مهما زادت سنوات عمرك، لن تستطيع أن تقتل ذلك الحلم الذي نما في عقلك الطفل حينما كان يمكن إحصاء عمرك هذا على أصابع اليد الواحدة، حتى وإن اضطررت في نظير ذلك لمواجهة الأصدقاء والأقارب والأهل وعوام الناس، وحتى نفسك البالغة. الطفولة تظل مؤثرة مهما ادعينا أنها قد وُئدت بفعل الزمن. وداخل كل طفل في هولندا صرخة لفريق مانشستر يونايتد، صرخة تمثل حلمًا لا يمكن ترويضه، حسبما ذكر[1] السير «أليكس فيرجسون»، المدرب التاريخي للمانيو، وعلى لسان صفقته الكبرى الأخيرة «روبن فان بيرسي».

بعدما أتم الشياطين الحمر تعاقدهم زهيد الثمن مع المهاجم الهولندي، وفي الجلسة الأخيرة بين مدرب الـ«جانرز»، «أرسين فينجر»، ونظيره داخل «أولد ترافورد»، ود الأول قول جملة أخيرة قبل إنهاء الحوار، فاختتم المشاورات كافة بجملة واحدة: «أنت لا تعرف مدى براعة اللاعب الذي حصلت عليه، لا تفهم بعد من هو فان بيرسي».

كل السنين التي مرت من الواقعة وما قبلها وما تلاها، تضع أمامنا حقيقة كبرى؛ أنه وعلى ما يبدو أننا جميعًا، بما فينا «أرسن»، لم نفهم من هو فان بيرسي بعد.


تعريف آخر للفن

كان لديه من العُمر حينها أسبوعان فقط. تحدثت مع عراف عنه، وأخبرني أنه سيكون ملكًا في الرياضة وسيكون ملكًا على المنتخب الهولندي. أنا أيضًا آمنت بذلك. حينما كان لا يكاد يقف على قدميه كان يعبث بالكرة، كل الكرات في المنزل كانت لعباته. بالونات، كرات تنس وكرات شاطئ وكرات بلاستيكية، ولا سيما كرات القدم. كل شيء يمر أمامي الآن بالتصوير البطيء. إنه فقط كان يتغير عمره لكن دائمًا مع الكرة.
الوالد «بوب فان بيرسي» مُتحدثًا عن طفولة ابنه «روبن».

وُلد «روبن» في الـ6 من أغسطس/آب لعام 1983. كان الابن الثالث للأسرة التي تعيش في مدينة «روتردام» بهولندا، كانت عائلة فنية من الجزع حتى آخر ورقة. الأب «بوب» كان نحاتًا متزوجًا من «جوسيه راس» التي كانت تهوى الرسم ومحاضرة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة. توارث الفن من الأبوين وحتى الأبناء، فنشأت الطفلتان الأولتان، «كيكي» و«ليلي»، كفنانتين بالجينات، أما الأخ الأصغر فقد كان يهوى فنًا من نوعٍ آخر.

يقول «فان بيرسي» إن عائلته كانت مميزة جدًا، يمكن أن يروا في شجرة عادية شيئًا مميزًا، أما هو فيراها شجرة طبيعية فقط، ومع ذلك لم يشتهر فن الأبوين ولا الفتاتين كما اشتهر فنه الخاص المقتصر على كرة القدم. تلك الحقيقة كانت نعمة ونقمة بالنسبة لهم، فمهما كان الفن الذي أبداه أحدهم، ظاهرًا في حد ذاته، كان الجميع يذكرونهم على أنهم ذوي «روبن» ولا شيء آخر.


التمرّد منذ الصغر

مرت السنون سريعًا وانفصل الأبوان عن بعضهما البعض، حينها كان يبلغ من العمر 15 عامًا فقط. منذ ذلك الحين اتخذت حياة أمه مسارًا مغايرًا. انتقلت من مدينة العائلة إلى مدينة أخرى، «زيلاند». حياة الهولندي الاستثنائي ظلت مرتبطة بوالده بشكلٍ كبير، ولم تظهر أمه متحدثة عنه علانية إلا في مناسبات بسيطة جدًا، حملت جميعها من الفخر الطبيعي بالنسبة لها كأم يقوم ابنها بشيء استثنائي.

كان فتى صعبًا، مفرط النشاط، عندما انفصلت عن زوجتي جاء ليعيش معي حتى صار في العشرينات من عمره، حين بلغ من العمر 12 عامًا واجهت صعوبة كبيرة في السيطرة عليه.
الوالد بوب عن شخصية ابنه في مراحلها الأولى.

التحق الـ«روبن هود» بمدرسة محلية في مدينته «روتردام»، لكن عكس الحال مع كرة القدم، فقد كان طالبًا سيئًا بشهادة معلميه كافة.يُرجع مدرّسه للتاريخ السبب في ذلك أنه حصل على لقب «يوهان كرويف القادم» حينما كان يبلغ 12 عامًا فقط. فلماذا يسعى للدراسة وللحصول على الدبلومة؟ هنا تشخيص منطقي للغاية.

السبب السابق ذكره جعله كثير الشغب، أضف إلى ذلك التأثر النفسي بانفصال أبويه ودخوله في مراحل غير مستقرة أسريًا. كان دائمًا ما يُطرد من فصله، ويتعامل مع زملائه بتعالٍ واضح. مديرة مدرسته قالت بأنها لم تعامله أبدًا كطالب أو شخص استثنائي، لم تكن تعتقد أنها مضطرة لذلك، فقط عليها معاملته كطالب وعلى والديه معاملته كما يُريدان هما، لكنها كذلك لم تُعامله كفتى متعجرف، فقد كانت تعرف أن مشكلته الوحيدة هي كرة القدم، لذا كانت تتمكن دائمًا من معاملته على هذا النحو.

كلما تم إرساله خارج الفصل، كان عليه أن يأتي إلي. كانت لديه دائمًا مشكلة واحدة وهي كرة القدم، كرة القدم، كرة القدم!

تصريح «سونيا لاجينديك»، مديرة مدرسة فان بيرسي في الطفولة.


الاستثنائية منذ الصغر

روبن فان بيرسي وعائلته، فان بيرسي الصغير،
فان بيرسي يعانق والدته (يمين) ويداعب الكرة برأسه مع والده (أعلى اليسار) وأختيه

كانت بداية الهولندي في ساحة بجوار المنزل، حتى بلغ الخامسة من عمره وقرر أن يلتحق بـ إس بي في إكسلسيور. وقتها كان الفريق لا يقبل أقل من عمر 6 سنوات في الفريق، لكنه مع ذلك دخل إلى الاختبارات وأبدى نضوجًا غير عادي. آد بوترز مدرب فريق الشباب آنذاك قال بأنه كان استثنائيًا من اللحظة الأولى، فقط 13 مترًا ركض بالكرة أثبتت أنه يلعب بكلتا القدمين وأنه لا يمكن أن يكون طبيعيًا بهذا السن. لذا كان مضطرًا لضمه للفريق بالرغم من صغر سنه.

إحدى ذكريات طفولة روبين التي ذكرت على لسان أبيه.

سنوات بسيطة وانتقل ذلك الفتى إلى فينورد ثم أرسنال، وتوالت الرحلة ليصبح الصفقة الأخيرة الكبرى لأحد سادة التدريب في إنجلترا. في ذلك الوقت كان مانشستر يونايتد يمتلك مايكل كاريك وبول سكولز، كلاهما قال عنهما «فيرجسون» إنهما أحد أفضل المدربين الذين تدربوا تحت يده. لكنه كذلك اعترف بمشاكلهما التي عانا منها مع سرعة تحرك فان بيرسي في الخط الأمامي. بتلك الميزة كُسر[1] أحد عيوب الفريق في الموسم الذي سبق وصوله إلى أولد ترافورد وهي التمرير المبالغ فيه، حسبما أكد[1] السير نفسه.

كان قائدًا في مانشستر كما كان الحال في لندن، أينما حل وارتحل نادت الجماهير باسمه. «فينجر» يسميه دائمًا بلاعب أرسنال حتى بعد رحيله بشبهة خيانة، و«فيرجسون» يعتقد أنه واحد من القطع النادرة التي شَرُف أن تعامل معها. في الصغر سُمي مدرج في ملعب إس بي في إكسلسيور باسمه، تحول الأمر من يوهان كرويف القادم إلى روبن فان بيرسي نفسه، لا داعي لوضع الوصف لإظهار ما هو عليه. بعد هذه السنوات الطويلة، تحققت نبوءة العراف الذي تحدث معه والده قبل وعيه للحياة، روبن بات ملكًا على الساحة الرياضية.


طموح الطفولة الذي لا يُقتل

لن تعاني البحث حول العلاقة الوطيدة بين فان بيرسي وبين مدربه الأسبق فينجر. اختاره الأخير منذ أن كان شابًا يافعًا، عامله كما عامل الكثير من اللاعبين في ذلك السن مُخرجًا منهم أفضل ما لديهم. ثمان سنوات أظهر فيهم الفتى الطائر الهولندي ما لم يكن يخطر على بال أحدهم بالرغم من وضعه في خانات الاستثناء. بطولتان للدرع الخيرية وبطولة وحيدة لكأس الاتحاد كانت محصلة رحلته الطويلة مع الجانرز، لكن النهاية لم تكتب بحروفٍ من ذهب.

انتهى موسم 2011/12 والهولندي لم يُعلن عن تجديد تعاقده مع الجانرز. في ذلك الوقت شعر السير أن الفرصة سانحة لضمه لفريقه، حتى وإن كانت المنافسة عليه ضد مانشستر سيتي ويوفينتوس وغيرهما. مناوشات تعاقدية كان فيها طرف لندن هو الأضعف بعدما أكّد فان بيرسي أن رغبته هي الرحيل. كان على «إيفان جازيديس» و«أرسن فينجر» إيجاد عرض مناسب بقيمة مرضية ليس أكثر، خروج اللاعب كان لا مفر منه.

البيان العاطفي الذي أصدره حمل جليًا سبب رحيله. إنه يسعى لبطولات ومجد أكثر، وذلك يتنافى مع خطة النادي الجديدة التي تسعى للمال فقط وما من دونه شيء: تقليل نسب الأجور وارتفاع تكاليف التذاكر.. إلخ. لذا لم يتفق الطرفان على التجديد. حتى هذه النقطة وكان يمكن وضع روبن في أي خانة إلا خانة الخائنين، لكن انتقاله إلى اليونايتد تحديدًا وفوزه معهم باللقب الـ20 كان ذلك أكبر مشاكل الجماهير في لندن.

السبب حسبما رآه فينجر كان المدرب الهولندي المساعد لفيرجسون، ريني مايلينستين، الأخير تحدث مع فان بيرسي ووكيله وأقنعهما بقيمة اللاعب بالنسبة لمدرب الـ«ريدز» وعن المجد الذي يمكن أن يحصلا عليه سويًا، كونهما من دولة واحدة سهّل الأمر في رأي الفرنسي.

من جانب آخر كان لفيرجسون رأي مغاير. «فيرجي» في قرارة نفسه قد درس الموضوع بتأنٍ منطلقًا من سؤال واضح: لما قد يقرر الرحيل في هذه الفترة؟ الإجابة لن تخرج عن سببين: إما رغبة في الانتصار أو رغبة في المال. الأخيرة لن يمكن التنافس فيها مع مان سيتي وحتى يوفينتوس، الأخير كان قد عرض أجرًا ضخمًا للاعب، لكنه كان ذكيًا للدخول من الرغبة الأولى وقد نجح.


أكثر من مجرد خيانة

أتذكر في يومٍ ما كان خسوفًا للقمر، أخرجته من فراشه في وقت متأخر من الليل، وقلت: هيا، يجب أن أريك شيئًا. لذلك ذهبنا للخارج ووقفنا على الجسر حيث يمكننا رؤية ظل الأرض وهو يتحرك ببطء فوق القمر، فقلت له حينها: انظر، كان ذلك ظلنا. الاستنتاج الذي حصل عليه ختامًا هو أننا نحيا فوق كرة ضخمة، كل العالم بالنسبة له كان عبارة عن كرة.
روبن فان بيرسي، أرسنال، خيانة فان بيرسي، فان بيرسي الصغير،
عدة مظاهر لتعلق روبن بأرسنال منذ الصغر وانتقال ذلك التعلق لابنه الصغير

المقاطعة التي نشأ فيها الهولندي كانت متعددة الجنسيات.رفقاء طفولته كانا مغربيي الأصل ولذلك لديه تعلق منذ الصغر بهذا البلد العربي. بعد سنوات تزوّج من المغربية «بُشرى البالي»، وحصلا سويًا على مولدين هما: «دينا» و«شاكيل». سنوات قليلة وقُدر لهما الانفصال على إثر واقعة اغتصاب اتُهم فيها الهولندي من قبل إحدى فتيات الليل.

عام 2005، تم القبض على مهاجم فريق أرسنال آنذاك بسبب شبهة اغتصاب داخل أحد الفنادق بموطنه هولندا، وأثناء التحقيق اعترف «روبي» بأنه تواجد فعلًا في ذلك الفندق الذي يبعد عن منزل زوجته 200 ياردة فقط، وفي نفس وقت الواقعة، لكنه نفى أن يكون قد قام باغتصابها فعلًا. لكن ولا جهات التحقيق ولا زوجته قد صدقا ادعاءه وتم الانفصال بعد عمر قليل جدًا للزواج.

ما كان معروفًا عن زوجته أنها كثيرة التواجد على موقع «تويتر»، وكثيرًا ما انهالت بالمدح عليه من تلك المنصة، واستخدمتها أيضًا في نقده بعد الانفصال. انتقادها كان لاذعًا جدًا ووصل حد السب العلني في كثير من الأحيان، تحديدًا في تلك المرة التي تمنت الموت له فيها، وأن يفشل في كافة شئون حياته. بعدها بوقتٍ قليل أعلن خروجه من لندن نحو مانشستر، لذا تظن بعض الجماهير في أنها كانت أحد أسباب رحيله عن أرسنال لأنها كانت شديدة التعلق بالنادي اللندني.

ذات مرة قال الهولندي إن ابنه الوحيد لا يُناديه إلا بإلصاق اسمه بأرسنال؛ ما يعني أن حب ذلك الفريق كان شيئًا مُسلمًا به في أسرته الصغيرة والكبيرة أيضًا، حسبما حكى والده في حوار سابق، لذا يمكن القول إنه، ومهما كان السبب الدفين في نفسه، فإن رحيله عن الفريق كان خيانة ليست جديدة عليه، لكنها لم تكن فقط خيانة لناديه ولجماهيره، لكنها لأهله وأبنائه أيضًا.

المراجع
  1. Alex Ferguson, My Autobiography