في كتابه «حياة غير آمنة.. جيل الأحلام والإخفاقات» يقول شفيق الغبرا:

لقد حلم كل منهما [يقصد أبو حسن قاسم وحمدي التميمي] في أواسط السبعينيات بحدث كبير في الضفة الغربية؛ انتفاضة كبيرة، وجماعات مسلحة في الجبال وأخرى في الأحياء المكتظة بالسكان. إن رؤية أبو حسن قاسم وحمدي التميمي التي شرحاها لي عام 1975، هي الرؤية التي ستتحقق في أواخر الثمانينيات عبر الانتفاضة. بدا حديثهما لي في ذلك الوقت ضربًا من الخيال.

كان كل من أبو حسن قاسم، واسمه الحقيقي محمد محمد بحيص، وحمدي التميمي، واسمه الحقيقي محمد باسم سلطان، يعملان في القطاع الغربي في حركة فتح، ويقودان تيارًا اشتهر باسم طليعته المقاتلة «الكتيبة الطلابية»، وهو التيار اليساري الذي تميّز بمقاربات ماركسية ماوية تحاول تكييف الماركسية مع الواقع الفلسطيني والعربي، وقد انتهى بهم ذلك بالانتقال إلى الإسلام، وتأسيس تجربة جهادية إسلامية عرفت باسم «سرايا الجهاد الإسلامي».

بحسب منير شفيق، منظّر ذلك التيار في حينه، فإن التيار كان يُقدّر بأن الوجود الفلسطيني في لبنان قد بات مؤقتًا منذ زيارة السادات للقدس عام 1977، ثم توقيع اتفاقية كامب ديفد عام 1978، وذلك لأن هذا الوجود ارتهن إلى التوازنات الإقليمية التي مثّلتها اتفاقية القاهرة عام 1969 والتي نظّمت الوجود الفلسطيني في لبنان بقوة ونفوذ مصر ورئيسها جمال عبد الناصر، ولكن صعود العراق في مرحلة خروج مصر من الصراع، منح الفلسطينيين قليلاً من الوقت، بدأ بالنفاد مع دخول العراق حربه مع إيران عام 1980.

تلك القراءة للوجود الفلسطيني في لبنان، بالإضافة إلى الأثر السلبي لمشاركة الفلسطينيين في الحرب الأهلية اللبنانية على واقع العمل العسكري داخل الضفة الغربية، إلى درجة استهلاك كل الأجهزة والقطاعات في الحرب الأهلية، بما في ذلك الأجهزة المسئولة عن العمل داخل الأرض المحتلة؛ دفع هذا التيار للاستفادة من مواقعه وأدوار كوادره داخل الأجهزة المختلفة لتعزيز العمل المقاوم داخل الضفة الغربية.

سبقت عمليات الدوريات التي بدأ التيار بإرسالها إلى داخل الأرض المحتلة تحولهم إلى الإسلام، وإن تزامنت تقريبًا مع تخليهم عن الماركسية، وكان من أشهر تلك العمليات عملية «الدبويا» في مدينة الخليل في العام 1980، والتي جاءت بعد اكتمال تحولهم إلى الإسلام كما يروي منير شفيق في كتابه «شهداء ومسيرة»، ثم كانت عملية الشهيد «خلدون صابر الديك» في العام 1981، وعملية الشهيد «مروان زلوم» في العام 1981.

بعد تأسيس «سرايا الجهاد الإسلامي» نفّذت السرايا في العام 1983 عملية تفجير الحافلة رقم 18 قرب القدس المحتلة، ثم نفّذت بالتعاون مع المجموعة التي كان يقودها الدكتور فتحي الشقاقي عملية حائط البراق في العام 1986 قبل عام واحد من انفجار الانتفاضة الأولى.

«الكتيبة الطلابية» هي تيار يساري فلسطيني مُقاوِم حاول تكييف الماركسية مع الواقع الفلسطيني، ولكن انتهى به المطاف بالانتقال إلى الإسلام، وتأسيس «سرايا الجهاد الإسلامي».

وكان من أخطر العمليات التي خططت لها السرايا محاولة تفجير مقر رئاسة الوزراء الصهيونية في القدس بعملية استشهادية، ولكن المنفذة، المجاهدة عطاف عليان، اعتقلت قبل تنفيذ العملية، وقبل انفجار الانتفاضة الأولى بشهور، وقد تدرب بعض القائمين على العملية لدى الشهيد عبد الله عزام في أفغانستان كما تفيد مصادر هذا التيار.

وبهذا يتبين دعم التيار للمجموعات الإسلامية المقاومة الأولى وتعاونه معها، ولاسيما المجموعات التي تبلورت في النهاية في حركة الجهاد الإسلامي التي قادها الدكتور الشقاقي، مع وجود قدر من التعاون مع بعض الشخصيات والمجموعات الإخوانية، بيد أن من أكثر أشكال التعاون مع الإخوان هو دور الشهيد «ميسرة أبو حمدية».

بحسب معين الطاهر، أحد قادة الكتيبة الطلابية في كتابه «الكتيبة الطلابية: تأملات في التجربة»، فإن ميسرة أبو حمدية درّب كوادر حماس العسكرية الأولى، وهو ما أكدته كتائب القسام في بيان لها قالت فيه إنه شارك في تدريب مجاهدي حماس منذ العام 1989، وكانت له بصماته في عمليات القسام الأولى في سنوات 1991 و1992، واستمر عهده معها حتى اعتقاله في العام 2002، وقد استشهد ميسرة بمرض عضال داخل السجن بين صفوف حماس.

استشهد قادة التيار ومؤسسو سرايا الجهاد الإسلامي في عملية اغتيال في قبرص في 14 فبراير/شباط 1988؛ أي بعد شهرين تقريبًا من تحقق حلمهم وانفجار الانتفاضة الأولى، وظهور أثر نظريتهم عن «العامل المساعد»، أو «الحصوة التي تسند الجرة»، أو «سد الثغرة»، فلم تكن فكرتهم تأسيس فصيل جديد قائم بذاته، وإنما المساهمة في الكفاح، وتعزيز المقاومة، وتدعيم العوامل الإيجابية.

ومع ذلك استمرت السرايا بعد استشهاد قادتها حتى العام 1991، وقد أحصيت اعتمادًا على نشرتهم «السبيل» -التي كانت تصدر في ذلك الحين- 32 عملية عسكرية للسرايا في الفترة الواقعة بين مايو/ أيار 1989 وفبراير/شباط 1990، وأعلنت في هذه الفترة عن سبعة شهداء.

كان ثمة مجموعات إسلامية أخرى قامت بعدد من العمليات، من أشهرها قتل المستوطن «أهرون غروس» في الخليل عام 1983، وكذلك عمليات الطعن المتفرقة التي قام بها المجاهد «خالد الجعيدي» في العام 1986 وأدت إلى مقتل ثلاثة مستوطنين وإصابة آخر بالشلل.

وكان من أكبر الأحداث التي سبقت الانتفاضة الأولى هروب مجموعة من الجهاد الإسلامي من سجن غزة العسكري في مايو/أيار 1987 بقيادة الشهيد «مصباح الصوري». وبحسب ما يروي معين الطاهر في كتابه سالف الذكر، فقد أمد أبو حسن قاسم الشهيد الصوري بالسلاح، وفي 2 أكتوبر/تشرين الأول استشهد الشهيد مصباح صوري، وفي السادس من الشهر نفسه استشهد أربعة في معركة الشجاعية الشهيرة كان من بينهم اثنان ممن هربوا من السجن، وذلك قبل شهرين من انفجار الانتفاضة الأولى.

لقد أخذ تأسيس حماس زمنًا طويلاً مند أواسط السبعينيات، حينما بدأت التشكيلات والاتحادات الطلابية التابعة للإخوان المسلمين الفلسطينيين بالتشكل في الكويت وأوروبا وأمريكا، ومع بدء عودة طلاب الإخوان الفلسطينيين من الجامعات المصرية والأردنية والسورية، متأثرين بالصعود الإسلامي، وببعض الأفكار الجديدة كأفكار سيد قطب، ومتأثرين بأحداث كبرى، كالصدامات التي بدأت بين الإخوان السوريين والنظام السوري.

أخذ تأسيس حماس زمنًا طويلاً مند أواسط السبعينيات، حينما بدأت التشكيلات التابعة للإخوان المسلمين الفلسطينيين بالتشكل في الكويت وأوروبا وأمريكا.

يمكن القول إن تأسيس الكتل الإسلامية في الجامعات الفلسطينية بالضفة الغربية شكّل علامة فارقة في تاريخ الجماعة الفلسطينية التي صارت أكثر احتكاكًا بالحركة الوطنية الفلسطينية، بالإضافة إلى بدء الجماعة ترسيخ نفسها في غزة وبعد تأسيس عدد من المؤسسات كالمجمع الإسلامي والجمعية الإسلامية والجامعة الإسلامية.

بعد تأسيس تنظيم بلاد الشام الذي ضم جماعتي الإخوان الأردنية والفلسطينية، بدأت الجماعة في العام 1980 في إرسال كوادرها إلى خارج الأرض المحتلة للتدريب على السلاح، وكانت قيادات من الجماعة الفلسطينية في الخارج قد التقت منير شفيق في العام 1980 للتعرف على تجربة تيار الكتيبة الطلابية.

وبالفعل تتشكل أولى المجموعات العسكرية في قطاع غزة بقيادة الشيخ أحمد ياسين والذي سوف يعتقل على إثر ذلك في العام 1984، بينما سيظهر أثر الكتل الإسلامية في الجامعات حينما شاركت الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت في مظاهرات عنيفة ضد الاحتلال في ديسمبر/كانون الأول من العام 1986، وقدمت فيها شهيدين هما صائب ذهب وجواد أبو سلمية، وذلك قبل عام من انفجار الانتفاضة الأولى.

كانت قيادات الإخوان المسلمين الفلسطينيين في الداخل والخارج قد اتفقت على استثمار أي حادثة للتحول للنهائي نحو صيغة جديدة من العمل المقاوم، وعن ذلك يقول «عدنان مسودي» أحد قيادات الإخوان الفلسطينيين في الضفة الغربية، في مذكراته «إلى المواجهة» إن اجتماعًا حصل في بلدة دورا في الخليل في 23 أكتوبر/تشرين الأول من العام 1987 ضم قيادات من الإخوان في الضفة وغزّة اتفقت على الاستعجال في تأسيس المقاومة الإسلامية في فلسطين، على أن تعمل كل مدينة بالطريقة التي تناسبها.

وكانت البداية من قطاع غزة، إذ أعلنت حركة حماس عن نفسها، حينما دهس سائق شاحنة إسرائيلية في 8 ديسمبر/كانون الأول 1987 عددًا من العمال الفلسطينيين لينفجر تفاعل الأحداث الذي استمر منذ سنوات في شكل الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ولتستلم الجماهير داخل الأرض المحتلة الراية من الثورة الفلسطينية التي خرجت من لبنان عام 1982.

بالتأكيد فوّتت هذه المقالة الكثير من الأحداث والأفكار على الطريق إلى الانتفاضة الأولى، ولكنها أرادت القول إن الانتفاضة الأولى لم تكن منفصلة عن الثورة الفلسطينية المعاصرة، وإن التداخل بين القوى الإسلامية والوطنية على طريق الكفاح ظل موجودًا، وإن مراكمة الأفعال في التاريخ، مهما كانت صغيرة، قد يفضي إلى أحداث كبرى، وإن الحلم الذي بدأ منذ أواسط السبعينيات وولدت حماس مع انفجاره، ظل موجودًا باستمرار هذه الحركة التي حولت قطاع غزة إلى قاعدة للمقاومة فوصلت راهن المقاومة بتاريخها الطويل الممتد.