عام 1870 تأسست شركة «ستاندر أويل» للنفط. بعد 9 سنوات فقط من تأسيسها صارت هي الشركة المسيطرة على ما يُقارب الـ90% من نفط الولايات المتحدة الأمريكية. صاحب تلك الشركة كان مدفوعًا بطموح لا حدود له، يقول إنّه تعلم ذلك الطموح من والده. الوالد المعنيّ هو دافيسون روكفلر. كان الأب مشهورًا بالخداع والغش، وبهما استطاع تكوين قدر من المال يكفيه لإعالته عددًا من الزوجات والأبناء الكُثر الذين أنجبهم من تلك الزيجات المتعددة.

أما الابن المقصود فهو جون روكفلر، وهو أحد خمسة أخوات في واحدةٍ من تلك الأسر. يقول جون إنّه تعلم أن يقنع بما يُتاح له، وأن يطمح دائمًا نحو المزيد. بجانب طبعًا تعلمه لممارسة الخداع كأساس لحياته كلها. فحين أتى أوان خدمته العسكرية كان متاحًا وقتها أن يدفع الأغنياء مقابلًا ماديًا للفقراء كي يدخلوا الجيش بديلًا عنهم. لم يكن جون روكفلر بذلك الثراء، لكن الهروب من الجيش كان دافعه لأول عمليات النصب، وأولى خطوات الثراء.

عبر تهريب بعض المنتجات استطاع أن يكسب مالًا يُمكنه من توفير المقابل المادي لهذا البديل. كان التهريب يعتمد على ندرة بعض المنتجات في أماكن معينة ووفرتها في أماكن أخرى، لكنه أعطى لروكفلر لمحة عن المبدأ العام الذي سوف تمضي عليه حياته بعد ذلك. استغلال المتاح سواء كان نادرًا أو وفيرًا. وحين بدأ النفط في التدفق من أراضي الولايات المتحدة كانت الشركات لا تستطيع التعامل مع تلك الكميات المهولة من النفط. فصارت تأخذ ما يكفي لملء براميلها، ثم تفتح الطريق أمام باقي النفط ليتسرب نحو المسطحات المائية.

روكفلر أخذ هذا النفط المهدور، وعبر وسائل شديدة البدائية للتنقية والاستخلاص، استطاع أن يحصل على قدر معقول من النفط يستخدمه في زيوت التشحيم وشموع البرافين. كان رجلًا هامشيًا على مائدة رجال النفط العمالقة، يقتات على الفُتات المتبقي منهم، لذا لم يكترث له أحد.

لا تترك الهامش لأحد

لكن تلك العمليات البسيطة أكسبت روكفلر خبرة مهولة في عمليات تنقية النفط. وصارت مصافي النفط أحد أبرز اهتماماته، وبدأ في تطوير ما يملك من مصاف، حتى صار عام 1870 عام ميلاده كصاحب أكبر مصفاة نفط في العالم. لذلك شهد نفس العام تأسيس شركته العملاقة، بعد انفصال روكفلر عن باقي شركائه في تلك المصافي.

كان روكفلر واعيًا للهامش الذي أتى منه، كلما لمح منافسًا سحقه، وكلما وجد مصفاة نفط تُولد اشتراها بأضعاف ما يطمح إليه أصحابها. لهذا صارت كافة الشركات الراغبة في العمل في مجال البترول تنتظر موافقته على شروعها في دخول المجال أولًا، وشراكته الازمة معاها ثانيًا. وفي غياب المنافسين كان من المفترض أن يرفع الرجل أسعاره، لكنه فعل العكس. فبعد أن خفضت شركات الشحن والتوزيع المقابل المادي الذي تطلبه منه، خفض هو الآخر أسعار منتجات النفط التي يُوردها، بالتالي صار هو المُفضل لكل المتعاملين في المجال.

بحلول عام 1882 كان روكفلر قد صار الأخطبوط المسيطر على عالم النفط في الولايات المتحدة. ليس الإنتاج والتكرير فحسب، بل حفر الآبار واستغلال المنتجات، ونوع المنتجات واستخداماتها وأسعارها. بدأت قبضته في التزايد على عالم النفط، حتى صار هو الوحيد في السوق، بلا أي منافسة حقيقية، أو منافسة على الإطلاق.

بعد سنوات لاحقة وجد روكفلر نفسه أمام قرار قضائي أمريكي بخصوص العملاقة ستاندر أويل. استنادًا لمبادئ مكافحة الاحتكار، أمر القضاء بتفكيك الأخطبوط العملاق لأذرع منفصلة لا تتصل أي منها بالعقل المركزي لها. بلغت ضخامة الشركة أنها انفصلت إلى 34 شركة أصغر. تلك الشركات التي نصفها بالصغرى لم تكن صُغرى إلا مقارنة بالشركة الأم، أما هي نفسها فقد وُلدت عملاقة. فمنها «إكسون» ومنها «موبيل» اللتان سوف تجدان طريقة جديدة للالتحام من جديد في شركة إكسو-موبيل.

بينما صارت باقي الشركات الأخرى منفردةً نظريًا، لكن كان روكفلر هو من يصدر الأوامر الرسمية لجميعها. فتراكمت في حساباته البنكية ثروة قاربت المليار دولار، يبدو الرقم بسيطًا في عالم اليوم، لكنه كان مبلغًا فلكيًا عام 1911. فلم يكن معتادًا أن يمتلك أحد هذا الرقم، إلى درجة أن روكفلر صار أول من يُلقب بالملياردير في القرن العشرين.

اجتماع مجلس قيادة العالم

وجود روكفلر في الخلفية جعل تلك الشركات تستمر في تحقيق طموح صاحبها، السيطرة على كل نقطة نفط في كل مكان في العالم. حين أدرك أن روكفلر في أواخر حياته أن ذلك الحلم مستحيل، اتجه للأعمال الأخيرة بجانب تسيير ما في يده في نفط. فقد تبرع بما إجماليه نصف مليار دولار. وانتهت حياته بأزمة قلبية عام 1937، لكن الحلم الذي رواده لم ينته بتلاشي جسده.

فقبل وفاته، وفي عام 1928، حدث اجتماع غيّر موازين القوى في عالم النفط للأبد. حضر الاجتماع هنري ديتريدينج، صاحب لقب نابليون النفط. وجاء بصفته ممثلًا عن شركة «شِل» النفطية الهولندية الملكية. وكان الشركة في أساسها عبارة عن اندماج عملاقين، هنري من جهة، وشركة «شل» صاحبة أحد أكبر الأساطيل الناقلة للنفط في العالم.

بجوار هنري جلس جون كدمان، جاء ممثلًا عن العملاقة «بريتش بتروليوم». تلك الشركة التي اشترى فيها وينستون تشرشل نسبةً كبيرة من أسهمها ليُطور الأسطول البحري البريطاني ليعتمد على النفط بدلًا من الفحم. وباتت الشركة هي الشغل الشاغل للحكومات البريطانية، فالنفط وتأمينه صار قضية أمن قومي. أما الثالث فكان ممثلًا عن روكفلير وشركته «استاندرد»، قبل التفكك.

اتفق الثلاثة على مبدأ بسيط للغاية، المنافسة تخدم السوق، لكن تضر بالمال. فالأسعار المنخفضة تفيد الزبائن، لكن تخدش الأرصدة البنكية. لهذا لا بد من السيطرة على مجال النفط، دون الدخول في فخ الاحتكار أو معارضة القوانين. لتحقيق هذا الهدف، اتفق الثلاثة على العمل بتناغم لا تنافس. واتفقوا كذلك ألا يوجد أي نص مكتوب أو مُسجل لهذه الاتفاقية. ولا تشهد عليه إلا قلعة مهجورة في اسكتنلدا، حيث جرى الاجتماع بعيدًا عن أنظار العالم، حكومات وشعوبًا.

الحكومات تنزعج من التجاهل

بعد الاتفاق بيوم بدأت شركات جديدة تنضم للثلاثة الكبار، فالتحقت شركات «موبيل، وتكساكو، وجولف، وشيفرون»، بهذا الركب. وبهذا وُلدت الإمبراطورية التي ستحصل على لقب «الأخوات السبع»، والتي ستتحكم في عالم النفط لسنوات طويلة. فلم يُكتشف هذا الاتفاق، ولا مصطلح الأخوات السبع، إلا بعد 20 عامًا بتلاحق التسريبات وغياب النفي.

بدأت تلك الشركات في تقديم عروض متقاربة القيمة للدول العربية، أو النفطية عمومًا، لتكون هي المشرفة على استخراج وتكرير النفط منها. تستغل الشركات بذلك غياب البنيّة التحتية التي تؤهل الدول للرفض واستخراج وتكرير نفطها بنفسها. وبما أن العروض متساوية، فلم يكن هناك مفاضلة كبيرة بين شركة وأخرى.

دخلت «الأخوات السبع» إيران، ثم السعودية. ووضعوا اتفاقًا جديدًا بينهم أنه يُمنع على أي شركة أن تحتكر كل نفط الدولة لها. فكل شركة تتوقع، بناءً على دراساتها، ظهور النفط في منطقة معينة، يمكنها توقيع عقد شراكة مع الدولة على الحفر والتنقيب في تلك المنطقة فقط. حتى شركة «توتال» الفرنسية التي لم تكن ضمن الأخوات السبع التزمت بالمبدأ. وباتت الثروة النفطية للدول مقسمةً بالتساوي بين العمالقة.

وحين بدأت بعض الدول، مثل السعودية، في التململ من سيطرة الأجانب على نفطها. وافقت الشركات الأجنبية على تكوين شركة وطنية تتبع الدولة، لكنها تبيع لاحقًا للعمالقة السبعة. ففي حالة السعودية وُلدت شركة «أرامكو»، التي كانت مزيجًا من شركة «إكسون، وشيفرون، وموبيل، وتيكساكو». لكن كانت الشركة رغم تبعيتها للمملكة، غير مُلزمة بأي قرار سياسي من المملكة، تبيع الشركة إنتاجها لمن تريده، وتحصل السعودية على نصيبها فحسب.

التلاعب بالسياسة

بعد فضيحة «الأخوات السبع» بدأت ملاحقات قضائية للشركات بسبب التلاعب بأسعار النفط وسوقه. المفوضية الأمريكية للتجارة استدعت الشركات المشتبه فيها رسميًا لساحة المحكمة العليا الأمريكية. لكن الرئيس الأمريكي هاري ترومان تدخل ليؤكد أن هذه الترتيبات التي تراها المفوضيّة مريبة وغير شرعية، تفيد الولايات المتحدة ولا تضرها. لهذا اختفت القضية من المحاكم، واستمر التحالف في خطته المرسومة.

رغم عدم صدور قرار جنائي ضد الأخوات السبع، فإن الدول التي تعمل بها الشركات بدأت في إثارة القلاقل ضدها. فمثلًا حين ثار عمال شركة «بريتش بتروليوم» العاملين في إيران، ومعهم محمد مصدّق، أصرت الشركة على قمع التمرد. لكن الضغط الشعبي زاد إلى درجة اضطرار الشاه لتعيين مصدّق رئيسًا للوزراء، فقرر تأميم النفط وترحيل المهندسين البريطانيين. تكاتف الأخوات السبع ومنعوا أي أحد من شراء نفط إيران، ثم شاركوا في الانقلاب العسكري على مصدّق، وعاد نفط إيران لهم.

حين أعلن جمال عبدالناصر تأميم قناة السويس، وحدوث العدوان الثلاثي، ارتفعت أسعار النفط. لكن قررت الأخوات السبع عدم زيادة عمولة الدول من عملية البيع بثمن مرتفع. لذلك اجتمع مندوبو: الكويت والسعودية والعراق وإيران وفنزويلا للنقاش في تلك النقطة. فتمخضّ الاجتماع عن ولادة مؤسسة «أوبك».

وقعت الأخوات السبع في الخطأ الذي عاش روكفلر حياته يتجنبّه، عدم تجاهل المنافس. تجاهل الأخوات هذا المولود الضعيف، ظنًا منهم أن إمكانيات الدول لا تؤهلها للعمل بمفردها، أو الاجتماع أمر نظري فحسب. حتى أتت حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973 لتُقدم «أوبك» نفسها للعالم بصفتها منظمة ذات قرار وسيادة، وقطعت النفط عن الولايات المتحدة لمساعدتها إسرائيل في حربها.

بدأت الأخوات السبع في التعامل مع الواقع الجديد، وحافظوا على مكانتهم في الأسواق العالمية، عبر إدراك وجود لاعبين جدد في الساحة، وأنه لا بد من التشارك في الأرباح بدلًا من الاستئثار بها. ورغم خفوت نجم بعض الشركات المكوّنة للأخوات السبع، وبزوغ نجم شركات أخرى، فإن «الأخوات السبع» يظل مصطلحًا قادرًا على التجدد، وتنضوي تحته كل حقبة مجموعة جديدة من الشركات بجانب العمالقة الأوائل، فالأسماء لا تهم، المهم أن يبقى حلم روكفيلر حيًا، وأن يصب النفط دائمًا في مصلحة الحسابات البنكية لأباطرة الصناعة، لا في مصالح الدول أو الشعوب.