17 يناير 2018

رجل أتم الثلاثين يجلس أمام مكتب مزدحم بالأوراق في انتظاره ليعيد إرسالها إلى آخرين بعد توقيعه، يقضي ساعة عمله الأولى كما هي عادته في تصفح مواقع الإنترنت، يبدأ الأمر بالمواقع الرياضية التي تتشارك في إبراز ذات الخبر بصياغة مختلفة، وكان الخبر الأبرز ذلك اليوم هو اعتزال «رونالدينيو» كرة القدم أمس.

«رونالدينيو»، البرازيلي المبتسم دومًا لاعب برشلونة الإسباني الأهم حتى ظهور «ليونيل ميسي»، لطالما تحاشي الرجل كل ما يخص «رونالدينيو»، فالانتماء رياضيًا لفريق العاصمة الإسبانية كان يحتم عليه ذلك.

يفتح الرجل موقع يوتيوب ويكتب في خانة البحث «رونالدينيو»، فيتذكر رغمًا عنه أثناء كتابة حروف اسم البرازيلي كيف كان المشهد الذي قرر حينها أن يتحاشى دومًا مشاهدة «رونالدينيو» حتى لا يقع فريسة له، وهو لاعب الخصم الأبدي لفريقه.


9 مارس 2005

يطرق الباب شاب في السابعة عشرة من عمره مرتديًا قميص ريال مدريد فقط، دون أن يرتدي فوقه ما يحميه من لسعة الهواء البارد، ينتظر أن يفتح له واحد من عشرة أصدقاء في انتظاره لمشاهدة مباراة فريقهم اليوم، فاليوم «ريال مدريد» يقابل «يوفنتوس» الإيطالي في البطولة الأوروبية، وفي حالة الفوز فالفرحة ستكون مضاعفة، فالغريم التقليدي قد خسر أمس.

يدور الحديث كما هي العادة عن كرة القدم، وينتقل الحديث لريال مدريد بالأخص. هل يبدأ «لويس فيجو» المباراة، «راؤول» برفقة «رونالدو» أم «مايكل أوين» بديلًا عنه. ثم ينتقل الحديث بالضرورة عن مباراة أمس، يتطوع صاحب البيت بدعوة الجميع لمشاهدة ملخص مباراة الأمس.

يحتل حارس برشلونة «فيكتور فالديز» محور الحديث أثناء المشاهدة، فالرجل أهدى الإنجليز الفوز في رأي البعض ثم يحرز رونالدينهو هدف فريقه الثاني ليصمت الجميع. كانت إعادة الهدف من زاوية خلف البرازيلي صادمة للجميع، رونالدينهو لم يلمس الكرة، كان يرقص من خلفها بينما قرر «كارفاليو» أن يقف في سكون ربما إعجابًا حتى تكتمل الرقصة.

تحدث الجميع عن بغضهم للبرازيلي عديم الفائدة، ذكر أحدهم أن لاعبي الفري ستايل يستطيعون الرقص بالكرة أيضًا، هناك مقاطع فيديو لشاب يأكل وجبة كاملة دون أن تسقط الكرة من فوق قدمه، إلا أن الكرة ليست كذلك، الكرة تحتاج لتفهم خططي وسرعة ارتداد وتبادل أدوار، وتجاهل الجميع أن «ريال مدريد» حينئذ كان يلعب وفي حوزته رونالدو وفيجو وراؤول وزيدان دون تفاهم خططي ولا تبادل أدوار.

يضغط أقربهم للحاسوب على زر الإغلاق، ويفتح الملف الخاص بالموسيقى، ويقرر أن يختار أغنية بطريقة عشوائية ليصدح الشيخ أحمد التوني بعد افتتاحية موسيقية قصيرة «نادييييت يعني ندهت»، ليضحك الجميع.


«جاوتشو» هو كرة القدم

ثلاثة عشر عامًا قرر فيها الرجل الثلاثيني أن يحرم نفسه من متعة رونالدينيو، كل ثانية من مقاطع «جاوتشو» التي عجّت بها مواقع التواصل كانت تحمل متعة لا يضاهيها شيء، وندمًا لمشجعي الفرق الأخرى على انتماء زائف.

«رونالدينيو» ببساطة هو كرة القدم، البشري الذي تمثلت فيه غاية الساحرة المستديرة، تسلية الجميع، كل من يلعب كرة القدم هو أسير الشهرة والمال إلا «رونالدينيو جاوتشو». فقط وحده يبحث عن المتعة ويقدمها للجميع، تضحك الكرة مشرقة في الهواء فيضحك بدوره وهو يلتقطها، يغازلها ويراقصها ويودعها الشباك، ثم يركض فرحًا مشيرًا إلى السماء.

السماء التي بعثت «رونالدينيو» إلى هؤلاء الذين يحتقرون الكرة، الذين يرون فيها سحرًا خبيثًا يلهي الفقراء عن رؤية التناقضات الاجتماعية، يشفق الرجل على هؤلاء الآن أكثر من شفقته على ثلاثة عشر عامًا دون «رونالدينيو».

«رونالدينيو» الذي ذاق الفقر صغيرًا يضحك على هؤلاء، فالفقر هو الذي أكسبه جسدًا يفتدي به الجميع، حركات يبدعها ولا يحاكيها، انتظر «رونالدينيو» ثانية ولن تجده، سيهرب بعيدًا عنك بحركة بهلوانية فريدة، انقض على «رونالدينيو» ولن تجده، ستجد نفسك تفترش العشب ولن يأبه بك أحد، فكل العيون تتعلق بالبرازيلي في انتظار اكتمال الرقصة التي كنت جزءًا منها دون أن تدري تمامًا كما يستخدم الساحر أحد الجماهير لتنفيذ حيلة ما في السيرك.

في السيرك، هل رأيت الساحر يخرج الأرنب من قبعته فاندهشت، تعال لمشاهدة الساحر البرازيلي يخرج نفسه من جوقة منافسين وبحوزته الكرة مبتسمًا، يجب أن يجلس أحدهم ليصيح بتلك العبارة في مكبر الصوت قبل مشاهدة مباراة لـ«رونالدينيو» تمامًا مثلما يفعل صاحب السيرك قبل بدء العرض في الموالد الشعبية.

في الموالد الشعبية، هل رأيت هؤلاء الذين ينسلخون من المشهد كله ويتراقصون على أنغام موسيقى صوفية دون أن يشعروا، هكذا يفعل «رونالدينيو»، يتلاشى كل شيء من حوله وهو يستغرق في رقصته وحيدًا مع الكرة، يتفادى الجميع بمراوغاته الخاصة حتى لا ينكسر إيقاع اللحن من حوله، اللحن الذي ينبعث من داخله فقط ولا يسمعه أحد غيره.

استفاق الرجل مرة أخرى فتذكر واجبات عمله والأوراق التي يزدحم بها مكتبه منتظرة الوصول إلى مريديها. فقرر أن يشاهد آخر هدف في الفيديو الذي أراد أن يستعيد به ما فاته. هدفًا يعرفه جيدًا، فبمجرد أن مرر «إنييستا» الكرة لـ«رونالدينيو»، وقف الرجل وبدأ يميل يمينًا ويسارًا تمامًا مثلما فعل «رونالدينيو» أمام «كارفاليو»، ثبت إحدى يديه على الحاسوب ليعيد لقطة الهدف واستمر في التمايل يمينًا ويسارًا، كان يرقص مع «رونالدينيو» ليعوض ثلاثة عشر عامًا. كانا يرقصان سويًا على أنغام الشيخ «أحمد التوني» ليتصالح مع كل ما تحاشاه لأنه لم يبذل مجهودًا لفهمه.