حين أسفرت قرعة دوري أبطال أوروبا عن مواجهة بين روما وبرشلونة في دور ربع نهائي البطولة، لم نهتم بوجود الذئاب من الأساس، وبدأ الجميع يفكر فيما ستفعله برشلونة في نصف النهائي وأي المنافسين أنسب لمواجهته. مرت الأيام تباعًا حتى وصلنا لموعد مباراة الذهاب على ملعب «كامب نو».

الأغلبية الساحقة لم تتابع مجريات المباراة واهتمت فقط بالحدث الأكبر الذي يتواجه فيه رفاق «محمد صلاح» ضد القوة الإنجليزية الأعظم هذه الأيام – أو هكذا كنا نظن – مانشستر سيتي، على أن تُعرف نتيجة مواجهة الكتلان ضد بني العاصمة بعد انتهاء دقائق المباراة كاملة، وهو الوضع الذي تكرر مرة أخرى مع مباراة العودة بنفس الأحداث تقريبًا، حتى بعد انتهاء مباراة الليفر ضد مان سيتي بثلاثية نظيفة لصالح الأول، كنا ننتظر حدوث السيناريو مُشوق على أرض ملعب الاتحاد ولا غيره، لكن رياح الواقع لم تُجارِ سفن الخيال فينا.

تمكن رجال «إيزيبيو دي فرانشيسكو» من الوصول إلى نصف نهائي البطولة الغالية، للمرة الأولى منذ عام 1984، بعدما استطاعوا قلب الطاولة على الـ«بلوجرانا» والفوز بثلاثية نظيفة تعدل النتيجة لـ4 أهداف مقابل مثلهم لكل فريق، بما يضع الفريق العاصمي في موضع أفضلية للصعود -بمجموع اللقاءين – نحو نصف النهائي الحلم، بلا أي طموح يذكر في تلك اللعبة بعد تلك الليلة الحالمة.

إنه تدشين جديدة لعملية «ريمونتادا» كاملة الأركان، ليس فقط على ميسي وزملائه، ولكن علينا كجماهير وعلى ظنوننا، وعلى الإثارة التي كنا ننتظرها من «جوارديولا»، وعلى من قرر فقدان الثقة بكل من «دي روسي»، «كولاروف»، «خوان خيسوس» و«دجيكو».


الشوط الأول: الحظ يخدم المجتهدين

روما، برشلونة، دي فرانشيسكو، فالفيردي، دوري أبطال أوروبا،
تشكيلة الفريقين وتقييمات اللاعبين – هوسكورد

بإدعاء واقعية مُعتاد، قرر «فالفيردي» ألا يُعدل من ذلك الرسم الذي استطاع أن يحقق به الفوز في الذهاب بفارق ظن أنه مريح، بأربعة أهداف لهدفٍ وحيد، ودخل إلى اللقاء بـ4-4-2 مسطحة مدعمة بنفس تركيبة الطرف الأيمن المكون من «سيميدو» و«سيرجي روبيرتو»، الدفاع ثابت: «صامويل اومتيتي» و«بيكيه» في القلب، ثم معاونة بين «بوسكيتس» و«راكيتيتش» في محور وسط الملعب. الطرف الأيسر يشغله «إنييستا» ومن ورائه «ألبا» ويعتلي الجميع «ميسي» كمسئول لنقل الهجمات المرتدة و«سواريز» كرأس حربة.

ذلك هو الشكل الذي بدأ به اللقاء السابق وبنفس التعليمات، ما يمكن أن نسميه تطبيقًا حرفيًا للقاعدة التي تؤكد لك ضرورة عدم التغيير في أي شيء طالما تحقق نتائج. الكيفية التي تحققت بها تلك النتائج غير مهمة بالمرة، فقط النتيجة هي الأساس والبقية ما هي إلا بعض الفرعيات.

في المعسكر المعاكس، كان قرار الشاب «دي فرانشيسكو» هو التكييف: «أليسون» في المرمى يحميه ثلاثي دفاعي مكون من «مانولاس»، «فازيو» و«خوان خيسوس». خماسي خط الوسط ترك فيه مهمة الطرف الأيسر كاملةً لعناية «كولاروف»، «ناينجولان» و«ستروتمان» إرتكازين متحركين للأمام والخلف حسب الحاجة وتأمين من المحور عن طريق «دي روسي»، وأخيرًا «فلورينزي» في الجانب الأيمن، ثم «شييك» ليعاون «دجيكو» ومستقبلًا لكل الكرات الثانية الساقطة منه.

قبل لقاء الذهاب، عانى الفريق الإيطالي من غياب «جنكيز أوندير» و«راديا ناينغولان»، ذلك الغياب اضطر المدير الفني للاعتماد على 4-5-1 دفاعية تعتمد على الطرف أكثر من العمق. ثنائية «فلورينزي-بيريز» على الطرف الأيمن، ويقابلها «بيروتي-كولاروف» على نظيره الأيسر، لكن كليهما أثبتا فشلًا في الجوانب الدفاعية والهجومية على حدٍ سواء، وخاصة الدفاعية عند الرواق الأيسر، حيث فشل «بيروتي» في افتكاك الكرة في 8 من أصل 10 مرات حاول فيها استخلاصها، مما وضع «كولاروف» في وضعية دفاعية سيئة أغلب أحداث المباراة.

وبغض الطرف عن الطريقة التي خسر بها روما في الموقعة الأولى بإسبانيا، كان الفريق يحتاج إلى تعديلاتٍ عدة في الموقعة الثانية بإيطاليا خاصة بعد استعادة الغائبين، فجاء القرار بالاعتماد على 3-5-2، الشكل الذي منح أصحاب الأرض أفضل أداء ممكن من كل لاعبيه.

روما، برشلونة، دي فرانشيسكو، فالفيردي، دوري أبطال أوروبا،
أماكن تمركز اللاعبين طوال أحداث المباراة – هوسكورد

الرسم المسطح لـ3-5-2 التي اختارها الشاب الإيطالي كان أكثر اتساعًا من ذلك الذي اختاره الإسباني لفريق برشلونة، بالتالي كان هناك ضرورة ملحة لفتح الملعب بشكلٍ أكبر من جانب الضيوف مما يسمح لأصحاب الأرض بالتواجد بمساحات جيدة في المناطق الدفاعية الخطرة على مرمى «تيرشتيجن». من الدقائق الأولى، وحتى من قبل صافرة البداية، بدا أن هناك عملًا واضحًا من جانب «دي فرانشيسكو» على عكس نظيره الذي حاول فقط ألا يغير شيئًا مما قدمه الفريق في الذهاب خوفًا منه من تعطيل تلك التركيبة التي يبدو أنه لا يعلم كيف تعمل من الأساس. كل ما كان يحتاجه رفاق «دي روسي» هو هدف افتتاحي في وقتٍ مبكر من المباراة يسهل عملية العودة في النتيجة، وقد كان.


الشوط الثاني: أين ميسي؟ أنا لا أراه

كما هو معروف، الاعتماد الأكبر في الفريق الكتالوني ينصب على النصف الثاني من كل الروايات التي خاضوها ذلك الموسم، ذلك التفضيل صنعه «إرنيستو فالفيردي» من البداية كأحد القرارات الدفاعية التي تبدو غريبة على فريق بهوية برشلونة، وكالعادة، تزداد قيمة ذلك بالنسبة للإسباني كلما كانت النتيجة من تصب في صالحه، حيث يندفع الفريق الخصم نحوه أكثر فأكثر فتزداد المساحات التي تمكن «ميسي» من قيادة هجمات مرتدة مريحة أمام خط دفاع مهلهل وبعدد محدود من اللاعبين.

كل الظروف كانت مثالية للقيام بذلك في النصف الثاني عدا شيء واحد فقط وهو واقعية، لكن حقيقية هذه المرة، من الجانب الإيطالي. يحسب للـ«ـجيالوروسي» هدوءه في الدقائق الأولى من الشوط الثاني، وعدم اندفاعه بشكلٍ غير محسوب للهجوم، فقط استمرار في منظومة الضغط المتقدم بـ«دجيكو» وخط الوسط بالكامل عدا «دي روسي» مما منع الكتلان من بناء هجمة طبيعية ومفضلة من خط الدفاع إلى خط الوسط وهكذا. ذلك الهدوء والتنظيم في الضغط حرم الضيوف من ميزتهم الأكبر وهي الاعتماد على الأرجنتيني في المساحة، بالتالي انخفضت المحاولات الهجومية لصالحهم بشكلٍ ملحوظ جدًا.

البرسا خرج من الشوط الأول بتسديدة وحيدة على مرمى الخصم في صورة تجعل هناك سؤالًا واضحًا يجب طرحه: «أين ميسي؟»، وهو تساؤل لا يضع عبء ما جرى خلال 45 دقيقة أولى على لاعبٍ بعينه، ولكنه يضع الفضل على فريق قرأ خصمه جيدًا فعرف أنه لا يملك أي خيار هجومي سوى عبقرية «ليو» في استخدام الكرة في المساحات الواسعة وغيرها، فكان الخيار الأفضل والوحيد هو منع ذلك اللاعب من الحصول على أي فرصة في البناء.

موقف 2 ضد 1 كان أسهل ما يمكن الحصول عليه في ظل رسم روما للمباراة، سواء بـ3-5-2 في الحالة الهجومية أو 4-1-4-1 في نظيرتها الدفاعية، هناك لاعب زائد في كل مركز من مراكز الملعب دوره فقط البحث عن «ميسي» ومنعه من البناء بأريحية. فقد الأرجنتيني الكرة في 5 مرات طوال أحداث المباراة 4 منها تم استخلاصها منه بشكلٍ مباشر، ونجح في المراوغة في 3 مراتٍ فقط طوال 90 دقيقة كاملة بالتعادل مع الظهير الأيسر للخصم، فقط حاول أن تتخيل ميسي يتعادل مع ظهير أيسر في عدد المراوغات، وقتها ستعرف كيف كان الوضع الدفاعي على قائد الـ«بلوجرانا».


زعيم الأجواء الإيطالي

الجانب الجماعي عند الطليان لم يكن الأفضل والأكثر ظهورًا، فلقد قدم الفريق صورة فردية عند كل لاعبيه واضحة بشكلٍ ملحوظ. دي روسي ومانولاس اللذان قد أسهما بشكلٍ أكثر من مباشر في خسارة فريقهما في الذهاب برباعية نظيفة بعدما أحرزا هدفين عكسيين، عادا ليقدما أداءً أكثر من ممتاز في عودتهما، ولولا الأداء الذي قدمه البوسني «إيدن دجيكو» لكان أحدهما هو أفضل لاعب في المباراة إجمالًا.

الصراعات الهوائية للبوسني دجيكو – هوسكورد

لم يخسر «دجيكو» أي صراع هوائي طوال أحداث المباراة، تمكن من افتتاح التسجيل في دقائق مبكرة جدًا من عمر المباراة، كان صاحب الهدف الذي جعل الأفضلية لصالح روما في مجموع المبارتين، وهو الذي تسبب في ركلة الجزاء التي جاء منها الهدف الثاني والذي سهل كثيرًا من مهمة أصحاب الأرض في العودة.

لا شك أن البوسني هو اللاعب الأفضل في تلك المباراة من بين كل المرافقين والخصوم، حيث سهل تفوقه الدائم على خط دفاع برشلونة بالكامل من مهمة فريقه في تحقيق تلك النتيجة التاريخية التي لن تنسى بسهولة، أو أنها لن تنسى بالمرة.


في رثاء الواقعية

روما، برشلونة، دي فرانشيسكو، إدين دجيكو، دوري أبطال أوروبا،
روما، برشلونة، دي فرانشيسكو، إدين دجيكو، دوري أبطال أوروبا،

نحن الآن نعيش لحظات عصيبة على الجماهير الإسبانية، تلك اللحظة التي تظهر فيها الحقيقة جلية أمام عينيك هي الأصعب دائمًا حتى لو ملكت تلك الحقيقة العديد من الشواهد السابقة، لكن المشهد الأخير لظهورها أمام العوام بلا أي شوائب أو غمامات يظل هو الأهم أبدًا. الجماهير الآن تُرثي ذلك الجسد الوهمي الذي حاول الأغلبية تصديره طوال الموسم، وهو واقعية فالفيردي التي تقود الفريق نحو الانتصارات مهما كان الأداء سواء من الخصم أو من الفريق نفسه، فميسي جزءًا لا يتجزء من الفريق والاعتماد عليه ليس نقصًا في الفريق في نظرهم، لكن ماذا الآن؟

الفريق يواجه الآن نهاية حتمية لكل ما بدأه ذلك الموسم، الخروج بهذه الطريقة يحيي آراء كانت تعاني من الصمت المميت طوال سنوات طويلة، تحديدًا من ذلك العام الذي تمكن فيه الإسبان من كتابة التاريخ بالصعود القيصري على باريس سان جيرمان. تلك الريمونتادا التي قادها الشاب «روبيرتو» وحُملت على أكتاف «إنييستا» و«ميسي» وأشياء أخرى، كانت منقذة في عامل واحد فقط وهو الصعود لكنها قاتلة في عدة أصعدة أخرى، أهمها أنها لم تفتح الباب أمام العديد من الإصلاحات التي كانت يجب أن تبدأ من نوافذ الانتقالات التي لا يوجد شك ولو بنسبة 1% أنها تدار بشكلٍ غير منضبط في الجانب الكتالوني وإدارته.

من يعتقد أن فريقًا بذلك الحجم يحتاج للدفاع 85 دقيقة كاملة قبل أن يكتشف فجأة أنه على مشارف الخروج المبكر من بطولة هي الأهم له في هذا الموسم؟ ماذا كان يدور في عقل مدربه حينما قرر الارتكان الدفاعي عوضًا عن الخروج وتسجيل هدف واحد فقط يقضي على أي آمال للخصم؟ الحقيقة أن الإجابة واحدة من البداية وهو «لا شيء». المنتظر الآن أن تحيي تلك الـ«ريمونتادا» الإيطالية ما قد أماتته نظيرتها ضد الفرنسيين، عسى يتم إنقاذ ما يمكن إنقاذه مستقبلًا.