ لأنه لا يستهدف البطل بذاته، لكنه شر عام، ويمكن حتى تفاديه بتحرير القاتل والانتهاء من كل هذا، بعكس High Noon، ويثبت فكرة الأب أو Father Figure الذي يقوم بكل شيء ويحمي الجميع، وعليهم الاستماع إليه والاستفادة من خبراته. كذلك يُرسِّخ مبدأ رعاة البقر الأصليين «إذا أردت شيئًا فخذه بيدك»، في عصر غياب القانون قديمًا، حيث ينجو القوي فقط، مثل «جون واين».

ثلاث نسخ لفيلم واحد

ربما صادفت بعض الأفلام المتشابهة، أو قصة معينة تم استخدامها أكثر من مرة، باختلافات طفيفة، أو أفلامًا تم إنتاجها مرة أخرى بنفس الاسم، أو فيلمًا مقتبسًا من فيلم في بلد أو لغة أخرى، لكن نفس الفيلم ونفس القصة ونفس البطل ونفس المؤلف ونفس المخرج في 3 نسخ مختلفة؟

هي واحدة من أغرب الوقائع في هوليود التي ربما لن نسمع عنها مجددًا، وستظل مُخلَّدة في التاريخ السينمائي، أبطالها «هوارد هوكس» و«لياه براكيت» و«جون واين». فبعد النجاح الكبير لفيلم Rio Bravo في 1959، رأى المخرج أنه كان من الممكن أفضل مما كان، وأراد عمل فيلم آخر على نفس الوتيرة.

وقرَّر مع المؤلف والبطل أن يقوما بإنتاج نفس القصة في فيلم جديد، El Dorado عام 1966. تقريبًا نفس القصة، فقط تم تغيير الأسماء، ولكنه حقق نجاحًا كبيرًا أيضًا، فقاموا مرة أخرى بعمل نفس القصة في فيلم ثالث Rio Lobo عام 1970، لكنه لم ينجح بنفس درجة الفيلمين السابقين، وإلا لكان من الممكن أن نجد فيلمًا رابعًا، حتى إن «جون واين» قال بسخرية أثناء تصوير الفيلم الثالث:

ألم نقم بعمل هذا الفيلم من قبل؟!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.