عندما عقدتُ النية على أن أحجَ بيت الله الحرام أول مرة في سنة 1401هـ / 1980م مع ثلة من الطلبة زملائي بجامعة القاهرة، كان أول شيء شغل بالي وشغل بالهم هو جواز السفر أو الباسبور، أو كما كنا ننطقه بلهجة مصرية دارجة «البازابورت».

ولما كانت تلك المناسبة هي الأولى التي أستخرج فيها جواز سفر لي، فقد دارت يومها في ذهني تساؤلات كثيرة عن المستندات اللازمة، وكم عدد الصور الشخصية التي يجب أن أرفقها بطلب الحصول على الجواز؟ وما مقدار الرسوم النقدية التي سأدفعها؟ وقبل هذا كله: ما اسم الجهة التي سأتقدم إليها بالطلب؟ وأين مكانها بالضبط؟ أهي في مدينة الجيزة حيث يقع مقر جامعة القاهرة التي أنا طالب بها في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، أم في مدينة طنطا التي هي المركز الإداري الذي تتبعه قريتي (ميت حبيش القبلية) الغارقة بدورها في وسط دلتا النيل؟

والحكاية من نهايتها أنني لم أمسك بجواز سفري الأول إلا بعد أن مررتُ بسلسلة طويلة من الإجراءات التي قادتني إلى التعرف على عدد كبير ومهم من المؤسسات والمصالح الحكومية المصرية والسعودية. كانت البداية بالمقر المركزي لمصلحة البريد بالعتبة الخضراء بوسط القاهرة؛ حيث كانت تستأثر وحدها ببيع أوراق استخراج جوازات سفر الطلبة. ويومها رأيت لأول مرة سور الأزبكية المشتهر، ودهشت من كثرة الكتب القديمة المعروضة حوله للبيع بأسعار منخفضة، واشتريت يومها ما تيسر لي منها.

وتلا ذلك الذهاب إلى ديوان عام محافظة الغربية التي تتبعها قريتي؛ حيث تعين عليّ الحصول على شهادة ضمان موثقة، وموقع عليها من اثنين من موظفي الحكومة، ثم حصلت على موافقة جامعة القاهرة، ومنها ذهبت إلى القنصلية السعودية بالقاهرة، وأتممت الإجراءات، وكان أول سفري خارج مصر والحمد لله إلى البيت العتيق بمكة المكرمة.

مرت سبعةٌ وثلاثون سنة اليوم على قصة استخراج أول جواز سفر لي إلى البيت الحرام. وكلما وردت وقائعها على خاطري تذكرت كم من درس تعلمته منها وربما أهمها هو: أن بلوغ أي مقصد يحتاج إلى إرادة قوية، يعبرون عنها شرعًا بـ«النية الصادقة»، ويحتاج أيضًا إلى إدارة حازمة للنفس أولًا وقبل أي شيء آخر، فإذا توافرت لديك الإرادة والإدارة تذللت أمامك كل العقبات.

وعرفت مما عرفت في تلك المناسبة أن تحقيق الشخصية مسألة على درجة كبيرة من الأهمية، وبخاصة في حالة السفر والترحال من بلد إلى بلد، وأن جواز السفر هو نوع من أنواع التعارف الذي أمر به الإسلام. وتعلمت أن من وظائف جواز السفر ليس فقط التحقق من الشخصية وإنما حفظ أمن المسافر وأمن البلاد التي يمر بها أو يحل ضيفًا عليها، وتعلمت أن جواز السفر هو أهم أوراق الطريق بالنسبة للمسافر، وأنه بمثابة عَلَم في يدي يعرفني به الآخرون وبخاصة في خارج بلادي.

وعرفت من القراءة في مصادر تاريخ الحضارة الإسلامية أن أوراق الطريق التي تعادل جواز السفر اليوم إلى البيت العتيق كانت لها فوائد أخرى كثيرة، وأنها حملت في طياتها عبر الزمن قوة تمدينية هائلة، كان لها الفضل في إحداث نقلات نوعية على طريق النمو والتقدم الحضاري بشكل عام، ليس فقط في ديار المسلمين، وإنما أيضًا في مختلف أنحاء العالم القديم.

وقد وصل الأمر في السنين الأخيرة إلى أن اليابان وبلدان أخرى طورت جوازات سفر بالقياسات البيولوجية، وفي بريطانيا وكندا وأمريكا وغيرها من البلدان بدأ العمل فعلًا بجوازات سفر عالية التقنية تستخدم فيها صور وتوقيعات رقمية، وبصمات لقرنية العين، وصور أخرى خفية لا ترى إلا عبر ماكينات خاصة عند بوابة الجوازات؛ وذلك كله ضمن محاولات ضمان منع تزوير جوازات السفر أو استخدامها بشكل غير قانوني في أغراض غير مشروعة، وفي ذلك محافظة على سلامة وظيفة التعارف التي يؤديها جواز السفر إلى جانب وظائفه الأساسية الأخرى.

جاء في لسان العرب أن الجواز: صكُّ المسافر. وتجاوزَ بهم الطريق، وجاوزه جوازًا: خلَّفه. وفي التنزيل العزيز قال تعالى:

وجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا، حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
(سورة يونس: 90).

وجوَّز لهم إبلهم، إذا قادها بعيرًا بعيرًا حتى تجوز. ووجهُ الشبه لا يزال قائمًا على هذا النحو في مطارات وموانئ العالم كله؛ فالمسافرون يمرون واحدًا تلو واحد! وجزتُ الطريقَ وجازَ الموضعَ وجاوَزه جِوازًا وأَجازه وأَجاز غيرَه وجازَه: سار فيه وسلكه، وأَجازَه: خَلَّفه وقطعه، وأَجازه: أَنْفَذَه. قال الراجز:

خَلُّوا الطريقَ عن أَبي سَيَّارَه .. حتى يُجِيزَ سالمًا حِمارَه

وجواز السفر في فقه اللغة يشير أيضًا إلى أنه ارتبط دومًا بخطوات المسافر، وبتوفير ما يحتاجه على طول طريقه من بلدة إلى بلدة، أي أن المتتبعَ لتاريخ جواز السفر يمكنه أن يتتبع بيسر وسهولة مراحل التطور العمراني والتقدم المدني في مختلف أصقاع الأرض، ويمكنه أن يتعرف أيضًا على أنواع مدهشة من العمل الخيري، وفنون إكرام الضيف وعابر السبيل، وأساليب إغاثة اللهفان وتفريج ما نزل به من كرب أو هم.

ولكن دوام الحال من المحال كما يقولون؛ إذ لم يعد في عالمنا المعاصر كثيرون من الكرماء والأجاويد الذين يجيزون المسافر إذا انقطعت به السبل، أو إذا نضب ما معه من مؤونة السفر من مال وطعام وشراب، بل الذي يحدث هو أن يسرعَ رجالُ أمن المطارات والموانئ والحدود البرية إلى إلقاء القبض على مثل هذا المسافر الذي قد لا يكون معه زاد يبلغه مأمنه، ويردونه على أعقابه عبر سلسلة طويلة من الإجراءات والفحوصات الأمنية، حتى يجد نفسه في نهاية المطاف قد عاد إلى حيث بدأ ترحاله.

ويظن كثيرون أن حرية التنقل وبخاصة إلى البيت الحرام في عصور الحضارة الإسلامية قديمًا كانت تجري دون تحقق أو سؤال، أو دون رابط أو ضابط من أية جهة. وما أبعد هذا الظن عن حقائق التاريخ ووقائعه. فثمة دلائل تاريخية موثقة تؤكد أن النشأة الأولى لجواز السفر كانت في جانب منها بمناسبة الحاجة إلى الانتقال إلى البيت العتيق لأداء فريضة الحج، أو للتمتع بالعمرة بين الحين والآخر، إضافة إلى حاجات أخرى للترحال لأغراض التجارة والعلم والسير في الأرض لأغراض شتى.

والثابت هو أن استعمال جواز السفر المعنوي في أمور العبادات كان هو الأسبق دومًا، وكان الأكثر أهمية من جواز السفر المادي الذي كان في صورِه الأولى عبارة عن قطعة من الجلد، أو القماش، أو العظام، أو الورق. والثابت كذلك في الحضارة الإسلامية ووقائع تمدنها أن ظهور جوازات السفر المادية جاء لاحقًا على جواز السفر المعنوي بقرنين أو أكثر من الزمان. فما هو يا ترى جواز السفر المعنوي؟

جواز السفر المعنوي، أو الروحي، يتمثل في الإيمان المستكين في أعماق القلب. وهو بالنسبة للمسلم شهادة أن «لا إله إلا الله»، وأن «محمدًا رسول الله»، التي يحملها المسلم في قلبه، ويعيها بعقله، وتترجمها جوارحه. هذا الجواز هو أول شرط من شروط السفر إلى البيت العتيق، فلا يصح الحج للبيت العتيق في مكة المكرمة لغير المسلم. والحالات التي نجح فيها غير المسلم في زيارة البيت العتيق كانت بطريق التخفي والاحتيال، ومنها حالة الرحالة الفرنسي «كورتلمو» وغيره كثيرون.

وقد استمر نفرٌ من هؤلاء المحتالين والمغامرين في ركوب متن المغامرة والمخاطرة من أجل الوصول إلى مكة المكرمة منذ أن نجح «لودريكو فارثيما» في الوصول إليها وهو مندس في قافلة الحج الشامي سنة 908هــ/ 1503م. أما جواز السفر المادي فالمقصود به أوراق الطريق التي يحملها المسافر قاصدًا حج بيت الله؛ لتتحقق سلطات الأمن والسلطات الإدارية من صحة بياناتها ومطابقتها لشخص حاملها كلما مر على قرية وهو في سبيله إلى البيت العتيق.

ويظهر من سياق الروايات التاريخية أن أجوزة السفر لم تكن معروفة في المائة الثانية للهجرة في بلاد الشرق الإسلامي. ويبدو أن الحال ظل هكذا حتى النصف الأول من المائة الثالثة للهجرة. وقد وصلت إلينا بعض الأنباء عن الأجوزة في ديار الإسلام في النصف الثاني من المائة الثالثة للهجرة، وتشير ملابساتها إلى أنها صُنعت بمناسبة الرحلة إلى بيت الله العتيق.

ومن أفصح وأطرف ما ورد في هذا الصدد الخبر الذي جاء في سيرة «المعتضد بالله» الخليفة العباسي (242:ـ 289هـ) وهو أنه أمر بتدقيق هويات المسافرين على بوابات الطرق. ومن أنباء بدايات ظهور أجوزة السفر أيضًا أن السلطان عضد الدولة «البويهي» (المتوفي سنة 372 هـ) أحدث في المائة الرابعة للهجرة لأول مرة نظام مراقبة الأبواب في مدينة شيراز عاصمة بلاده، حتى قال في حقها «البشاري المقدسي» (335: 381هـ) في كتابه ذائع الصيت «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»: «ومنع (السلطان) الخارج منه إلا بجواز، وحبس الداخل والمجتاز..».

وكان بمصرَ منذ أول العصر الإسلامي نظامٌ دقيق للأجوزة المتخذة للانتقال الداخلي من مدينة إلى أخرى في الديار المصرية. وتحتفظ المتاحف المصرية بنماذج من أجوزة سفر قديمة، منها اثنان كُتبا بالعربية على ورق البردي. ويرتقي تاريخهما إلى أوائل المائة الثانية للهجرة، في عهد الأمير «عبيد الله بن الحبحاب» حين إمارته على مصر. وكان قد تولى إدارة بيت المال في مصر منذ سنة 102هـ إلى سنة 116هـ، وأشار إلى الجوازين «ميخائيل عواد» في مقالة قيمة له عن تاريخ جوازات السفر اطلعت عليها في مجلة «الأبحاث» التي كانت تصدرها الجامعة الأمريكية في بيروت، وذكر أن الأول منهما به ثقوب كثيرة، لتقادم عهده ولتأثير عوامل التلف الأخرى عليه.

إلا أن المستشرق «جرهمان» توصل بالبحث والاستنتاج إلى ملء بعض ما ذهب من ألفاظ النص الأصلي. أما الجواز الآخر، فإن ما أصابه من تلف كان أقل من سالفه. ولعل أدلَّ ما ورد فيه، في هذا الباب، هو أنه تضمن السمات المميزة والعلامات الفارقة في جسم الشخص الذي يحمله. وإليك نصه نقلًا عن جرهمان:

بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من عبد الله بن عبيد الله عامل. الأمير عبيد الله بن الحبحاب على أعلا أشمون. لقسطنطين ببسطلس: شاب أَبَطٌ، بخده أثر، وبعنقه خالين. سبط من أهل بسقنون باهله من أعلى أشمون. أنى أذنت له أن يعمل بأسفل أشمون لوفا جزيته. والتماس معيشته. أجلته شهرين من مستهل ذي الحجة إلى انسلاخ المحرم سنة ست عشرة ومائة. فمن لقيه من عمال الأمير أو غيرهم فلا يعترض له في ذلك من الأجل، إلا بخير والسلام على من اتبع الهدى. وكتبهُ طُلَيق، في مستهل ذي الحجة تمام سنة ثنتي عشرة ومائة.

وكان بنو طولون يبالغون في العناية بأمر وثائق السفر، فلا يجوز للرجل أن يخرج من مصر على عهدهم إلا بجواز. ومن أطرف ما ورد من أخبار الأجوزة وصفاتها:

رجل من التجار يعرف بالستر والسلامة ابتاع خادمًا مما بيع من تركةِ وكيل أحمد بن طولون الذي قبض عليه المعروف بابن مفضل، بمائتي دينار، وأنه أخذ جوازًا وخرج بالغلام إلى الشام، يؤملُ في بيعه هناك ربحًا، فلما بلغ العريش، وكان بها والٍ يعرف بحبيب المعرفي، قد نصبه أحمد بن طولون ليتأمل ما يرد من الكتب ونفيس الأمتعة إلى الفسطاط، فقرأ الجواز، وقال: قد كان يجب أن يحكي في هذا الجواز حلية هذا الخادم، فقال الرجل أنا اشتريته من الواسطي، فقال: لست أطلقه إلا بعد الاستئمار فيه. وكتب إلى أحمد بن طولون يخبره، فكتب إليه يأمره بإشخاصه إليه فأشخص التاجر والغلام. فلما وافق وأدخل مع الغلام إليه، قال له: من أين لك هذا الخادم؟ قال: ابتعته من الواسطي كاتبك مما باعه من تركة ابن مفضل. فقال له: أين كنت عازمًا به؟ قال: أستقري به البلدان حتى أجد فيه ما أؤمله من الربح. فقال: اكتبوا له جوازًا وحلوا فيه الخادم، وأطلقوا سبيله.

فمن هذا النص الأخير يتضح أن الجواز كان يتضمن صفة الشخص وهيئته لئلا يُشتبه به، أو يتخذ لغير أهله، وذاك يدل دلالةً لامعة على عناية أولئك الأقدمين بأمور يظن أنها من مبتكرات العصور الحديثة ومستنبطات المدنية الحاضرة، بينما هي من مستنبطات المدنية الإسلامية.

ويغلب على الظن أنه: لم يكن لجواز السفر أن يتطور وينتشر على نطاق واسع لدى عامة المسلمين وخاصتهم لولا فريضة الحج. فقد اقتضت ضرورات أمن الطريق وأمن الحجاج وسلامتهم في الحل والترحال أن يحمل كل منهم جواز سفر يحتوي على البيانات الأساسية التي تحدد هويته وتثبت ما يحمله من نفيس المتاع، والجهة التي يقصدها والجهة التي أتى منها.

وصارت أغلب البلدان الإسلامية تصدر جوازات سفر خاصة بأداء الحج والعمرة، وصار الحجاج، وبخاصة من عامة الناس يحتفظون بهذه الجوازات لما لها من ذكرى غالية على نفوسهم. وفي حيازتي أحدها باسم «الحاجة ستيتة سليمان حسن بدير» من حجاج منتصف القرن الرابع عشر الهجري (من قرية ميت حبيش القبلية طنطا)، وحجم صفحة الجواز 5سم×8سم، ومثبت فيه صورة شخصية للحاجة، ومكتوب أعلى السورة قوله تعالى: «ولله على الناس حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً»، ثم حديث شريف للنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: «من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، ويوجد ختم يشمل الصورة وأجزاء من صفحتي الجواز وهما من الورق المقوى.

وكانت رغبة المسلمين في بلوغ بيت الله الحرام ولا زالت تدفع كثيرين منهم إلى بذل الغالي والنفيس في سبيل تحقيق هذه الغاية. وترجح الأدلة التاريخية المتوافرة أنه ابتداءً من القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي أضحى جميع حجاج بيت الله الحرام يحملون أوراق الطريق أو جوازات السفر التي تثبت هوياتهم وأسماء بلدانهم، وكانت هذه الجوازات تعتمد من القنصليات التي أخذت في الانتشار على طول العالم الإسلامي وعرضه.

واليوم إذا عزمت على أداء فريضة الحج، فعليك أولًا بعد أن تعقد النية خالصة لوجه الله أن تبحث عن إدارة الجوازات في بلدك، وأن تستخرج لنفسك ولمن قد يكون معك من الأهل والأولاد جوازات سفر صالحة لاجتياز الطريق إلى بيت الله العتيق. وحجك مبرور وذنبك مغفور إن شاء الله.