يعيد التاريخ نفسه في بريطانيا، حيث ترفض العائلة الملكية تقبل زوجة الأمير الأصغر هاري، حيث لم تكن المرة الأولى التي يحدث فيها شيءٌ مماثل، ولنفس الأسباب؛ أنها أمريكية مُطلقَّة وتكبره في السن، مما يُذكّرنا بنفس الأزمة التي عانى منها عم الملكة إليزابيث، ولكنه لم يكن مجرد أمير جانبي بلا أهمية فعلية (مثل هاري)، بل كان ملكًا لبريطانيا، لكنه لم يكن ليقبل تحكمات العائلة، فوقعت بريطانيا في أزمة كبيرة، انتهت بمفاجأة هي الأولى من نوعها في تاريخ المملكة، أوقعت الجميع في صدمة خانقة.

بدأت الأزمة الحالية في 19 مايو/أيار عام 2018، حينما تزوج أشهر عازب في بريطانيا الأمير هاري، الشقيق الأصغر للأمير «وليام» ملك بريطانيا المستقبلي، وابن الأمير تشارلز (ولي العهد) والأميرة ديانا معشوقة الجماهير، وحفيد الملكة إليزابيث الثانية، صاحبة أطول فترة حكم في إنجلترا، وأشهر ملكات العالم.

كان حفل الزفاف مهيبًا، بل كان احتفالية كبيرة. عقد الأمير هاري قرانه على الممثلة الأمريكية «ميجان ماركل»، الذي يعد زواجها الثاني، بعد انفصالها في 2013. انتهى الحفل لتبدأ معه حياة الزوجين السعيدة، لكن ما تلا ذلك من مشكلات وهروب أعاد للأذهان مصير جده الأكبر الملك «إدوارد الثامن»، الذي اضطر للتنازل عن عرشه في مقابل حماية زوجته التي رفضتها عائلته. فما هي قصة إدوارد الثامن؟

الأمير المتمرد

بدأت حياة الأمير إدوارد، المعروف داخل العائلة بلقب ديفيد، بتمرد علني على العائلة الملكية، يرى بعض المؤرخين أن السبب في ذلك هو كرهه للملكية، ورفضه أن يكون أميرًا في ذلك العصر ليعيش حياة مُقيدة تحت تحكم أب وأم قويان، هما الملك «جورج الخامس» والملكة «ماري»، حيث كانت العائلة الملكية وما زالت تضع مصلحة العرش وصورة الملك أو الملكة فوق كل اعتبار، حتى لو كان على حساب حياتهم الخاصة أو حريتهم.

لكن الأمير إدوارد لم يكن مُطيعًا وقنوعًا، بل رفع راية التمرد مبكرًا، منذ سن الـ 16 عندما تم تقليده منصب أمير ويلز، كما جرت العادة لولي عهد، في حفل مهيب واحتفال تاريخي، ظهر فيه إدوارد عابسًا غاضبًا، كأنه لم يُرِد أن يتم التنصيب، وأراد أن يهرب بعيدًا. [1]

ثم كانت الصدمة، فقد حلت الحرب العالمية الأولى عام 1914، فأصرّ ولي عهد بريطانيا العظمى وإيرلندا وإمبراطور الهند المستقبلي على الذهاب إلى ساحة المعركة، ماذا لو قُتِل؟ ماذا لو وقع في الأسر؟ ماذا تفعل بريطانيا حينئذ؟

دخل حينها في صدام شديد مع والده الملك، ورغم تهديد ووعيد، انضم للحرب ولكنه لم يشارك في القتال فعليًا بأمرٍ من وزير الدفاع، وكان يزور الجنود في ساحة القتال باستمرار، حتى أن أحد الجنود كان يكتب لعائلته فخورًا أن الأمير إدوارد يقاتل معهم. [2]

وبحلول العشرينيات، وصلت شهرة الأمير أوجها، وتابعته الكاميرات في كل مكان، حتى أصبح الرجل الأكثر تصويرًا في العالم [3]، ومع الوقت أصبح رمزًا للموضة وملابس الرجال… أيقونة تشبه الأمير هاري حاليًا.

العشق الممنوع

في عام 1936، تُوفي الملك جورج الخامس وخلفه ابنه الأكبر إدوارد، ومعه بدأت المخاوف. إدوارد كان قد وقع في حب سيدة أمريكية متزوجة منذ 1931 تُدعى «واليس سيمبسون»، ودخل معها في علاقة مستمرة، وتزامنًا مع صعوده على العرش، كانت قد بدأت إجراءات الطلاق للمرة للثانية، فيما أعلن الملك إدوارد رغبته صراحةً في الزواج منها، وهنا كانت المواجهة الحقيقية.

بالطبع رفضت العائلة ورفض رئيس الوزراء تشرشل ورفضت الكنيسة، حيث إن رئيس أساقفة «كانتربيري»، أكبر منصب كنسي في إنجلترا، لن يوافق أبدًا على تزويج الملك من امرأة مطلقة مرتين، حيث كانت الكنيسة وقتها ترفض الطلاق وإعادة الزواج، وكان الأسقف عنيفًا في رفضه [4]، بالأخص أن الملك يحمل لقب رئيس الكنيسة الإنجليزية. ثم بدأت بعض المقترحات، مثل أن يتزوجها ولا تحمل أية ألقاب ملكية، ولا يُعامل أطفالهم كأمراء ولا يمكنهم شغل منصب الملك، لكن تم الرفض أيضًا، ولم تشارك العائلة حماس إدوارد، ولم يكن العامة ليقبلوا ذلك أبدًا.

كانت العلاقة قد استمرت لسنوات، لكن العامة في إنجلترا لم يعلموا عنها شيئًا، فقد اتفقت الحكومة مع الصحافة الإنجليزية بتلك الفترة على إبقاء الأمر سرًا، وكانت وسائل الإعلام مقتصرة فقط على الجرائد والراديو، فكان من السهل السيطرة عليها، بالرغم من أن الصحافة العالمية قد اهتمت بالأمر ونشرته، وبالأخص في فرنسا، لكن في إنجلترا، كأن الأمر لم يكن [5]، لكن إذا تزوجها الملك، فلا مفر من انتشار الحقيقة، مما قد يضر بالعائلة الملكية ويُهدد وجود الملكية ذاتها، خاصةً في وقت صعود أعداء البلاد من حولهم، هتلر في ألمانيا وموسوليني في إيطاليا، وستالين في الاتحاد السوفييتي، والحرب العالمية على الأبواب.

حتى الحكومة رأت في وجود الملك إدوارد تهديدًا، فكان يُوصف بأنه مُهمِل ولا يهتم بشئون المملكة من الأساس، حيث كان يترك وثائق سرية ومراسلات من الحكومة مكشوفة، كل منْ كان يزور قصره كان يرى تلك الوثائق، ثم كان تأثير عشيقته لـ «واليس»، حيث غضبت الحكومة من ثقته الهائلة بها وسيطرتها عليه، ومشاركتها في الاطلاع على معلومات حساسة مع الملك [6]، وكان من الواضح أن الحكومة ستقوم بالاستقالة حال زواجه منها، مما سيُسبِّب أزمة دستورية بسبب تدخل الملك في السياسة [7]، وسيؤدي إلى انتخابات جديدة.

أول ملك يتنازل عن العرش بإرادته

لم يكن أمام الملك إدوارد إلا حل واحد قام به أيضًا الأمير هاري، ليحقق نبوءة والده حينما قال: «هذا الولد سيدمر نفسه على العرش خلال 12 شهرًا» [8]. ففي نفس العام، 1936، أي بعد 326 يومًا تقريبًا على العرش، قرر إدوارد الابتعاد وترك المُلك من أجل حبيبته. وفي 11 ديسمبر/كانون الأول أرسل رئيس الوزراء إلى البرلمان، ليبلغهم برغبة الملك بالتنازل عن عرشه، وأذاع بيان التنحي في الراديو، ما سبّب صدمة كبيرة لأسباب مختلفة، كونه أول ملك في تاريخ بريطانيا يفعل ذلك.

تزوج بعدها بالفعل من حبيبته «واليس»، دون حضور أي أفراد من عائلته، ورفضت الكنيسة الإنجليزية مباركة الزواج أو المشاركة فيه، وأصبح شقيقه جورج السادس والد الملكة إليزابيث ملكًا على بريطانيا، لكن حياة إدوارد لم تتحسن كثيرًا، بل فقد كل أملاكه وألقابه، وتحول من ملك إلى مجرد دوق شرفي، وتم نفيه من إنجلترا ومنعه من دخول البلاد إلا بإذن مسبق من الملك، على أن يتم تخصيص معاش سنوي يعيش به في منفاه بفرنسا، كذلك تم منعه العمل في القطاع الخاص بسبب تضارب المصالح مع العائلة الملكية، وتم إعطاؤه لقب الذات الملكية لمنعه من أي مسيرة سياسية ـو الترشح في انتخابات [9]، رغم اعتراض الحكومة لأنه تنازل بالفعل عن ألقابه مع التنحي.

ومع حلول الحرب العالمية، حاول إدوارد منح هتلر تأييدًا علنيًا، ربما فقط ليكيد عائلته [10]، ثم تم تعيينه حاكمًا لجزر البهامز لإبعاده عن النازيين، وعندما رفض، هدّده تشرشل بالمحاكمة العسكرية [11]، ثم عاد إلى فرنسا بعد الحرب، وزار إنجلترا لأول مرة بعد تنحيه، وتم استقباله بحفاوة من الصحافيين والعامة، مما أثار حفيظة العائلة وزاد خوفهم منه، حيث إن وجود ملكين بنفس الوقت يمكن أن يُسبِّب أزمات، وقد تقوم فتنة في البلاد، خاصةً وأن كليهما محبوب وله مؤيدون، فعاد إلى منفاه مجددًا وتم رفض طلبه بالحصول على وظيفه حكومية أو أي وظيفة بشكل عام.

بعدها، زار إدوارد إنجلترا مرات محدودة، أغلبها لحضور جنازات أقربائه، منها لحضور جنازة شقيقه الأصغر الملك جورج السادس في 1952، لكنه لم يحضر حفل تنصيب الملكة إليزابيث، ثم زار تشرشل عام 1953، وأعرب في الصحافة عن استعداده للعمل مع الحكومة من جديد، لكن تم تجاهله بالطبع، وعاد ليعيش حياته الفارغة.

عاش معظم حياته في حزن ووحدة، منبوذًا من عائلته، وقام بتأليف بعض الكتب، بجانب رعاية حديقته، بينما كتبت زوجته مقالات في بعض المجلات الفرنسية، وفي إحدى المرات كتبت:

لمدة 24 عامًا، يعاقبون زوجي كأنه طفل صغير، يتم توبيخه كل يوم في حياته من أجل خطأ صغير.

توفي إدوارد في 28 مايو/أيار عام 1972، عن عمر ناهز 78 عامًا، عاش معظمها منبوذًا في منفاه، عدا زيارة واحدة من الملكة إليزابيث، لمدة 10 أيام قبل وفاته، لتكون الأولى من نوعها والأخيرة.

لكن نفس المصير اليوم يواجه الأمير الشاب هاري وزوجته ميجان، وبعد ما يزيد عن 80 عامًا، لم تتعلم العائلة الملكية وما زالوا مصممين على تكرار نفس الأخطاء، ومنهم الملكة التي شهدت الأحداث بنفسها ونفي عمها، الذي لولا تنحيه ما كانت لتصبح ملكة أبدًا، حتى هي نفسها عانت من ذلك عندما رفضت العائلة أيضًا زوجها الأمير فيليب، لولا علاقتها القوية مع والدها، ما كانت لتتزوج من حبيبها، وتم تكرار نفس الأمر مع ابنها الأمير تشارلز، ومنعه من الزواج من حبيبته وإجباره على الأميرة ديانا، لكن ما لبث أن انتهى الزواج بفضيحة أخرى، انتهت بعودة تشارلز لعشيقته الأولى والزواج منها.

المراجع
  1. Brenda Ralph Lewis, A Dark History: The Kings and Queens of England (2003), p 367-368.
  2. Broad, Lewis (1961), The Abdication: Twenty-five Years After. A Re-appraisal, London: Frederick Muller Ltd, pp. 4–5.
  3. Pearce, Robert; Graham, Goodland (2013), British Prime Ministers from Balfour to Brown, Routledge, p. 80.
  4. Broad, pp. 44–47; Windsor, pp. 314–315, 351–353; Philip Ziegler, King Edward VIII: The Official Biography (1990), pp. 294–296, 307–308.
  5. Philip Ziegler, King Edward VIII: The Official Biography (1990), pp. 273–274.
  6. Beaverbrook, Lord (1966), Taylor, A. J. P. (ed.), the Abdication of King Edward VIII, London: Hamish Hamilton, p. 57.
  7. Middlemas, Keith; Barnes, John (1969), Baldwin: A Biography, London: Weidenfeld and Nicolson, p. 976.
  8. Clive Wigram’s conversation with Sir Claud Schuster, Clerk to the Crown and Permanent Secretary to the Lord Chancellor quoted in Bradford, p. 201.
  9. Clive Wigram’s conversation with Sir Claud Schuster, Clerk to the Crown and Permanent Secretary to the Lord Chancellor quoted in Bradford, p. 201.
  10. Frances Donaldson, Edward VIII (1974), pp. 331–332.
  11. Michael Bloch, The reign & abdication of Edward VIII (1990), p. 93.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.