في معركة وترلو، حيث انتصرت إنجلترا على فرنسا، علم ناثان روتشيلد بذلك الخبر قبل الصحافة ببضع ساعات بفضل شبكة الاتصالات بينه وبين المقيمين في فرنسا. قام ناثان بجمع كافة الأوراق التي تثبت ملكيته للعقارات، والسندات التي اشتراها من البورصة، ووقف أمام بورصة لندن مبكرًا، قبل حتى أن تفتح أبوابها. وعرض كل ما يملك للبيع بأي سعر شريطة أن يتقاضى ماله بأسرع وقت.

ظن الجميع أن الرجل قد علم بخسارة إنجلترا للحرب، ففعلوا مثله. انهارت البورصة بشكل كبير، وتلّقف بعض المشترين المجهولين هذه الأسهم المتساقطة. بعد ساعات قليلة وصلت الأنباء الرسمية بانتصار إنجلترا في الحرب. فلامست الأسهم السماء مرة أخرى، فقام المشترون ببيع ما اشتروه لاحقًا بأضعاف الثمن. ليكتشف الجميع في النهاية أن ناثان خدعهم، وأن المشترين المجهولين ما هم إلا عملاء له. فاكتسب الرجل في لحظة واحدة ثروة طائلة.

ناثان ليس إلا فرعًا ضمن عائلة ضخمة. وأسلوبه هو أسلوبهم. تمتلك تلك العائلة منفردةً نصف ثروة العالم كله، بقيمة إجمالية 500 تريليون دولار. بالطبع مع هذا القدر الهائل من المال يأتي قدر هائل من النفوذ والتحكم في العديد من المفاصل الحيوية في دول العالم. عائلة روتشيلد عبر نفوذها في المؤسسات المالية والحكومية العالمية كان لها دور بارز، ومُعترف به رسميًا، في إقامة دولة إسرائيل. ويمكن اعتبارهم الممول الرئيسي، ومن أبرز المُخططين، لجمع يهود العالم في أرض فلسطين.

العائلة بذرتها الأولى كان إسحاق إلشانان. لا يوجد في اسم الرجل أي إشارة للقب روتشيلد. فاللقب يعني الدرع الأحمر، إشارة إلى الدرع المميزة التي زيّنت قصر كانان في فرانكفورت في القرن السادس عشر. بدأت قصة العائلة عام 1821، إذ قام روتشيلد المعروف بصفته تاجرًا للعملات القديمة بالاجتماع مع أبنائه الخمسة. قرر الرجل أن يسافر كل واحد منهم إلى دولة من الدول العظمى آنذاك، يذهب جيمز إلى فرنسا، وأتسليم يسافر إلى ألمانيا، والنمسا وقعت في نصيب سالمون، وإنجلترا لناثان، أما إيطاليا فمن نصيب كارل.

الاستثمار في الأساسيات فقط

كان ثراء الأبناء عبر تجارة الأب كافيًا ليحققوا بداية جيدة حيث أقاموا. كما اتفقوا على الزواج من يهوديات بشكل أساسي، وأن يكن ثريّات كذلك كي يدعمن بأموالهن العائلات الجديدة. بينما يحق لبنات العائلة أن يتزوجن من غير اليهود طالما كانوا رجالًا أثرياء، من منطلق أن معظم الثروات تنتقل للرجال فتظل العائلة بإجمالها ثرية.

 حقق الأبناء في سنواتهم الأولى درجة عالية من الترابط والتواصل السريع لنقل الأخبار والخبرات. واتجهوا إلى إنشاء مؤسسات مالية تُعنى بالإقراض ذي الفائدة، والعمل في مجال المال المضمون بعيدًا عن المشاريع ذات طبيعة المجازفات العالية.

فركزوا في بداية وجودهم على ساحة الأعمال في مجال سكك الحديد. فأقاموا عديدًا من السكك في كافة أنحاء أوروبا. وكانت مصر من الدول التي اقترضت منهم لإنشاء السكك الحديدية. ثم وجهوا نظرهم إلى مصانع السفن، فمصانع الأسلحة وتجارتها. كما ركزوا على صناعة الأدوية لاحقًا. وكانت شركة الهند الشرقية، وشركة الهند الغربية، من الشركات التي للعائلة فيها نفوذ كبير. وكما هو مشهور فإن تلك الشركة كانت ذراعًا استعمارية قوية.

بحلول القرن السابع عشر كانت العائلة قد امتلكت أكبر ثروة خاصة في العالم، وبعد بضعة مليارات إضافية صارت العائلة أكثر عائلة امتلكت ثروة في تاريخ العالم الحديث كاملًا.

بالطبع كان زبائنهم الأساسيون هم اليهود، وكانوا لا يترددون في دعم أي مشروع يصب في مصلحة يهود العالم. فكانوا مثلًا في حروب نابليون ضد النمسا وإنجلترا يلعبون على كافة الحبال. ففرع العائلة في فرنسا دعم نابليون، بينما فرعاها في النمسا وإنجلترا وقفا ضده بدعم الدول المضيفة لهما، وبذلك ازداد ثراء الأطراف الثلاثة على حساب استمرار الحرب وعشرات الآلاف من القتل. وكانت تلك هي اللحظة التي اكتسب فيها آل روتشيلد في الأدبيّات العالمية لقب تجار الحرب.

كما أشيعت حولهم أخبار أنهم كانوا يقتلون كل من يجدون منه معارضة لنفوذهم المالي المرعب. فأصابع الاتهام تشير إليهم في مقتل ستة من رؤساء الولايات المتحدة، مثل إبراهام لينكون، وجون كنيدي. كما تحوم الشبهات حولهم في قتل عديد من أصحاب البنوك المنافسة، وأعضاء الكونجرس الذي كانوا يريدون استجوابهم.

استصدار وعد بلفور

يمكن تلخيص نفوذ العائلة عبر الإشارة إلى أن ليونيل والتر روتشيلد قد وصله خطاب من آرثر بلفور، صاحب وعد بلفور الشهير، بتاريخ الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 1917. أخبره بلفور في ذلك الخطاب بنيّة بريطانيا تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين. وأن بريطانيا سوف تبذل كافة جهودها لإتمام هذا الوعد. وطلب منه بلفور إحاطة كافة الهيئات الصهيونية العالمية، وفروع عائلته، بهذا الخبر. كان الخطاب بمثابة مكافأة لعائلة روتشيلد على دعمها للحكومة البريطانية، لدرجة توفير سيولة نقدية أكثر من مرة لبنك إنجلترا كي يتجنب أزمة انهيار ضخمة.

كانت فكرة الوطن القومي لليهود تداعب خيال اللورد روتشيلد، لكن لم يكترث كثيرًا بها. حتى تزايدت هجرات اليهود من مختلف دول العالم إلى الدول الأوروبية. وكانت تلك المجموعات تعاني مشاكل في الاندماج مع الثقافة الغربية، ولمعرفة الجميع أن روتشيلد يدعم اليهود أيًا كانوا فقد كان هؤلاء الوافدون عبئًا سياسيًا على الرجل، فأعاد عبر علاقاته وتابعيه في المجالس النيابية بإثارة الفكرة مرة أخرى.

وليس مستغربًا كيف لرجل أن يقنع العالم بفكرة يريديها. فروتشيلد يمتلكون معظم البنوك العالمية الكبرى، كذلك تتبعهم محطة «سي إن إن» الشهيرة. كما أن العائلة تتحكم في غالبية الأقمار الصناعية التي تبث عبرها منصات المشاهدات الأفلام والمسلسلات العالمية. فيمكن القول باختزال إن العائلة تتحكم في هوليوود، موطن السينما العالمية، بطرق مباشرة وغير مباشرة.

كذلك كانت تلك العائلة مشاركة في استقلال البرازيل عن البرتغال. فقد وافقت البرتغال على استقلال البرازيل عنها مقابل مليوني جنيه إسترليني تدفعهم البرازيل للحكومة البرتغالية. كان ناثان روتشيلد مساهمًا بمبلغ مليون جنيه إسترليني من هذا المبلغ الضخم آنذاك. كما ساندت العائلة اليابان في الحروب الروسية اليابانية، ومنحتهم ما يقارب 12 مليون جنيه إسترليني وقتها، ما يعادل في وقتنا الحالي قرابة 3 مليارات جنيه إسترليني.

القمة لم تأت بعد

ثراء العائلة ونفوذها وتدخلها في الخبايا السياسية لعديد من الدول، جعلها محط عديد من الإشاعات. بعض تلك الإشاعات يتأكد لاحقًا عبر اعتراف رسمي، أو تسريب ما، أما بعضها الآخر فيظل محض إشاعة. بالطبع لا تتجاهله العائلة بل تربطه مباشرة بنظرية المؤامرة، وتصم المتحدثين به أنهم من أتباع تلك النظريات.

فقد أقامت العائلة معرضًا خاصًا في فيينا لإيضاح كافة الإشاعات التي تحدث عنها عام 2022. خصوصًا أن الإشاعات قالت عن تورطهم في جائحة كوفيد التي عصفت بالعالم في الأعوام الماضية. حين كشفت عديد من الرسائل التي تداولها رواد مواقع التواصل الاجتماعي عن تقديم رجل يُدعى ريتشارد روتشيلد لبراءة اختراع لفحص كوفيد عام 2015. تلك البراءة كانت موجودة بالفعل، وأثبتت المتحدثة باسم العائلة وجودها وعلاقتها بتحليل بيانات حيوية. لكنها أكدت أن فحص الكوفيد قد أُضيف لها في سبتمبر/ أيلول 2020.

لكن بالطبع فإن العائلة لا تنفي ذلك بنفسها، ولا تظهر للعلن كثيرًا. ما يضيف مزيدًا من الغموض حولهم، ويعطي مساحة أكثر لانتشار الإشاعات عنهم. إلى حد إثارة جدل حول نسبة زوجة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بريجيت، إلى عائلة روتشيلد. وأن انحدارها من تلك العائلة الثرية هو السبب في وصول ماكرون من مجرد موظف إلى مدير عام في أحد بنوك روتشيلد، ثم وزارة الاقتصاد فرئاسة الجمهورية الفرنسية.

ولا يبدو أن تلك الإشاعات ستأتي إلى نهاية، فنفوذ العائلة المالي يزداد يومًا بعد الآخر. وتربّحها من كافة السيناريوهات السياسية والحربية والاقتصادية يضيف مزيدًا من الشكوك حول طريقة عمل العائلة. حتيمة التاريخ تقول إن العائلة قد تتضاءل ثروتها بعد وصولها لذروتها مجدها، لكن رغم تلك الشكوك ستبقى العائلة في منحناها الصاعد نحو تلك القمة، فلا يبدو أن العائلة قد وصلت لذروة مجدها بعد.